فصل1: مسرحية الرقص الدموية

74 4 3
                                    


[لا بأس إن كان الماضي مؤلما..سأعيش اللحظة فقط]
---------------------------------------------------

بداية فصل جديد و سنة جديدة...
فصل الشتاء الذي يحوي ذكرى الطفولة الوحيدة..
حين كانت تعيش في ذاك الزقاق المظلم بعد أن هربت من الميتم الذي كان جحيما بالنسبة لها بسبب التنمر على ملامحها الآسيوية وعيناها الرمادية .. كان أمرا صعبا لطفلة ذات عشر سنوات أن تتحمل مثل هذا الجحيم فخرجت منه لتنقذ نفسها قبل الغرق فيه!..



قبل عشر سنوات:
هطل أول ثلج في منتصف الليل آخر أيام ديسمبر كانت مدينة ميلانو تشع بأنوار المباني وتصج الآذان بكثرة الناس الصاخبين في الشوارع.. أصوات الضحك والغناء، الأحاديث المثيرة والسعيدة بينهم، الرقص برشاقة.. كان الناس مستمتعين بالمنظر إلا تلك الطفلة الوحيدة الحافية في هذا البرد القارس ترتجف وتشتم سعادة الآخرين المزيفة..
تضم جسدها تفاديا الموت من البرد..
لا تسمع سوى صوت أنينها وسط هذا الإزعاج..
آثار دموعها على وجنتيها الحمراء وسط بشرتها البيضاء الشاحبة..
تختبئ من الناس المرعبين في أعماق زقاق ضيق حيث لا أحد يلقي لها بالًا..
سواءًا ماتت أو عاشت فلا أحد في هذا العالم الواسع يعلم بشأنها...
تحاول تدفئة نفسها بالجلوس وسط أكوام القمامة وهي تتمنى الموت في هذا العمر الصغير!
حتى أتى ذلك الرجل الوسيم كنور شمس دافئ يحتويها بشعره الأبيض المنسدل على أكتافه، يرتدي أجود الملابس وأدفأها وهو يدخن سيجار الكوبي.. يقترب منها ببطء وخطوات واسعة بحذائه الأسود الرسمي مصنوع من جلد الغزال الأسود النادر حتى تبقى بينها وبينه ثلاثة أمتار.. رمى سيجاره بعد نفخ الدخان في الهواء ودعسه بقدمه ليطفئه، ثم مدّ يده أمامًا لتأتي إليه ويخلصها من هذا العذاب، ركضت تلقائيا وبلا وعي نحوه بقدمها الصغيرة المتسخة المحمرة بسبب البرد وعانقته بكل قوتها المتبقية دون التحدث بكلمة
كأن جسدها يشتكي من معاناة وحدتها وحزنها وضعفها!
مسح على ظهرها بكل حنان حتى أرخت قواها قليلا ثم حملها عاليا وقال: أخيرا أصبحتِ بين يدي، يا جروتي.
_________________________
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
إنها الآن في عمر السابعة عشر، حيث جعلت يوم ميلادها آخر أيام ديسمبر حين أنقذها ذو الشعر الأبيض الطويل الذي اختفى بعد ذلك اليوم وكأنه شيء من الخيال...
استيقظت بعد يومين من النوم الغير مريح والكوابيس.. نظرت من النافذة بلا شغف للاسيقاظ، فترى الثلج تساقط وأصبح كل شيء ناصع البياض، لا يوجد أحد في الطرق كذلك؛ لذا تحمست للمشي خارجا بعد مدة
ارتدت معطفها الأسود وخرجت قبل الإشراق بصحبة سماعتها الرأسية، واضعة يدها في جيبها تتمشى بكل هدوء وتتأمل الثلج الصافي تحت أقدامها...ثم شيئا فشيئا تظهر أشعة الشمس فيلمع الثلج كالألماس، إلا تلك البقعة التي تلمع بالدم القرمزي وسط الثلج الأبيض!!
تتوقف ساكنة وفي ذهنها آلاف الأسئلة، تحاول إمعان نظرها [هل أنا أحلم أم ماذا؟ لماذا يوجد دماء طازج على الطريق في الصباح الباكر؟! لا يوجد أحد هنا!]
رفعت رأسها تبحث عن مصدر الدم.. نظرت للأمام فترى رجلا يبعد عنها مسافة وقدرها، ممسكا بكتفه الأيمن الذي يقطر هذا الدم ذا اللون الزاهي و يترنح في مشيه كثيرا.. هل قدمه مصابة كذلك؟
كان مظهره من الخلف باللون الأسود بلا استثناء حتى شعره حالك السواد، وملابسه الرسمية السوداء ممزقة ودامية تنتشر منها رائحة فظيعة كأنه خرج لتوه من معركة دموية!
كانت بقع الدم واضحة على وجهه ويديه وعنقه..
والعرق يتصبب من جبينه في هذا الجو البارد!
المنظر مخيف ومثير للريبة وبقوّة..!
لذا وقفت مكانها تتأمله من الخلف دون حراك.. لكن الأمر الأشد غرابة أنها لم تتأثر بمظهره أو رائحته أوحالته...
بل كانت تتعمق في مشاعرها التي تجرها نحوه!
وبشكل غريب تشعر أن جسدها يريد البكاء والركض إليه والتمسك به بقوة!!
وهي تستمر بالتفكير ومحاربة مشاعرها الغريبة قبل محاولة فهمها أنقطع تفكيرها بسبب سقوطه أرضا..!
وقفت مكانها لا تعلم ماذا تفعل في هذا الموقف، فكرت قليلا أتساعده أم تتركه وشأنه أم تتصل بالإسعاف لأجله.. رغم أن المشفى قريب
لكنها لم تفعل أيا من هذا واستدارت قائلة بضجر: لست في مزاج لأقع في المشاكل
وهي تحاول خداع مشاعرها وإقناع نفسها بأنها متعبة لا أكثر ...
مشت خطوتين ثم توقفت بعد سماع صوته من خلفها وهو يضحك بتعال!!
التفتت إليه فوجدته جالسا على بركة دماءه ممسكا بمكان إصابته ووجهه مرفوع للسماء من الضحك ثم قال بعد أن هدأ قليلا: شكرا لك لمنحي فرصة للموت، انتزعي روحي مني يا ملاكي!
هبّت ريح خفيفة منعشة في هذا الصباح الغريب تداعب خصلات شعرهما خارجيا ومشاعرهما داخليا وما زالت إفيلين ساكنة مكانها تحدق فيه باستغراب من كلامه عدة دقائق إلى أن سمعت صوت تنفسه يزداد اضطرابا فمشت نحوه بخطوات واسعة سريعة بعد أن حسمت قرارها، وضعت يده الضخمة الغير مصابة على كتفها وقالت: هل تستطيع المشي قليلا؟
أجاب أوليفر بابتسامة بعد أن تفاجأ بتصرفها: هههه هل تغير رأيك بهذه السرعة يا صغيرة؟
- فقط .. أنا لن أمنحك فرصة للموت
إن أردت ذلك فافعل بعيدا عني
- يالك من شقية، ألا تستطيعين الاستماع إلى طلب رجل يحتضر؟
ردت بتذمر: اصمت وتمسك بي!
سكت أوليفر ونهض متمسكا بها -فلم تكن لديه طاقة ليجادلها- وذهبت به إلى المشفى، كان الاثنان يترنحان في مشيهما فقالت بتذمر مرة أخرى: تبا لك..بالفعل كم تزن عضلاتك؟!
لحسن الحظ يوجد مشفى قريب.
قهقه مستهزئا بنفسه وهو بالكاد يحرك رجليه لكي لا يسقط عليها..
وصلا في غضون خمسة عشر دقيقة من المشي البطيء وأدخلته من باب الطوارئ فأخذوه منها، جلست إفيلين في إحدى مقاعد الانتظار تستعيد أنفاسها ثم استدارت نحو الباب لتخرج لكن فجأة تتشوش رؤيتها وتصغر شيئا فشيئا إلى أن يصبح كل شيء مظلما!
[إنه..شيء غر..يب يحصل..لي].
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
في هذه الأثناء كان أوليفر فاقدا للوعي بسبب فقدان الكثير من الدم لكن إصابته لم تكن بذلك السوء..لذا انتهت عمليته في غضون نصف ساعة حيث تمت إزالة الرصاص وتعقيم الجرح ثم خياطته، والعناية ببعض الجروح السطحية في أنحاء جسده ثم أرسلوه إلى غرفة خاصة وضعو له المحلول الوريدي، كان نائما بسبب التخدير والإرهاق من التاسعة صباحا حتى قبل مغيب الشمس بساعة..
فتح عينيه ببطء وقت دخول الممرضة عليه لتغير المحلول فلاحظت استيقاظه ثم سألته: هل أنت بخير؟ هل تشعر بتوعك في مكان ما؟
أجابها أوليفر بصوت عميق مبحوح: نعم، أنا بخير..هل يمكنني الخروج؟
قالت وهي تغير المحلول: لن تخرج الآن..يجب أن تكمل ثلاث أكياس من هذا، سأضع لك كيس دم كذلك نظرا لما فقدته من الدماء وهذا قد يستغرق أربع ساعات أخرى...
حرك رأسه ببطء وعقد حاجبيه قائلا: آه، هذا وقت طويل!
- المعذرة..
- نعم؟
- هل لي أن أسأل سبب إصابتك؟
صمت أوليفر واكتفى بابتسامة خفيفة ثم أكملت الممرضة: عذرا إن كان سؤالي مزعجا، لكنها المرة الأولى التي أسأل فيها المريض هذا السؤال، رغم أن مدير المستشفى أمر بعدم إثارة هذا الموضوع ونسيانه...
- لماذا سألتيني إذا؟
- لأن..
فقدت الممرضة أعصابها وارتفع صوتها: كيف لك أن تصاب برصاص مسدس وأنت بهذا الهدوء؟!
قاطعها أوليفر بوضع سبابته اليسرى على فمه ثم قال: هل يمكنك إبقاء هذا سرا..أيتها الآنسة؟
اكتفت الممرضة باعتذار بسيط ولم تستطع قول شيء آخر وهمت بالخروج، لكنها توقفت لحظة قائلة: بالمناسبة نسيت أن أخبرك بهذا، هل أحضر حبيبتك إلى هنا؟
تصنم أوليفر و كأن الدم توقف عن التدفق في جسمه .. ثم قال بتردد: حبي..بتي؟
- الفتاة التي أحضرتك إلى هنا..إنها غائبة عن الوعي الآن
صمت أوليفر قليلا يتذكر ما حدث ثم قال: آه نعم...ما بها؟ هل أصابها مكروه؟
- لقد انهارت فجأة فور إدخالك للعملية
- هل كانت قلقة على لهذه الدرجة؟!
- كلا، لقد سمعت أنه سوء تغذية. إنها نائمة الآن في إحدى الغرف العامة
- حسنا.. أحضريها إلى هنا
- أمرك سيدي
أدخلت الممرضة إفيلين وجعلت سريرها بجانب أوليفر ثم خرجت
استلقى أوليفر بعد أن كان جالسا ولف وجهه يمينا باتجاه إفيلين ينظر إليها، كانت كالأموات تماما لا تتحرك وبشرتها شاحبة وتحت عينيها سواد شديد .. وكأنها .. لا تتنفس ..
أثار هذا التفكير قلق أوليفر فنهض واقترب نحوها واضعا إصبعه بالقرب من أنفها ليتحقق من تنفسها، ثم عاد إلى مكانه مطمئن بأنها على قيد الحياة.

  دِماءٌ عَلىٰ الثَّلجِ الأبْيَض| Blood On White Snowحيث تعيش القصص. اكتشف الآن