الفصل الثاني : أولى الأرواح الثلاث

538 23 1
                                    

عندما استيقظ سكروج كان الظلام حالكا ، واستطاع بالكاد أن يرى النافذة وكانت جدران الحجرة مظلمة ، وأنصت ... فسمع صوت جرس الكنيسة يدق الثانية عشرة لكنها كانت الثانية والنصف عندما ذهب إلى السرير ، لابد أن الساعة مخطئة ! ربما قد توقفت ....الثانية عشرة ؟!
قال سكروج :
- لماذا ؟ هذا ليس ممكناً لا يمكن أن أكون قد نمت طوال يوم كامل وإلى هذا الوقت من ليلة أخرى .. لابد أنها الثانية عشرة ظهراً .
ونهض من السرير ، وذهب إلى النافذة وأطل منها .
كل ما استطاع أن يراه أنها ما زالت ملبدة بالضباب وشديدة البرودة ، وليس هناك أثر لصوت إنسان يتحرك في الشوارع كما يجب ان يكون في منتصف النهار .
ذهب سكروج إلى السرير ثانية ، وفكر فيما قد حدث و كان يقول :
- هل كان هذا حلماً ؟
ثم سمع الساعة - دنج - دنج
فقال سكروج :
- الثانية عشر والربع ، ثم سمع ثانية - دنج - دنج ثانية
فقال سكروج :
- الثانية عشر والنصف ؟
ثم ثانية....... - دنج - دنج
فقال سكروج :
- الواحدة إلا ربعا
وتذكر أن الشبح قد أنذره بزيارة عند الساعة الواحدة
دنج - دنج
قال سكروج :
- الساعة الواحدة ولم يحدث شيء
ولكن بمجرد ان قال هذا ملأ نور الغرفة وانسحبت ستائر سريره جانباً ، ونهض جالساً فوجد نفسه وجهاً لوجه مع الزائر غير الأرضي .
كانت روحا لها شكل غريب مثل الطفل .. وليست كأي طفل وإلى حد ما مثل رجل عجوز ، الشعر متدل على عنقها وكانت بيضاء وجهها صغير وترتدي ملابس بيضاء وعلى خصرها حزام براق وتمسك في يدها حزمة من الورود المزهرة ، ويوجد على ردائها نباتات صيفية ، وكان من أغرب الأمور خروج نافورة صافية من النور من فوق رأسها وكانت تمسك بغطاء كبير للرأس تحت ذراعها ، وكأنه كان يستخدم لإخفاء النور في أعلى رأسها أو لإطفائه .
فسأل سكروج :
- مارلي قال أن روحا ستزورني ، هل أنت هي ؟
- نعم
وكان صوتها ناعماً ورقيقا .
فسأل سكروج :
- من أنت ؟ وماذا تريدين ؟
- أنا روح عيد الميلاد الماضي .
فسأل سكروج :
- الماضي البعيد ؟
- لا ماضيك أنت .
لعل سكروج لم يكن يستطيع ان يخبر أحداً عن رغبته برؤية الروح بغطاء رأسها فقال :
- ارتدي غطاء رأسك من فضلك
قالت الروح :
- ماذا ! بهذه السرعة تريدني أن أطفئ النور الذي أعطيه ألا يكفي أن نوازعك الشريرة سئمت هذا الغطاء ولقد أجبرتني طوال سنوات عديدة أن ألبسه على رأسي ...تعال امشي معي
مدت الروح يدها بقوة وأمسكت سكروج من ذراعيه ، وقادته نحو النافذة
قال سكروج :
- إذا خرجت من هنا فسأقع !
فوضعت الروح يدها على قلب سكروج وقالت :
- هذا لن يجعلك تسقط
ونفذا من خلال الحائط ووقفا فوق طريق زراعي مفتوح والحقول حوله من كل جانب ، لم تكن هناك أي علامة للمدينة لقد تلاشى الظلام وانقشع الضباب ، كان نهار شتاء بارد خال من الغيوم والثلوج تغطي الأرض .
نظر سكروج حوله وقال :
- هذا .... هذا هو المكان الذي ولدت فيه ، كنت صبيا هنا
فسألت الروح :
- هل تذكر الطريق ؟
فصاح سكروج :
- أتذكره ..أستطيع أن امشيه وأنا مغمض العينين
قالت الروح :
- من الغريب أنك قد نسيته لسنوات عديدة ، دعنا نستمر ومشيا على طول الطريق ، وكان سكروج يعرف كل باب وكل عامود وكل شجرة ثم ظهرت من بعيد مدينة صغيرة مع جسرها وكنيستها ونهرها المتعرج .
ورأى بعض الصبية يمتطون جيادا في اتجاهه وينادون على صبية آخرين في عرباتهم التي يقودها المزارعون .
وكانوا سعداء جدا ويصيحون على بعضهم البعض ، وكانت الحقول عريضة مفعمة بالحياة والموسيقى المرحة .
قالت الروح :
- إنها مجرد ظلال الأشياء التي كانت إنهم لا يروننا
وتوافد القادمون السعداء وأثنا توافدهم كان سكروج يعرفهم وينادي على كل واحد منهم ، ويسمعهم يقولون:
- عيد ميلاد سعيد
كل منهم للآخر وهم يفترقون وكل يذهب إلى بيته .
قالت الروح :
- المدرسة ليست خالية تماماً ، يوجد طفل واحد هناك ، طفل ليس له أصدقاء ، لقد تركوه هناك عندما غادر الجميع .
قال سكروج :
-نعم أعرف ذلك
وبكى ...
ثم دخلا حارة يذكرها جيداً وجاءا إلى منزل أحمر كبير كان خالياً ، فالرجل الغني الذي قد بناه قد أضاع ماله ، فسقطت البوابات ، وأصبحت الجدران خضراء من العفن ، وكانت النوافذ مكسرة ، ومشيا داخل الصالة الخاوية وعبراها إلى باب في مؤخرة المنزل .
وهناك شاهدا غرفة طويلة فارغة فيها مقاعد ومكاتب وعلى أحدها طفل جالس يقرأ قرب نار صغيرة .
جلس سكروج أمام الطفل وبكى ، فقد كان يرى نفسه المنفي المسكين كما كان في يوم ما ، ورأى داخل هذا الصبي الأشياء التي كان يقرؤها.
فصاح سكروج :
- ياه إنه علي بابا ! علي بابا القديم العزيز !!
نعم أعرف ، ففي ذات عيد ميلاد عندما ترك هذا الطفل وحده هنا جائه علي بابا في كتاب القصص ، آه نعم ...والعملاق في القارورة ، وروبنسون كروز مع خادمه فرايداي يجري على الشاطئ لإنقاذ حياته .
- يا للصبي المسكين
ثم وضع يده في جيبه وقال :
- أووه ، لكن الوقت تأخر الآن
فسألت الروح :
- ما الأمر ؟!
فقال سكروج :
- لا شيء لا شيء ، لكن كان هناك صبي صغير يغني ترنيمة عيد الميلاد عند بابي الليلة الماضية ، تمنيت لو أعطيته شيئاً
لكن الوقت متأخر الآن .
فابتسمت الروح ولوحت بيدها ، وقالت :
- دعنا نرى عيد ميلاد آخر
أصبحت الحجرة أكثر ظلاما ، وكان هو هناك وحده مرة أخرى بينما ذهب الأولاد الآخرون لبيوتهم في إجازاتهم السعيدة ، لم يكن يقرأ الآن بل كان يمشي حزيناً ذهابا وأيابا ، ثم فتح الباب ودخلت فتاة صغيرة ..أصغر من الولد بكثير ووضعت ذراعيها حول عنقه وقبلته ثم قالت :
-أخي العزيز لقد جئت لأعيدك إلى البيت .
فقال الصبي :
- البيت يا فان الصغيرة ؟
قالت الطفلة بسعادة :
- نعم ..البيت دائما ، البيت إلى الأبد ، إن أبي أكثر عطفا مما كان ، لقد تحدث معي ذات ليلة عندما كنت ذاهبة للفراش ، ولم أخشى أن أطلب منه مرة أخرى أن تعود للبيت فقال : ( نعم ) ، ولقد أرسلني في عربة لإحضارك ، سنكون سوياً في عيد الميلاد هذا وسنقضي أسعد وقت في العالم .
قال الصبي :
-يا لك من فتاة يا فان الصغيرة !
فضحكت وحاولت أن تلمس رأسه ، لكنها كانت أقصر من ذلك لذا ضحكت ثانية وبدأت بسحبه بشغف نحو الباب .
قال سكروج :
- عزيزتي فان الصغيرة ، كانت صغيرة للغاية وليست قوية .
قالت الروح :
- صغيرة للغاية ، لكن كان لها قلب كبير ، لقد ماتت عندما أصبحت زوجة صغيرة وأنجبت أطفالا على ما أظن .
قال سكروج :
- طفل واحد
فقالت الروح :
- صحيح ابن أختك
قال سكروج :
- نعم
وتركا المدرسة وأصبحا الآن في شارع مزدحم وسط المدينة وتوقفت الروح عند باب مستودع كبير وقالت :
- هل تعرف هذا المكان ؟
- قال سكروج :
- أعرف ، ياه ، لقد عملت هنا !
فدخلا وكان هناك رجل عجوز يجلس خلف مكتب مرتفع
- إنه فيزويج العجوز ، يااه ... بارك الله قلبه ، إنه فيزويج حيا مرة أخرى !
وضع فيزويج العجوز قلمه ونظر إلى الساعة التي كانت تشير إلى السابعة وفرك يديه ثم ضحك ونادى بصوت مرتفع مريح :
- أنت هناك ، ابن عزير ، وأنت يا ديك
نفس سكروج السابق ، وأصبح الآن شاباً يافعا ، دخل ومعه زميله الكاتب قال سكروج :
- ديك ويلكنز ، يا ربي .. نعم ها هو ! لقد كان صديقاً عزيزاً
ديك المسكين ! عزيزي ...عزيزي
قال فيزويج :
- تعال يا ولدي لا عمل الليلة ، إنها ليلة عيد الميلاد فلنغلق المكتب ونرفع المكاتب والكراسي ونعد العدة من أجل الوليمة .
وسحبوا كل ما يمكن تحريكه إلى أحد الجوانب ، وأعدت المصابيح ، ووضع مزيد من الفحم في المدفأة
وجاء عازف الكمان مع كمانه ودخلت مس فيزويج مع بناتها الثلاث المبتسمات الجميلات ، وجاء من خلفهن ستة شبان يتوددون لهن ثم دخل الشبان والشابات وكل من كان يعمل في المستودع .
وعزف الكمان وبدأ الرقص وكان هناك الحلوى واللحم .
وأخيراً وصل الرقص لنهايته ودقت الساعة الحادية عشر  و انتهت الحفلة ، ووقف مستر ومسز فيزويج بجانب الباب يصافحان كل شخص عند خروجه أو خروجها متمنيان لهم عيد ميلاد سعيد ، وفعلا نفس الشيء مع الموظفين وعندما غادر الجميع ، أوى كل منهما لفراشه، أثناء هذا الوقت كان سكروج ينظر إليهم في حالة من الدهشة كان قلبه وروحه مع نفسه في هذا المشهد فتذكر كل شيء واستمتع بكل شيء
وعندما انتهت الحفلة تذكر الروح ونظر إليها وإذ بها تنظر إليه والنور فوق رأسها يشع بوضوح .
قالت الروح :
- كانت أشياء بسيطة تلك التي جعلت هؤلاء الناس السذج في غاية السعادة والإمتنان
قال سكروج:
-أشياء بسيطة !
فأشارت الروح إليه لينصت للشابين الذين كانا يمدحان السيد فيزويج
وقالت الروح :
- هل كان يستحق كل هذا المدح ؟ لقد أنفق جنيهات قليلة. .. هذا كل ما في الأمر.
قال سكروج :
- كان أكثر من ذلك ، كانت لديه القدرة على أن يجعلنا سعداء أو تعساء ، أن يجعل عملنا خفيفا أو ثقيلاً ، ممتعاً أو كئيبا كانت قدرته تكمن في كلمات ونظرات ... في أشياء صغيرة جداً ، لا يمكن ان تعيها أو تحصيها
والسعادة التي أعطانا إياها كانت عظيمة وكانت تكلف ثروة طائلة.
وشعر بأن الروح تنظر إليه، فتوقف ... وسألت الروح :
- ما الأمر ؟!
أحب أن أقول لصديقي ديك ويلكنز كلمة أو كلمتين ، وهنا أطفأ أحد الشبان المصابيح ووقف سكروج جانب الروح في الهواء الطلق.
وقالت الروح :
- إن وقتي يمر ... أسرع
مرة اخرى شاهد سكروج نفسه ، وكان أكبر سنا وأكمل رجولة وكانت هناك نظرة قلقة في عينيه تدل على ان حب المال قد تأصل فيه بالفعل.
لم يكن وحيداً بل كان جالساً بجانب فتاة، و كانت الدموع في عينيها وقالت برقة :
- لا .. حب آخر حل مكاني في قلبك ، آمل ان يريحك في المستقبل كما حاولت ان أفعل
قال :
- أي حب ...؟!
- حب المال ، لقد تغيرت إنك لست نفس الرجل الذي كنته عندما تقابلنا ، هل تختار الآن فتاة ليس لها مال زوجة لك.
كان على وشك الحديث عندما أشاحت وجهها عنه ثم قالت:
- لا تتقيد بي فأنت الآن حر لعلك تكون سعيداً بالحياة التي اخترتها.
وتركته وافترقا.
صاح سكروج :
- أيتها الروح لا تريني أكثر من ذلك ، هذا يكفي .. خذيني للبيت
لكن الروح أمسكت به وأجبرته على رؤية ما حدث بعد ذلك ، كانا في مكان آخر حجرة صغيرة ومريحة وكانت تجلس قرب النار فتاة جميلة و أمها تجلس أمامها كانت الأم هي الفتاة التي افترق عنها سكروج لكنها كانت أكبر سنا ، كان هناك ضجة كبيرة في الحجرة فالأطفال كانوا يلعبون وسمع طرق الباب فدخل الأب مع رجل يحمل هدايا عيد الميلاد ، وتعاللت صيحات الإعجاب والسرور مع فتح كل هدية وأخيراً صعد الأطفال السلالم متجهين إلى الطابق العلوي وجلس صاحب المنزل أمام المدفأة مع زوجته وابنته وقال الزوج مشيراً إلى زوجته مع إبتسامة تعلو وجهه :
- رأيت اليوم صديقاً قديماً لك
- من هو ؟
- خمني
- وكيف أستطيع ؟ أنا لا أعرف ؟
ثم أضافت هل هو مستر سكروج ؟!
فقال :
- نعم .. كان مستر سكروج مررت على مكتبه وكانت الشمعة مشتعلة داخل النافذة ، رأيته وسمعت أن مستر مارلي على حافة الموت وكان يجلس وحيداً. ..وحيداً تماماً في هذه الدنيا.
فصاح سكروج بصوت حزين :
- يا روح خذيني للبيت ، أرجوك ..
قالت الروح :
- قلت لك أن هذه ظلال الأشياء التي كانت ...إنها من صنعك
- دعيني ... خذيني للبيت أتوسل إليك !
وأمسك سكروج غطائها وضغط على رأسها وفاض النور على الأرض من أسفل الغطاء ، وعاد سكروج إلى حجرة نومه وسقط على سريره وغاص في سبات عميق.

ترنيمة الميلاد ل تشارلز ديكنزحيث تعيش القصص. اكتشف الآن