الفصل السادس

2.3K 80 18
                                    

الفصل السادس
________

وقف بسيارته أمام بوابة الفيلا التي كانت مآواه طيلة حياته.. بينما الآن أصبح مجرد غريب يطرق بابها الموصد ويستأذن لمقابلة الجد، تجاهل دهشة الحارس من طلبه وغاب لحظات ثم عاد ليبلغه بالدخول، أو هكذا ظن قبل أن يجد من يهرول عليه بلهفة واضحة رغم عمره ويسحبه بعناق جارف كاد يعتصره وهو يبكي..لم تطاوعه ذراعيه ألا يرد العناق بمثله.. حاوط جسار جده بحب حقيقي لم ولن ينضب داخله، فإن كذب كل شيء لن يكذب عاطفة هذا العجوز الطيب الذي رباه كأنه من نسله..وحنانه الذي غمره به..إن خسر كل شيء لن يترك غنيمته الغالية في قلب جده..
_ بتستأذن تدخل بيتك ياجسار.؟!
همسها الجد بعتاب ومازال يحتويه بذراعيه الواهنة، فابتعد عنه وتمتم متغاضيًا عن عتابه: أسمحلي اخد من وقتك دقايق واتكلم معاك في حاجة مهمة.
أجابه بعاطفة لا تكذب بعيناه الذابلة: عمري كله ليك ياجسار مش بس دقايق..تعالى معايا..وجذبه من يده للداخل..صار وكأن الزمن قد عاد به للوراء بضع سنوات، حين كان طفل صغير يتبع جده الحنون وأنامله مستكينة بكفه.. رعشة طفيفة أصابت جسار فطن لها الجد وأدرك مغزاها..هو لم يفقد رصيده في قلب حفيده الأول حتى لو كانت دمائهما ليست واحدة..مازلت حبال العشرة والحب معقودة بينهما ولم تنقطع..
أثناء مروره للداخل قابله رائف يصيح بمرحه المعهود: بقي كده يا كبير تسيب أخوك الصغير وتخرج؟ ناسي الخروجات اللي وعدتني بيها؟
ظل يرمقه بحزن شديد، من ظنه طيلة عمره الماضي شقيق وسند له لم يعد شقيقه..تلاشت صلة قرابتهما بعد أن تعرت الحقيقة وعلم أنه مجرد دخيل على هذه العائلة..
_ أخوك كان عنده شغل يا رائف..
ثم استطرد الجد هو ينظر لجسار: بس أكيد مش هينسى إنك اخوه لأنه مالوش غيرك.
تلجم جسار وهو ينظر لجده ولم يعرف ماذا يقول..
_ ورائف كمان مالوش غير اخوه جسار..

لو نبعت العبارة من الجد ما تعجب، لكنها صدرت عن والده، أو من ظنه والده يوما..ليسترسل توفيق وهو يقترب: مش كده برضو ياجسار؟ انت ورائف اخوات ومفيش حاجة هتفرقكم.
ابتسم الجد بفخر ورضا تام عن تصرف أبنه وموقفه الإنساني حيال جسار، ربما ظلمه حين أعتقده قاسي القلب لكن ها هو يثبت له كم كان خاطيء بشأنه..
_ انتو كلامكم غريب كده ليه يا جماعة؟ كأنكم بتعرفوني أنا و اخويا على بعض من جديد.. بابا وجدو مالهم أنهاردة يا جسار؟
مازال الأخير في حالة عدم توازن وحزن جعله يلتزم الصمت المتأمل بعجز، ليتدخل توفيق بقوله: طيب بطل لماضة بقي وروح شوف رايح فين..وسيب أخوك مع جده شوية..
_ ماشي يا سي بابا.. ثم نظر لأخيه وقال: انا منتظر توفي بوعدك يا كبير أوعي تنسي اخوك أنت وأشرف..لم يستطع أن يخذل تلك العاطفة الناضحة له من أخيه فغمغم أخيرا: إن شاء الله يا رائف..
مش هنسى.
____________

فوق سطح المكتب حرر ميداليته الفضية التي تجمع مفاتيحه تحت بصر الجد نادر وتوفيق الذي تسائل: ايه ده يا جسار؟
نظر له الأخير مقرًا بهدوء: دي كل المفاتيح بتاعة العربية والمكتب وشاليه اسكندرية والفيلا..( واستطرد) والفيزا بتاعة البنك.
غبر الحزن محياهما وقال الجد بتأثر وغيامة دموع بدأت تتكثف بمقلتاه: خلاص يا ابني؟ ناوي تنسحب من حياتنا بالبساطة دي كأننا غرب عنك؟ خلاص مفيش جدو اللي بتحبه وتحكيله كل حاجة في يومك؟ جدو اللي كنت مش بتنام غير لما تطمن انه متغطي وواخد علاجة ومش تعبان؟ هتنسانا وكأنك متعرفناش وتخرج من البيت اللي اتربيت جواه سنين عمرك كله؟.. هتنسي طفولتك؟ هتنسى لعبنا سوا؟ هتنسي كل حاجة عشتها هنا ياجسار؟

رواية "صرخة على الطريق" كاملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن