احتدم النقاش بين خالد ويونس، وبينما أخذ خالد يعدد الأسباب الواهية التي منعته من البوح بمكنون قلبه كان الآخر يتابع مشهدًا يبعد عنه بمقدار طاولتي ولكن بدا كأنه يبعد عنه بمقدار دولتين جغرافيًا وعدة عصور زمنيًا، فهناك وبينما كل طاولة في المقهى يجلس عليها شخصين فأكثر، جذبت انتباهه تلك الفتاة التي تجلس وحيدة، جانب وجهها المقابل له مغطى بشلالات من الشعر الحريري الحالك، بينما تواجه الحائط لا تنظر بلهفة نحو الباب كحال الفتيات المنتظرات مواعديهن، ولا تواجه أحدًا في المقهى وكأنها قررت الانعزال في منتصف الطريق، الجميع حولها ولكن قررت الاستغناء، تجعله يتسائل، أعزلة إجبارية أم اختيارية؟
ومما زاد المشهد غموضًا وجعله أشبه بلوحة دافنشية، رقعة الشطرنج القابعة أمامها، من تتحدى؟
من تنافس؟
ماذا تريد أن تثبت؟
لعلها إحدى النثويات اللاتي انتشرن في الآونة الأخيرة تريد أن تثبت أنها قادرة على ممارسة أي شيء بمفردها حتى الشطرنج!
وبينما هو غارق في تحليل المشهد الغامض قبالته، قاطع محدثه تدفق أفكاره قائلًا:
-يبدو أنك لم تسمع كلمة مما قلته للتو، أليس كذلك؟ استفق أيها الأبله.
-ماذا تقول؟
-أقول أنني سأذهب الآن لدي عمل أقوم به، سألتقيك مساءًا.
غادر خالد تاركًا يونس وحيدًا على طاولته يحدق في الموناليزا عله يفك شفرة دافنشي المخبأة براعة في المشهد قبل أن يحسم رأيه أخيرًا ويقرر التفاعل مع المشهد.جلست جيداء كعادتها في مقهى الجامعة وحيدة تداعب البيادق على رقعة الشطرنج وتتحدى نفسها في نزال معتاد.
تحبذ دائمًا الجلوس في مواجهة الحائط وكأنها تحاصر نفسها، ومع كل حركة من بيادقها تحرك البيادق من الجهة المقابلة، الآن رأت الخطأ في حركتها وربما لا يوجد خطأ في حركتها ولكنها تعرف نفسها وتحفظ جميع تحركاتها فمن أدرى منك عنك؟!
تحرك كل قطعة وهي تعلم أي قطعة ستحرك في الناحية المقابلة والخطوة التالية لها والتالية والتالية...
لا تدرك أن جميع الحروب مربوحة -حتما هناك رابح- إلا حربك مع نفسك فدائما أنت خاسر!
وصلت إلى معضلتها اليومية، الوضع يحتاج إلى خطأ من أحد الطرفين، هي لن تخطأ وكذلك نفسها، ولا يمكن أن تلعب الطرفين بمثالية، ولا يمكنها أن تصنع فخ لنفسها فهي تعلم الفخ، ولا يقع المبصر في حفرة يراها.
أخرجها من عزلتها صوت رجولي مهذب يستأذنها في الجلوس ومشاركتها اللعب، لم تدر بم تجيب فتلك سابقة لم تحدث طوال أيامها السابقة في ذلك المقهى فقد برهنت الأيام بما لا يقطع الشك في عدم اهتمام الشباب في مشاركة فتاة وحيدة مثلها في لعب الشطرنج.
-هل يمكنني الجلوس ومشاركتك اللعب فأنا أحب الشطرنج؟
كرر طلبه مرة أخرى بعد إلقاء التحية، فلم يكن من جيداء إلا الإيماءة بالإيجاب على طلبه، ليجلس قبالتها وظهره إلى الحائط وكأنه لا مفر منها إلا هزيمتها، لم تكن بالخصم السهل فقد تدربت منذ نعومة أظافرها على يد والدتها بالتبني، ولم تدرك أن خصمها أحد أبطال المقاطعة في لعب الشطرنج ولولًا عدم اهتمامه باللعب عالميًا لحضرنا كاسبروف آخر في تاريخ الشطرنج.
بدء في رصف بيادقه دون النظر إلى رقعة الشطرنج فقد تعلقت عيناه بعينها اليسرى بينما اختفت عينها اليمنى وجانب وجهها الأيمن تمامًا تحت شلال من شعرها الفاحم، بينما لم ترفع عينها عن رقعة الشطرنج مع إحساسها بلهيب نظراته يحرق جبهتها ووجنتها اليسرى، جبنت أن ترد النظرات لخصمها أم أن حياءًا يطل على كيانها فيمنعها من التفاعل فيما يحدث؟
لم تعتد على اهتمام شاب بها أو نظرة أحدهم إليها بتمعن بل تكاد تكون هذه اللحظة هي اللحظة الأولى التي يوجه لها أحدهم وجهه بينما يتحدث قائلًا:
-بالمناسبة... اسمي يونس.
-جيداء.
-يا له من اسم أنيق.
-شكرًا لك.
ما الذي يحدث هل عرف نفسه للتو؟
هذا الغريب المتطفل ستهزمه جيداء شر هزيمة جراء ما اقترف، ولكن ما الذي اقترفه ذلك المسكين سوى أنه كان أول من يبدي اهتمامًا ولو طفيفًا بصديقتنا الجيداء جيداء.
الآن ستبدأ أشرس مباراة شطرنج على وجه الأرض.
أنت تقرأ
الفتاة ذات نقش التريكو
Romanceعندما يتخطى القبح ملامحنا، يفقد الجمال قيمته. ربما يكون وجهي جميلًا ولكن خلف هذا الصدر أطنان من الشروخ وأميال من التشوهات، ولكن ماذا يوجد خلف وجهك وما السر خلف نقش التريكو؟!