(حبّ بلون السماء)
أمام المرآة في جناح الضيوف، أرتدي زي المدرسة الكحلي، يطوّق كتفي من أعلى مسدلًا عليهما، وتحته قميص أبيض واسع...خفيف يعبره الهواء باردًا فأشعر وكأنني أرتدي نسائم صباحات نوفمبر...
بيدي المجفف، بهواء معتدل، كانت أزمة المجفف أزمة اقتصادية في البيت؛ لا أحد يستعمله سواي وأمي، فتضطر إحدانا للبحث عنه في صباحات الثلاثاء والخميس... و الأحد لو حسبنا الأسبوع الجديد!
والمميز أننا قبل أن تستقل كل واحدة بمجفف لم نعده إلى مكانه ولا مرة، عاش ذاك المجفف صولات وجولات في البيت على نطاق تحركاتنا، أنا وأمي... تسائلت سؤالًا ساخرًا ذات يوم، أكان استعمالنا لذات المجفف سببًا وجيهًا لأكون أكثر ذريتها شبهًا بها؟ تصفيفة الشعر وان اختلف الطول، الملامح، الضحكة والعبوس وحتى الغناء.... لم نغنِّ معًا كثيرًا أنا وأمي، لكننا إن فعلنا فلن تميّز صاحبة الصوت الأصلي، مَن أتى مِمّن...؟ أتتغلب مجموعة خلايا كبرت في رحمك مرةً عليك؟ متى صار لهذه الخلايا صوت لتغنّي؟
***
أمام المرآة العريضة أقف، أميل رأسي لأصفف شعري فيميل انعكاسي، أو أن انعكاسي هو من يميل أولًا؟ لا أدري... أرتحل بالأغاني وصوت المجفف يعزف كأبرع أوركسترا، يالكثرة ما أحييت الحفلات الغنائية في الصباح، صوت خفيض وعزف بالمجفف، وفي رأسي... لا يهم من أين أبدأ، المهم أن أنتهي لدى مقطوعة من مسرحية:
"كلا! أطير في الهواء، آخذ قطعة من السماء"
قطعة من السماء؟ تظل ترن في رأسي وكل مرة أغنيها أبتسم... تزداد الفكرة رومانسية في عقلي، أترك المجفف في جناح الضيوف، تعرف أمي تمامًا أنها لن تجده حيثما تركَتْه، فأكيدًا ستجده حيثما تواجدت رنا قبل قليل... متفاهتمان اثنتانا على هذه القصة... كان من الممكن أن أعيده، ولكن إن أعدته فلن تقف أمي أمام المرآة العريضة، لطالما خشيت على تلك الفتاة المنعكسة (في) المرآة أن تعيش صباحًا وحيدًا، فكنت أحرص أن تمرّ أمي، حيث تنعكس هي أيضًا (في) المرآة فلا تبقى فَتاتي وحيدة...
بعدما أطمئن أن ابنة المرايا ستحظى برفقة، أذهب أنا لأعيش صباحي وحدي باستكنان بالغ... أُعدّ كوب قهوة من أبسط ما وُجد في قاموس الكافيين، آخذه معي صاعدةً إلى السطح، حيث لا حاجز يفصل بيني وبين سقف الفجر، أستقبل الشمس بكل رحابة، حيث تلوّن السماء بضيائها، معلنةً أن قد تنفّس الصباح...
أتأمل أعلى، أعشق لحظات وداع النجوم... يا فوانيس السماء حان صباحي وجاءت ليلتكم بسلام، أنتظرتم قُبلة الصباح يومًا أم أن قُبلاتي سلّمتم بوجودها؟ هلّا أستحق على وفائي زيارة للأعالي؟ أنوي أخذ "قطعة من السماء"... سأودع تلك القطعة في صدري، بجانب قلبي هناك، كما أجده ينبض كل يوم بالحب، آمُل من ذاك الخيال الأزرق حبًا بلون السماء.
***
صباحاتي لا تتسم بالعجلة أبدًا، أنا أخت الأناة وإن كلفني ذلك ساعاتِ نومي؛ فالصباح الجيّد يعادل النوم الجيّد والأسبق خيرٌ خير... أصل المدرسة في وقت مبكر، مبكر باتزان، لا أسبق النور، ولا أستفتح بإنسان... أدخل الصف متجهةً للنافذة قبل مقعدي.
لم يحب أحد النوافذ كما فعلت، لطالما اعتبرتها فرصةً لتتصل قطعة السماء في صدري بأصلها... أفتح النوافذ على مصارعها فتتباين حُلل السماء صباحًا بعد صباح، وطوال سنوات حياتي لم أُفتن بشيء كما فتنتني صباحات الشتاء، عندما تُقلع السماء قُبيل الفجر تتذكر الأرض أمر الإله بـ(يا أرض ابلعي ماءك)، فتختفي بِرَك الماء الصغيرة رويدًا تاركةً لي تأملها إذ تتقلص... أتسائل، هل حظيت الأرض بصباح أخّاذ لدى نهاية الطوفان؟ هل نزل نوح من السفينة تحت سقف باهر الجمال كهذا؟ هل مسح الإله على قلبه طمأنينةً بأن الكرب قد مضى وهاك فلتبدأ العهد الجديد؟
***
أجلس في مقعدي في الزاوية المواجهة للنوافذ، أُخرج كتاب الفترة وأقرأ حتى يقاطعني الجرَس لأصطفّ في الطابور الصباحي وإن حالفني الحظ أتهرب منه أيامًا... يمضي يومي بروعة هامشيّة أحبها، لم أهتم بالدراسة والصف ومحتواه، كل ما كنت أنتظره هو أن ينتهي اليوم حتى أستعد لصباح الغد؛ وكأن كل أيامي تتمحور حول الصباحات انتظارًا... ظلّ الصباح عشيقًا وفيًا طوال أيامي، فلا هو أخلف موعده ولا أنا شقيت بانتظاره يومًا، كان ولا يزال أوفى من عرفت، يأتي فأستبشر حياةً بعد موت، يومئ تحيةً فأقبّله سلامًا، وأحاكيه قصص الليل إذ أودّع معها النجوم على موعد لقاء قريب...
تتوالى أيامي على منوال حالم، مُحب، آمِل... أنشغل أحيانًا فأعود أتوقع صدرًا رحبًا لا عتاب. أساير الأيام في رضىً يواري السخط على الوجود، لأغفر كل عتبٍ بـ"سبحان من جمّلك" أنطقها ذاهلةً لدى كل شروق... أحدّق في شمس الفجر إذ تتخفف من جبروت الظهيرة، لتطبع في عينيّ نورًا كما فعلَت مع القمر، وياله من نور...
ظللت صديقة السقف الأزرق، بجانب قلبي قطعةٌ من سماء، وفي عينيّ التماع فجرٍ أراه انعكاسًا سعيدًا في أحداق فتاة المرايا، تلك التي ودعتها لدى آخر صباح في الثانوية... آخر يوم لي مع المجفف المشترك، آن له أن يرتاح أخيرًا من دور السندباد، ليستقر في الغرفة الصغيرة بعيدًا عن حفلات الغناء الصباحية...حظيت بمجفف خاص لدى دخولي الجامعة، ما عادت المرآة العريضة في جناح الضيوف موعدًا للقاء، وما عادت الطقوس الصباحية فجرًا تملأ تفكيري... وجدتني كبرتُ كثيرًا دون قصد...
جُلُّ ما تبقى لي قطعة السماء تلك بصدري، تومض كل ليلة بالنجوم، وتستقبل الضياء كابتسام في انتظار مشرق جديد...7/Aug/21