كَان الطَقس أهدَأ ممَا كَان عليهِ البَارِحَة، فَا الشَّمسُ أشرقَت والغيُوم انقشَعَت. وعَلَى أرصِفَة بَارِيس يسِير شَابٌ وشابَة فِي جولَةٍ مِيدَانِية بغرَض الدرَاسَة، وهَذا هُوَ المقصِد منهَا، ولكِن لَم يكُن هذَا ما هُو وَاضِح بالنسبَة للآخرُون، وهَذا الشَّاب هُو مسيو نيڤوليت، وهذِه الشَّابة تكُون أنا، للأسَف.
" يالها من فتاة محظوظة" قَالَت سيِّدَة عجُوز موجهَة كلَامهَا لمَن يرافِقنِي، كمَا قَال مَن قَبلهَا وسيقُول مَن بعدهَا، فَا الإنطبَاع الَّذِي أخذَه المَارَّة عنَّا، أو بالأحرَى الَّذِي أخذتهُ السيِّدَات والآنسَات هو شَابٌ نبِيل ووسِيم فِي موعِد مَع فتَاة، وفتَاة مثلِي، وهذَا بجَانِب مَا تكمنهُ نظرَات الآنسَات مِن حقدٍ وحسَد إتجاهِي، وأعلَم أنِّي للتَو قَد نعتَّه بـ"الوسِيم" لكِن آمَل ان تغضُّوا النظَر عَن ذلِك، وأيضًا، ما يحرجنِي ويزعجنِي أكثر هُوَ ردُّ نِيڤوليت علَيهم "أشكرك يا سيدة" أو "أشكرك يا آنسة" فهُوَ لَم ينكُر لَهُم قولًا! بَل وبشكرِهِم قَد أثبَت لَهُم مَاهُو غيرَ الوَاقِع، ولكِن مَاهُو دَافِعه مِن ذلِك؟ ربَّمَا يستَمتِع بجَذبِ الإنتبَاه إليه وشَرَارَة الغِيرَة المنبثِقَة مِن أعين بعضُ الفتيَات، أو ربَّمَا لَا يرِيد أن يظهَر بمَظهَر العَازِب أمَام هؤلَاء النَاس، ولكِن كلَّ مَا أعلَمه هُوَ أنِّي لَن أوَاعِد فرنسِيًا البتَّة، ومجَرد إعتِقَاد النَاس أنِّي أفعَل ذلِك يزعجنِي.
"مابك عابسة؟" كسَر الصَّمت الَّذِي دَار بيننَا بسُؤاله الَّذِي كَان أحمقًا، ولكِن تجاهله كَان ليكُون مِن سُوء الأدَب، ومِن المُمكِن أن يتسَبب فِي فصلِي أو عقَابِي.
"مسيو نيڤوليت، أتعتقد أنه من الملائم حقًا جعل الناس يعتقدون كوننا ثنائي محب بالرغم عن علاقتنا الرسمية البحتة؟"
رمَقَنِي بإبتِسَامةٍ لَم أفهَمهَا "آسف؟ لم أسمع" لأتَنَهَد وأنطِق مِن جدِيد "مسيو نيڤوليت" ليُهَمهِم لِي لأكمِل حدِيثِي "أتعتقَد أن ما فعلته للتو ملائمًا؟" ليبتَسِم ذَات الإبتسَامَة المُبهمَة "ماذا فعلت؟"، وهنَا أدركتُ مَا يفعَل، هُوَ يتظَاهَر بالغبَاء ليستَشِيط إستفزَازِي، وللأسَف قَد نجَح فِي ذلِك "لما لم تنكر ما يعتقدوه عنا؟!" كَانَت نبرتِي عَاليَة عَن المعتَاد قلِيلًا، وخاليَة من الرسميَّة، كَانَت نبرةً متهجِّمَة، وقبلَ أن اعتذر قَال "ولم قد أفعل؟" لأقول لَه دُون تفكِير وبترَاجُع عن فكرَة الإعتذَار "ببسَاطة، لأن الأمر ليس كذلك!" ليَنظُر إلى عينَاي ويقُول "الن يكون ذلك محرجًا بالنسبة لك أكثر مما هو محرجًا بالنسبة إلي؟ فتاة اجنبية في بلد اجنبي تتنزه وحدها مع شاب بحجة الدراسة، ألن تكون اكثر عرضة للاستغلال من هذا الشاب؟ وأكثر عرضة لنظرات الشفقة من الآخرين؟"
مَا قَاله كَان كافيًا لجعلِي أصمُت، فهُوَ محِق، وأنا مخطئة، مخطئة فِي تسرعِي في الحُكم عليه، ومخطئَة فِي تخمِين دَافعه، ومخطِئة فِي تقليلي مِن إحترامه بينمَا مَا فعلهُ كَان بغرَض صيَانة كرَامتِي.
أمسَكت بكفَيّ الإثنَتَين وأنزَلت بنَظرِي إلى الأرض، أنا أكثَر إحرَاجًا الآن مِن أي وقتٍ مضى، أنا محرجَة مِن نفسِي أكثَر مِن إحراجِي منهُ.
" أنا آسفَة" إعتذرت أخِيرًا بَعدَمَا إستجمَعت شَجَاعتِي.
- "لدي شرط واحد لأقبل إعتذارك" لأومِأ لَه برأسي "وما هو؟"
- "قولي إسمي مرةً أخرى"
صُدِمت مِن طلبهِ المفَاجِئ، وللمرَة الثَّانيَة لا أعلَم مَا دافِعه مِن ورَاء ذلِك، ولكِنني لستُ أفضَل مَن يخمِن دوَافِع النَّاس، لذَا لَم أكرر خطئِي مرةً أخرَى ولبَّيت طلبه فَحَسب "مسيو نيڤوليت"
وإذ بهِ يقَهقِه فجأةً - "أتعلمين أنك في الثلاث مرات كلها الَّتِي ناديتني فيها بأسمي، لم تستطيعي ان تنطقيه بشكل صحيح؟ خمَّنت انه كَان خطأ عابر، لكن يبدو أنك حقًا لا تعلمين كيفية نطقه بشكل صحيح، ولكن لا بأس، يظل نطقك ظريفًا"
مَا بالهَ يتصرَّف بذلِك الطِّيش فجأة؟ ومَا بَال وجهِي يضرِب نبضًا وحرَارَة؟ كون نطقِي خاطئًا ليسَ بعيبٍ لأخجَل مِنه، وكَونه ظرِيفًا بالنسبَة إليه ليس بدَاعِي بأن يجعَل قلبِي يتقلَّب.
لَم أعلَم كونِي رقِيقَة ومثِيرَة للشفقَة هكذَا.
أنت تقرأ
موناليزا بالعسل | MonaLisa With Honey
Historical Fictionتحتَ الحُكم العُثماني بعدَ جلَاء الحملَة الفرنسيَّة والإنجلِيزيَّة، أُرسلَت بعثَات تعليميَّة مِن قِبَل والِي مَصر مُحمَّد علي إلَى دُولٍ أوروبيَّة وأهمُهَا فرنسَا لدراسَة العلُوم المختلِفة، وكانَت 'شَهد' طَالبة مصريَّة مِن والدةٍ سُورية التحقَت بالب...