وها أنا أعود بخيبات أمل قبل أن تستقبل الاسكندرية ضيوفها الجددا...! عدت إلى بلادي في ظلمات وأنا وحيد ومتيقن من نفسي أنني أستحق الموت العاجل ،خسرت الكثير الأعوام والسنوات حتى تلك الأوجه المرهفة التي لم تفارقني أمس فقد فارقتني اليوم .
فهذه هي الحقيقة اللاذعة، أول مالمست أقدامي تراب وطني أحسست بندم باهظ ، فهذه هي حياتي الخيبات دوما تطرق باب قلبي باستمرار .
وجدت نفسي حاملا حقيبتي الصغيرة مطوقا من جميع الجهات، حينها أدركت أنني ارتكبت خطأ عارما عندما فكرت في الهجرة السرية. آآآه النفس تطمع والأسباب عاجزة لقد كان للقدر رأي آخر...
أتممت طريقي وأنا أحادي تارة أصبر نفسي وأخرى ألومه فلم أجد لقمة أتناولها وكأن الله جذ دربي. استرخيت في موضع خلاء محتميا من وطأة البرد الشديد صابرا عن الضرم والنهم والله كريم ،ولكن للأسف الشديد نبذة صبري نفذت وهنا اشتد بي أسى التشرد فبكيت بكاءا مرا. في الصباح المبكر أيقظتني أشعة الشمس المائلة قمت من موضعي واتجهت مباشرة إلى أحد البيوت المجاورة ، دققت الباب وأنا ألهث من الجوع والسعار، ورجلي يرتجفان من كثرة الضعف والكلال . حينها تقدم إلي رجل ذو قامة طويلة وشخصية متينة وجهه مبشور فائض الحيوية، تحفه لحية سوداء وعلى رأسه طاقية صفراء منغرزة بألوان باهتة ورموز أمازيغية.
خاطبني بصوت رخيم: من أنت؟؟ وماذا تريد؟؟...
أناضيف الله من الأمس لم أتناول شيئا حفظك الله ورعاك إن أعطيتني قطعة خبز وأجرك عند الخالق رفيع.
استقبلني وأعطاني قطعة خبز وجبن فأكلتهما وأنا ألهث وجبيني يتقاطر عرقا من شدة الجوع، بعد ثواني معدودة رفعت أبصاري إلى تلك الجدران الساحرة المزينة بالزخارف والقماش، فأجذلت برونق السقف ولمعانه الفتان وسحره القتال، وذلك الموضع الخلاب الخاص بالتماثيل الرخامية . سألته :ماذا عن كل هاته التنميقات...؟؟ أخبرني أنه أحد من شوامخ العلم والأدب العربي ، وأنه شخص ألمعي ومثقف ذو شخصية فذة يعشق التصفح في المجلات والكتب . فسألته عن المجال الذي يميل إليه أكثر فأخبرني بأنه يتعمق في مجالات متعددة لكنه يفضل الكتب التي تجسد الواقع المعاش وتسرد بعض الحقائق والوقائع البشرية.
استمتعت بالحديث معه ولكنني لاحظت شيئا غريبا في عينيه حيث كان يتغير لونهما بشكل مبهم ، فهنا بدأ الخوف...
أجبرني ذلك الصارم بالبقاء والاستقرار معه ، فوافقت بدون إرادة . نمت نوما عميقا فكانت تلك النومة أولى ساعات الراحة بعد أيام عديدة...!!!
في اليوم الموالي أشرق الصباح على صوت الديك الجذاب ، قمت من فراشي فوجدت فوق المائدة شربة حساء مع أربع ثمرات طريات وورقة مكتوب عليها " إنني أنتظرك خارج البيت". تناولت فطوري مسرعا ومتحمسا وخرجت بكل رشاقة وحيوية وطاقة إيجابية لقد كان الجو شهوة. وجدته في انتظاري فخاطبني قائلا : اليوم سنذهب إلى المزرعة .
ركبت الحصان وأنا مبتهج واتجهنا مباشرة إلى المزرعة ، وهناك كلفني بعمل بسيط منه سأجلب لقمتي ومتاعي إلى أن ينقضي الأجل . قدمت له شكري وامتناني ولكن الشك والخوف لم يفارقني بعد .
استقررت عنده ولكن في ليلة باردة من ليالي فصل الشتاء سمعت صوتا مرعبا، فخرجت من مقصورتي باحثا عن مصدر ذلك الصوت المخيف ،فبها أجد صندوقا حديديا أحمر اللون كبير الحجم تحفه أسلاك كهربائية ، حاولت فتحه ولكن التيار الكهربائي لم يسمح لي بذلك ، لقد كان الصوت منبعث من هذا الصندوق ، وأنا أبصره أحسست بعصى غليظة ثقيلة ضربت جذع دماغي فسقطت على الأرض ودخلت في غيبوبة لمدة ثلاث أيام تقريبا...
بعد شفائي وجدت الصارم جانبي معتنيا بي حتى عفيت ، ولكن الغريب في الأمر هذا أنه لم يسألني عن ليلة الحادثة، فمن هنا ازدادت رغبتي في البحث عن حقيقة الصندوق الأحمر.
أتممت رحلتي في البحث عنه لأن الفضول قد سيطر على عقليتي وتفكيري، ولكن للأسف لم أجد الصندوق العجيب وكأن الأرض انشقت وبلعته.
مرت الأيام وفي صباح مبكر من أيام فصل الخريف ، صحيت على تغريدة العصافير المنيرة ، قمت من موضعي ارتديت بذلتي الصفراء وحذائي المطاط ، فخرجت متكولا على الله متجها إلى المزرعة، دخلت بكل طاقة إيجابية، ونشاط تام ، وبدأت في عملية الحفر وأنا أنشد، بعد دقائق معدودة علقت الآلة في قطعة خشب، فتوقفت وبدأت الحفر بيدي من أجل نزعها ؛ فبها أتعجب بوجود الصندوق الأحمر .
حملته فوق حماري وأسرعت لإذخاره تحت سريري . رجعت إلى عملي وأنا متحير ومرتاب ، سطع الليل فأسرعت مباشرة إلى الغرفة، وأنا أحاول التماس الصندوق وجدت عبارة فوق الصندوق تقول:"افتحه في منتصف الليل". هنا فزعت وتوجست ولكنني استطعت التحكم في هلعي ، وصلت الساعة الثالثة وخمسة وأربعون دقيقة فازدادت مخافتي ورغبتي في فتحه ، لكن بعد أربع ثواني تقريبا بدأ الصندوق يهتز لوحده فقمت بفتحه...
ضوء ساحر براق أخذني إلى عالم الخوارق، أول مااحتفت بي بلاد البوكندرا أغمرتني الغبطة والمسرة، إحساس لا يشعر به إلا الفتاك ، أرض بديعة أخاذة برونقها ، أشجار با سقة خضراء ومثمرة، أراضي واسعة ومزدهرة بنايات شامخة وباهرة، مناظر فخمة ووجيهة، أناس مبهمون ذو بشرة صفراء وجسد لئيم، لهم أعين مشرقة متعددة الألوان تماما تشبه عيون ذلك الصارم .
إنه العالم الموازي ... عالم يعاكس العالم الذي ترعرعنا فيه بإمكانك العيش في نعيم وارتياح دون منح المقابل.
تمنيت العيش فيه ولكن القضاء لم يرد لأنني مجرد خادم لا يمكنني العيش في هذه الرفاهية .
عدت متشائما إلى هذا الكون الفظيع ، وفي الصباح أعدت الصندوق إلى مكانه ، وحتمت نفسي أن لا أعود إليه مرة ثانية.
وفي يوم من الأيام قررت معرفة حقيقة ذلك الصندوق الطريف، فذهبت عند ذلك الصارم وتلفظت له بكل ماجرى في تلك الليلة ؛ فخاطبني بصوت لين: لما كنت في السنة الرابعة من عمري توفى والدي في أحد الحروب،ومن ذلك اليوم اشتدت حالة الافتقار والبؤس فاضطرت أمي إلى الخروج للعمل، كانت تعمل طوال اليوم في تنظيف البيوت وأنا كنت أخرج للعب، فكان يحكى أن هناك رجل عجوز سفير بين الخيال والحقيقة، يقطن في كهف ضيق مليء بالخفاش وشبكات العنكبوت والحشرات السامة، وله صندوق خارق يجعلك متميز عن الباقين.
لم أكن أدرك المعنى الحقيقي للتميز ، فغامرت بنفسي لسرقة ذلك الصندوق ...آآآه أحيانا نتسرع دون التفكير التحليلي!!
أكيد أن النتيجة كانت هي العقاب ، بعد حصولي على الصندوق الأحمر سجنت لمدة عشر سنوات، وفي كل صباح أشعر بالإخفاق والانكسار وأدعو الله أن يفرج الهم قريبا... لكن بعد مرور سنتين سمعت خبر وفاة أمي بعد الفاجعة ومن ذلك اليوم وأنا أتمنى الموت الزؤام....!
قاومت وصبرت على مرور سبع سنوات المتبقية وخرجت... بعد عودتي إلى البيت أحسست بحرقة وكآبة لامنتهية... لأن أمي كانت كل شيء هي سر وجودي ، شمس أضاءت نهاري وقمر أبلج ليلي بكل رقة ، الحضن الدافي والقلب الصافي، أجمل معجزة في حياتي لكن قدر الله ماشاء وفعل وفقدت قرة أعيني...
آآآه لا زالت أشعر بالنقص في غيابها، حاولت أن أصبر نفسي رغم المأتم وذهبت نحو الصندوق الأحمر وقمت بفتحه ،وجدت بداخله فتاة حسناء طويلة القامة لها أعين جذابة وواسعة ورموش كثافة،وغمازات غريزة ، وشفاه محددة ووردية لقد وقعت في حبها القتال وسحرها الفتان.
لم أؤمن بالحب قط، ولم أرغب في تجربته ولم أرى القيمة العملية له وبصراحة كنت بخير بدونه ولكن بعدها التقيت بها ابتسامتها، قوتها، ذكائها، وحنانها حتى عنادها ،وصلابتها لا أستطيع وصفها بما فيه الكفاية فإنها لا تقاوم ولا تضاهى عيناها تنبع منهما رائحة أغصان الأشجار البنية المبتلة بمطر الشتاء القريب، وتلمع كلمعان قطرات الندى فوق الأوراق الخضراء تحت أشعة الشمس، عيناها بحر غرقت فيه ولم أنجو بشرتها ناعمة ملساء كالحرير وبيضاء كالثلج، نظراتها قتلتني ببطئ من شدة ثباتها ،ابتسامتها أخبرتني أن هناك ضوء في آخر الأفق لقد ملأت جزءا من روحي لطالما اعتقدت دائما أنه سيبقي فارغا وقامت بشفاء الندبات التي لم أكن أعلم بوجودها من قبل وأدركت ... ليس الأمر أنني لم أؤمن بالحب من قبل ،بل إنني كنت أخزن الحب كله من أجلها ....
أحببتها حبا لا يقدر وساعدتها في التأقلم معي ولكن ربما الإبتعاد قاتل لكنه الأفضل من قرب بلا تقدير.... كان عشقا لا منتهيا فبكل أسف كان البغض يغمر طريقها إلي....
كنت دائما أود الحديث معها ،لكنها كانت تتجاهلني بدون رحمة ولا شفقة .
مع الأيام تعودت على ذلك فقررت البعد... وللأسف اختفت الفتاة اختفاء مباغتا كأن لم تظهر من قبل...
فقدت ثالث شخص من أحبائي
لقد كانت الأيام قاسية معي بالفعل...!!
أنت تقرأ
روح من زمن آخر
Actionلم أؤمن بالحب قط ، ولم أرغب في تجربته ولم أرى القيمة العملية له ... وبصراحة كنت بخير بدونه حتى وجدتها، ابتسامتها، قوتها،ذكائها، وحنانها ، حتى عنادها وصلابتها...لا أستطيع وصفها بما فيه الكفاية فإنها لا تقاوم ولا تضاهى،عيناها تنبع منهما رائحة أغصان ال...