P59

36 6 2
                                    

أنها رمادية

في أحدى القرى الهولندية الفقيرة
عام 1880 ولد آرثر  الصغير،
ولد في تلك القرية الهادئة، حيثُ السنابل
الصفراء اللامعةَ التي تتمايل بدلال مُعلنةَ موعد حصادها، وتلك الحقول الخضراء المليئةَ بما لذَ وطاب بشتى أصناف الفاكهة والخُضار ولا غنى عن ذاك البحر الهائج بمياههِ الزرقاء الصافية والهواء المحمل بعبق أزهار الزنبق البنفسجية و أزهار التوليب الحمراء والزهرية فتبدو القرية كأنها لوحة فنية فائقة الجمال،ولكن الجمال وحدهُ لا يكفي فقد كانت القرية
تعاني من شظف العيش وصعوبات الحياة، فهم لا يتمتعون بهذهِ النِعم إلا بالقليل الرديئ منها وما حَسُن منها فهو للبيع في سبيل توفير بقية متطلبات الأسرة، فضلاً عن ذلك فلا  توجد طرق آمنة تربط بين القرية والمدينة ومن يود الذهاب الى المدينة فعليهِ أن يخوض مغامرة شاقة عبر طريق جبلي ذو منعطفات حادة.
عاش آرثر وحيداً فقد خسر والده أثر حادث مروع أثناء عملهِ في مطاحن الحِنطة، ولم يكن له أخوة ولا حتى أصدقاء،توفيت والدتهُ بعد ولادتهُ بعامين فتكفلت بتربيتهِ صديقة والدتهُ وفي الحقيقة لم تكن تُحسن إليهِ على العكس فقد لقيَ منها ومن أولادها أقصى أنواع الألم النفسي،حتى أصابتهُ بعض الأمراض النفسية ولكن المرض الأكثر بروزاً في اعراضهُ كان ثنائي القطب؛
كان يتجنب اللعب مع الأطفال الذين بمثل سنهِ ويستلذ بالجلوس وحيداً على تلك الصخرة القاسية التي لطالما صفعتها الأمواج الغاضبة حين تتلاطم في جوف البحر فيعلو صوت غضبها.
لم يسمع صوتهِ أحدٌ من أهل القرية
كان الأفق البرتقالي البعيد الممزوج بلون زهرة اللوتس الصفراء الزاهية صديقهُ الوحيد، يجلس لساعات طويلة على تلك الصخرة يُخاطب الأفق وكان يظن بقرارة نفسهِ بأن الأفق يجاريهِ في حِوارهُ!
يأتيهِ كل يوم مع وقت الغروب يَعرض عليه رسوماتهُ الغريبة ويطلب رأي الافق فيها، ويسألهُ كل أنواع الاسئلة التي تعتمل في داخلهِ.
كان آرثر رساماً بارعاً على الرغم من أنه لم يدخل مدرسة للرسم ولم يكن متعلماً، فلم يحضى بفرصةَ الدراسة بسبب فقرهُ ولكونهِ وحيداً دون أهله.
في احدى حِواراتهِ مع الأفق البعيد بدأ آرثر كلامه قائلاً :
- مرحبا أيها الأفق البرتقالي.
-مرحبا يا آرثر.
-أيها الأفق هل تقبل أن نكون أصدقاء فأنا وحيد؟
- ولكننا أصدقاء قُدامة يا آرثر هل نسيت؟
- آه يبدو أنني نسيت حقاً!
- أخبرني ياصغيري هل عاودك المرض مجدداً؟
- أية مرض؟
- سمعتُ أطفال القرية يقولون أنك مصاب بثائي القطب!
- كفاك حذلقة أيها الأفق!
أنه محض أكتئاب وسيزول.
- حسناً ،وماذا عن تلك اللوحة التي بيدكَ؟
- أتممت رسمها للتو.
- أرني أنظر إليها!

كانت اللوحة بمجملها باللون الأسود  بخطوط متعرجة باللون الأزرق السماوي وبعض النجوم الخضراء اللامعة وفراشات حمراء بأجنحة صفراء وبعض الورود البيضاء.
- مارأيك ياصديقي؟
- لوحة جميلة جدا وجذابة ولكن ماتعني تلك الألوان والى ماذا ترمز؟

أخذ آرثر يشرح للافق البعيد مضمون لوحتهِ،التي يبدو أنه رسمها بفرشاة مغبة الحياة وصعوباتها.
الأسود لون الحرب فالحرب توغلت اوداج روحي منذ الصغر، حاربني الأهل والقرية وحتى نفسي ملت مني وتركتني أصارع أنكساراتها وحدي،
أما الازرق السماوي يرمز للسعادة المفقودة في حياتي والتي سلكت كل الطرق المتعرجة للحصول عليها ولكن دون جدوى و الأخضر لون التمرد ولطالما تمردتُ وسخطتُ من واقعي ولكنها الحياة!
الأبيض يدل على السلام الذي أتوق إليهِ والأحمر يدل على الحب الذي حرمتهُ منذ وفاة أمي وأخيراً الأصفر لون الحسرة، حسرة العمر المنصرم دون عائد يذكر لي!
- أحسنت يا آرثر لوحة فاتنة.
- عزيزي الأفق هلأ أخبرتني مالون الحياة؟
راح الأفق البرتقالي يقصُ على مسامع آرثر بعض الحكم ولا ادري من أين له كل تلك الحكمة العظيمة!
أسمعني يا صغيري، الحياة ليست أبيض واسود كما كنا نعتقد وليس كل أبيض جميل ولا كل اسود قبيح أحياناً يكمن الخير في الشر ولكل فرد منا مهما غطاهُ سواد الشر بعض نور الخير الذي يغشاهُ
و في باطن الأخيار هنالك بقعة من سواد الشر!
وليس كل غني فاجر وليس كل فقير صالح واكاد اجزم بأكذوبة أقوال بعض الناس بأن مُمتلئ البطن لا يهمهُ الجائع فلقد عرفتُ أغنياء كُثر بطونهم خاوية وايديهم ممدودة لأغاثة المحتاجين ويعملون وفق منهاج رسموهُ بأم قلوبهم ولا يذهب العقل ألا أمتلاء البطن.
و أن كانت الخطيئة سوداء والتوبة بيضاء فأن عطف الله ومغفرتهُ طغت وفاقت كل ألوان الحياة.
أن كان الموت يعبر عنه بالسواد والحياة بيضاء الافانين، فالموت رحمة حين يكون الإنسان غير قادر على أن ينضو حزنهُ وتختنق روحهُ وكأنها تتنفس من اكدارها والجُبن في معركة الحياة جريمة شنعاء.
واخيراً قريتك في قمة الجمال ولكنها فقيرة وهذا أوضح مثال!
الأمثال لا تنتهي يا صديقي والشرحُ يطول ولكنني أريدكَ أن تعلم بأن الحياة رمادية اللون!
ولكن مهلاً ماذلك الحبل المتدلي أسفل رسمتك؟
عاد آرثر يمشي الهوينة على أمتداد الشاطئ فقد تفاقمت الهموم في جوفهُ وأستصعب فهم مجريات الحياة والوانها، أنها رائعة حد الهُيام حين تجد من يُحبك ويعطف عليك.
و قاسية حد الجنون حين تكون وحيداً!

في أحدى صباحات القرية الفقيرة استيقظ أهل القرية ليشاهدو مشهد مروع، آرثر الرسام الشاب متدلي من حبل مشدود على جذع الشجرة وجميع رسوماتهُ تُحيط به!
اختار الموت على أن يكابد مشقة الحياة، مات بأحضان رسوماتهِ التي يغلب عليها جميعاً اللون الأزرق!
لابد أنهُ أشتهى السعادة مراتٍ ومرات ولكنها الحياة.
كان من بين اللوحات لوحة بلونين الابيض والاسود، يحتل اللون الأسود القسم الاعلى ويحتل اللون الابيض أسفل اللوحة وفي وسطها دائرة رمادية، تركَ توقيعهُ وتاريخ اللوحة، لقد أتم رسمها قبل ساعة فقط من أنتحارهِ.
دَون آرثر بعض الكلمات القليلة المغروسة بالفحوى العام
(الحياة رمادية اللون).

-أزهار محمود

كانڤاسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن