#عقد_الشيطان
الجزء الأول: الاكتشاف
في قلب القاهرة، حيث يندمج نبض المدينة الدائم مع التاريخ القديم و وتيرة الحياة العصرية السريعة، عاش كاتب طموح يُدعى طارق عبد العزيز. كانت شقة طارق، المزدحمة بأكوام من الكتب ، تطل على الشوارع الصاخبة، في تناقض صارخ مع الهدوء الذي كان يسعى إليه في ذهنه. لم يكن صخب مرور القاهرة، ونداءات الباعة المتجولين من بعيد، والأصوات الموسيقية العابرة من السيارات المارة، كافية لإلهامه. بل كانت تذكيرًا دائمًا بالعالم الذي يتقدم إلى الأمام بينما هو ظل عالقًا، أسيرًا لعُقده الكتابية.
كان مكتب طارق ساحة معركة من الورق المجعد، كل قطعة شهادة على أفكار وُلدت وماتت في زمن قصير. كانت أضواء شاشة الكمبيوتر المحمول تلقي بظلال طويلة عبر الغرفة، والمؤشر الوامض على الوثيقة الفارغة يسخر منه. كان مشروعه الأخير، رواية كان من المفترض أن تعيد تعريف الأدب المصري المعاصر، قد توقف تمامًا. كانت الاندفاعة الأولية للإلهام قد تلاشت كسراب، تاركة إياه يتشبث بخيوط سردية بدت أنها تتفكك أسرع مما يمكن أن ينسجها معًا.
كان نجاح قصصه القصيرة الأولى، التي أُشيد بها لتصويرها الثاقب للحياة المصرية وتياراتها الخفية المقلقة، قد وسمه ككاتب يجب متابعته. لكن الخوف من أن يكون ظاهرة لمرة واحدة يلوح في ذهنه. كان دائمًا يجد العزاء في الكتابة، طريقة لفهم العالم ومكانته ضمنه. الآن، تحول هذا العزاء إلى أكبر مصدر للقلق لديه.
كانت الليالي هي الأصعب. كانت طاقة القاهرة المحمومة تخف ولكنها لم تنم أبدًا، عاكسة القلق الذي كان يؤرق طارق. كان يقضي ساعات يحدق في الشاشة الفارغة، وكل محاولة فاشلة لكتابة جملة متماسكة تضخم إحساسه بالنقص. القصص التي كانت تتدفق من خلاله بقوة النيل قد جفت، تاركة إياه يتوق للإلهام.
في لحظات يأسه، كان طارق يلجأ إلى العظماء للبحث عن الراحة. محفوظ، الأسواني، وما وراءهم إلى عوالم فولكنر و همنغواي. كان يبحث عن حكمتهم في سطور أعمالهم، آملاً في إشعال الشرارة التي كانت تدفعه فيما مضى. ومع ذلك، كلما قرأ أكثر، كلما شك في موهبته الخاصة. كان بريق نثرهم يلقي بظلال طويلة.
كانت عزلته في صراعه تضيف فقط إلى حمله الثقيل. كان أصدقاؤه، الكثير منهم مبدعين أيضًا، لديهم معاركهم الخاصة ولكن يبدو أنهم يتنقلون خلال تحدياتهم بنجاح كان يفوت طارق. أصبحت المحادثات حول العمل والمشاريع القادمة حقول ألغام كان يتنقل فيها بحماسة مصطنعة وتحديثات غامضة عن تقدمه.
بينما تحولت الأسابيع إلى أشهر، بدأ الخوف من الفشل يأخذ وجودًا ملموسًا في حياة طارق. كان رفيقًا دائمًا يهمس بالشكوك خلال النهار ويصرخ بها في الليل. كانت فكرة أنه قد لا يكتب كلمة أخرى تستحق القراءة شبحًا يطارد كل فكرة لديه، مصيبة إياه بالشلل.
في أحد الأيام الخانقة ، مدفوعًا بالحاجة إلى الهروب من حدود شقته وربما من عقله أيضًا، تجول في جزء من المدينة نادرًا ما كان يزوره. بدا أن الشوارع الضيقة، المصطفة بتشكيلة عشوائية من المحلات والمقاهي، تقوده بعيدًا عن قلب القاهرة وأقرب إلى شيء آخر، شيء قديم ينبض تحت سطح المدينة.
كانت المكتبة، عندما وجدها، بقايا غير ملحوظة مختفية بين مقهى حديث ومتجر تحف مغلق. كانت نوافذها مغبرة، واللافتة فوق الباب شاحبة لدرجة أن طارق بالكاد استطاع أن يميز الاسم. كان الأمر كما لو أن المكان قد نُسي بواسطة الزمن نفسه، جوهرة مخفية بين كنوز المدينة اللامتناهية.
عندما دفع الباب ودخل إلى الداخل ، قليلًا ما كان يعلم، أن حياته كانت على وشك أن تتغير إلى الأبد. الكتاب الذي سيجد طريقه إلى يديه لم يكن مجرد مصدر للإلهام ولكن كان بمثابة بوابة إلى عالم من الرعب الذي لا يُحكى وتذكير بأن بعض الرغبات تأتي بثمن أكبر بكثير مما يرغب المرء في دفعه.
كان دخول طارق إلى المكتبة و كأنه خطوة إلى عالم آخر، بعيدًا عن شوارع القاهرة الصاخبة. كان الهواء بالداخل مثقلا برائحة الورق القديم والجلد، رائحة مريحة جعلته يشعر بالراحة فورًا. كانت المكتبة متاهة من الرفوف، كل منها ينحني تحت وطأة عدد لا يحصى من الكتب، ظهورها مجموعة من الألوان الباهتة والعناوين المنسية. كانت مكانًا للتاريخ الهادئ، حيث كل صفحة مطوية وكل غلاف متصدع يحكي قصة تتجاوز الكلمات التي يحتويها.
بينما كان يتجول في الأروقة، شعر طارق بوطأة عقدة الكتابة تخف قليلًا. هنا، محاطًا بكلمات عدد لا يحصى من الكٌتَّابِ، كان مجرد قارئ مرة أخرى، بعيدًا عن التوقعات التي كانت تخنقه. سمح لنفسه بالضياع في المتاهة، لامساً ظهر الكتب بتقدير يحتفظ به للأشياء المقدسة، كل كتاب مفتاح محتمل لفتح إبداعه الخاص.
كان في أبعد زاوية من المكتبة، مكان لا يصله الضوء من النافذة الوحيدة بشكل كامل، حيث وجد طارق الكتاب. كان مخبأً على رف سفلي، مخفيًا تقريبًا عن الأنظار. كان غلافه بسيطًا، خاليًا من أي عنوان أو اسم مؤلف، الجلد مهلهل و ناعم بفعل الزمن وعدد لا يحصى من الأيدي. كانت بساطة الكتاب هي ما جذبه، همسة بين صرخات.
مدفوعًا بالفضول، التقط طارق الكتاب، شاعرًا بقشعريرة غير مفسرة تجري فيه وأصابعه تلمس الغلاف. كان أثقل مما يبدو، وعندما فتحه، كانت الصفحات فارغة. ومع ذلك، بينما كان يتصفحها، نما شعور بالقلق بداخله، تحذير غريزي بأن هذا لم يكن كتابًا عاديًا.
مدفوعًا بقوة لم يستطع فهمها، قرر طارق شراء الكتاب. البائع، رجل مسن بخارطة من التجاعيد ترسم وجهه، ألقى نظرة فضولية عندما رأى اختيار طارق لكنه لم يقل شيئًا. بدلاً من ذلك، قال فقط سعرًا كان متواضعًا بشكل مفاجئ لمثل هذا الاكتشاف الفريد.
مع أن الكتاب أصبح ملكه الآن، غادر طارق المكتبة وهو يشعر بخليط من الإثارة والتوجس. كان اليوم قد اتخذ منحى غامض، كما لو أنه قد خطا جانبًا إلى واقع مختلف عن واقعه. الكتاب، الثقيل في حقيبته، بدا كأنه ينبض بحياة خاصة به.
عائدًا إلى شقته، وضع طارق الكتاب على مكتبه، الصفحات الفارغة دعوة ولكنها مخيفة في الوقت نفسه. ثم حدث شئ غريب —هبت رياح فجائية عبر الغرفة، على الرغم من أن جميع النوافذ كانت مغلقة. تناثرت الأوراق، وعندما نظر طارق إلى الكتاب مرة أخرى، لم تعد الصفحة الأولى فارغة. ظهرت عليها كلمات، تشكل جملًا، فقرات، قصة تتكشف أمام عينيه.
كان الأسلوب رائعًا، السرد مثيرًا. كان الأمر كما لو أن الكتاب كان يكتب نفسه، قصة من الظلام لم يكن طارق ليتخيلها أبدًا. مع كل صفحة تُطوى، نمت القصة، الكلمات تتدفق بسلاسة أذهلته.
للمرة الأولى منذ شهور، شعر طارق بشرارة من الإلهام. ها هو حل عقدة الكتابة، ملهمة لا مثيل لها. بدأ بنقل القصة، يكتب بحماس والكتاب يواصل روايته بصمت. ومع ذلك، لم يغادره شعور القلق. إن لم يكن قد نما، ظل كظل في خلفية عقله. همسة تحذير، كان افتتانه بالحدث اكبر من ان يعيرها انتباهًا.
مع مرور الليل، ضاع طارق في العالم الذي كان الكتاب يخلقه، غافلًا عن مرور الوقت والشعور المتزايد بالرهبة الذي رافق كل صفحة جديدة. لم يلاحظ الظلال التي بدت تتجمع في زوايا غرفته، ولا الطريقة التي أصبح بها الهواء أكثر برودة، الجو مشحونًا بتوتر محسوس.
الكتاب الذي كتب نفسه كان أكثر من مجرد غرابة أدبية؛ كان بابًا إلى شيء قديم وشرير، قوة تم إطلاقها الآن دون قصد على العالم من قبل كاتب يائس للإلهام.
جلس طارق مسترخيًا، منهكًا ومتحمسًا في آن واحد، بينما بدأ نور الفجر يتسلل عبر الستائر، راسمًا توهجًا ناعمًا على الفوضى في مكان عمله. كانت الرواية مكتملة أمامه، منتجًا ملموسًا للسحر الغامض للكتاب. القصة التي كشف عنها كانت غير مشابهة لأي شيء كتبه أو تخيله من قبل - سرد مشبع بالظلام، يتخلل نسيج الخوف نفسه. كانت حكاية تغوص في أعماق يأس الإنسان والظلال التي تتربص عند حافة الواقع، قصة تبدو قديمة ومقلقة.
بشعور من التردد ممزوج بالفخر، أعد طارق الرواية للتقديم. بدا المستند الرقمي وكأنه يهتز بحياة خاصة به وهو يرفقه ببريد إلكتروني موجه إلى ناشره. توقف قبل الضغط على إرسال، شك يتملكه. هل كان من حقه حقًا أن يدعي هذه القصة كقصته؟ الكتاب هو من كتبها، بعد كل شيء. ومع ذلك، ألم يكن هو من جلبها إلى العالم، وأعطاها شكلاً وصوتًا؟ بمزيج من التحدي واليأس، تجاهل الفكرة وأرسل البريد الإلكتروني.
كان الرد سريعا وإيجابيًا بشكل ساحق. كان ناشره متحمسًا، معلنًا القصة تحفة ستحدد مسيرة طارق. تم وضع خطط للنشر بسرعة، وفي غضون أسابيع، كان اسم طارق عبد العزيز على شفاه الجميع. كانت القصة يشاد بها لأصالتها وعمقها، قدرتها على إثارة الرعب والدهشة بقدر متساو. وجد طارق نفسه محط الأضواء.
كانت الشهرة براقة. ملأت المقابلات وحفلات التوقيع والمشاركات العامة أيامه، حياته دوامة من التقدير والإعجاب. ومع ذلك، مع تلاشي النشوة الأولية، أصبح طارق أكثر وعيًا بتيار مقلق. تحدث المعجبون عن ليالٍ بلا نوم، عن ظلال تبدو وكأنها تتحرك للتو خارج زاوية رؤيتهم، عن رهبة تلازمهم طويلاً بعد إغلاق الكتاب. يبدو أن القصة قد لمست شيئًا في قرائها، إيقاظًا للخوف المدفون في أعمق أعماق عقولهم.
بدأ طارق أيضًا في ملاحظة أحداث غريبة. كانت الأشياء في شقته تتحرك من تلقاء نفسها، وغالبًا ما كان يلمح شيئًا للتو على طرف رؤيته، ظلمة عابرة تختفي عندما يلتفت للنظر. كان الهواء من حوله مشحونًا، مثقلا بالغموض، كأنه ينتظر شيئًا ما أن يحدث. أخبر نفسه أنه الإجهاد، الشهرة المفاجئة، أي شيء لتجنب الاعتراف بالحقيقة - أن الكتاب والقصة التي منحته إياها ليستا من هذا العالم بالكامل.
جاء الإدراك ليلة وهو مستلقٍ في السرير، الظلام من حوله كثيف وملموس. لم يكن وحده. كان هناك حضور يتربص في الزوايا المظلمة، حضور شرير و قديم، تركيزه موجه بالكامل نحوه. كان حينها يفهم طارق الطبيعة الحقيقية للهدية التي تلقاها. كان الكتاب قناة، جسر بين العوالم، وباستخدامه، كان قد دعا شيئًا إلى عالمه، شيئًا لا ينوي الرحيل.
ترسخ الذعر في قلب طارق، رعب بارد وخانق يسري في جسده. كان يسعى وراء الإلهام، طريقة للتغلب على عقدة الكتابة، ولكن في يأسه، كان قد أطلق رعبًا لا يمكن فهمه. القصة التي جلبت له الشهرة والثروة كانت لعنة، طُعم استخدمه الكيان داخل الكتاب لدخول عالمنا.
بينما بدا الظلام في غرفته يتجمع ويدور، أدرك طارق كامل حماقته. كان يريد أن يُذكر، أن يترك بصمته في عالم الأدب. ولكن بأي ثمن؟ الظلام يقترب، يهمس بوعود بقصص لا نهاية لها، بشهرة لا مثيل لها. كل ما يتطلبه الأمر هو مضيف مستعد، كاتب لإحياء حكاياته.
كان طارق عبد العزيز قد وجد إلهامه، ولكنه جاء بثمن أكبر بكثير مما كان يمكن أن يتخيل. مع بداية ضوء الفجر في اختراق الظلام، عرف أن القصة لم تنته بعد. كان الكتاب قد كتب نفسه، ولكن سرده لم يزل في بدايته، وهو الآن جزء لا يتجزأ من رعبه.
***يتبع في الجزء الثاني***
أنت تقرأ
عقد الشيطان
Terrorعقد_الشيطان طارق عبد العزيز، الأسطورة في عالم الرعب و المتألق بين أوساط محبيه، وجد نفسه فجأة في مواجهة جفاف إبداعي مباغت، حيث تخلى عنه إلهامه الذي أغنى العالم برواياته الساحرة التي خطفت قلوب الجماهير. عاجزًا أمام الصفحات الفارغة، لم يعد قادرًا على...