الفصل الخامس

598 37 4
                                    


الفصل الخامس

تعلّم فليس المــرء يولــد عالــما... وليس أخو علم كمن هو جاهــل

وإن كبيــر القـوم لا علم عنــده... صغير إذا التفّت عليه الجحافــل

وانّ صغير القوم وإن كان عالـما... كبـــير إذا ردّت اليـــه المحافـــل الإمام الشافعي

(منزل آل عيسى)

تنفس الصعداء شاكرا ربه على الهدوء السائد في بيتهم دلالة على نوم الجميع، فليس به جهد ولا قوة على شرح أو تبريرات إلا أن ظنه خاب وهو يسمع نبرة جده المنخفضة فاستدار إليه ليجده خارجاً من المطبخ بيده إناء الماء الطيني *القُلَّة* (بني، جئت لتوك؟) ابتسم له بتعب يرد عليه بنفس الخفوت (نعم جدي.) اقترب منه يسأله بقلق (كيف حال الفتاة؟) تنفس بقنوط يرد عليه (سيئة يا جدي، سيئة جداً وقد تؤذي نفسها في أي وقت.) أومأ له الحاج إبراهيم بأسف معقباً بتلقائية (لا حول ولا قوة إلا بالله، يبدو أن زوجتك محقة، والفتاة بالفعل ليست طبيعية.) وافقه الرأي ونظراته تلمع ببريق خاص بذكرها (أجل، أظن ذلك لهذا طلبت مني البقاء معها الليلة حتى نؤمن لها حراسة خاصة.) ثم هز كتفيه مردفا (فسمحت لها، لا أريد أن أتحمل ذنب ما قد يصيبها كطبيب وكإنسان.) زوى الحاج ما بين حاجبيه بتفكير حكيم ثم رد عليه برد مبهم (جيد، انضمت إلى فريقك وصرتما متعادلين.) رمقه إسماعيل بجهل واضح، فاستطرد الحاج برفض تشكل على ملامح وجهه بحيرة وقلق قبل أن يكمل طريقه إلى غرفته (فريق الممرضين، أعانكما الله على ما ابتليتما به، تصبح على خير بني.) (جدي!) ناداه بريبة تجاهلها جده فقلب شفته السفلى باستغراب دون أن يكون جاهلاً لقصده بالمجمل. زفر بخفوت ثم قصد غرفته ليغير ثيابه، واتجه إلى غرفة والدته حيث هاتف شاغلة أفكاره وقلبه مكالمة مقتضبة يطمئن عليها ثم استلقى جوار أمه الغارقة في النوم، يتأمل شحوب بشرتها وهزالها الملحوظ. مد يده يمسد بها رأسها يشعر بالخوف عليها ممزوجا بالرأفة إلى أن راح في نوم غير مريح بالمرة.

***

(منزل المرابط)

تبرمت نعيمة بشفتيها واللؤم يغشى ملامحها متابعة حديثها، وهم مجتمعون في غرفة الجلوس بعدما تناولوا طعام العشاء (كما أخبرتك، المدينة بأجمعها ليس لها سيرة سوى تلك الفضيحة، وكل الناس حتى عائلتها تنكرت لها إلا ابنتك، فضحتنا بين الناس، لم تفكر حتى في مقام عائلة زوجها.) عبس زكرياء برفض، ووالده يراقب بصمت على عكس كنته التي تلقي بمزيد من الحطب لتؤجج النار ما استطاعت (ما لها هي وما لتلك الساقطة!) (نعيمة!) جفلت على هتاف حميها الذي فاض به الكيل يستدرك بسخط (لا تتجرئي على ذنب عظيم عاقبته عذاب أليم، ولا تنسي أن لديك فتاة والدَّين يتبع صاحبه أينما ذهب حتى يقتص منه.) تشنجت ملامحها بسخط تهتف بنزق (ابنتي أشرف من الشرف ذاته، لا يتجرأ أحد من أهل الجبال على ذكرها بسوء، ليست كالتي جلبت على اسم المرابط وآل عيسى شبهة، ومن أجل صديقة من حي حقير!) زفر زكرياء بضجر ووالده يجيبها بامتعاض (حي السقاة حي حقير؟! و ماذا نسمي حي المساكين الذي سُمي على حال أهله؟!) ضمت شفتيها بعبوس حانق وبسمة طفيفة تعلو شفتي زكرياء ثم عاتبته باستنكار (تعايرني بأصل أهلي يا عمي؟) ضحك ببرود يجيبها (هل جرحتك؟ اتعظي إذن وجنبي الناس جُرحا مماثلاً، فحي السقاة حالياً غالبيته موظفين، والأقلية منهم فقط الذين يعانون من العوز حتى أنه لم يعد يظهر عليهم لأنهم متآزرين فيما بينهم، وتلك نقطة تُحسب لهم.) نفخت بمقت وهي تقوم من مكانها تنفث سمها في محاولة أخيرة (أنا حذرتكما بما هو متداول بين أهل الجبال، وقد يؤثر على كل ما سعيتما لأجله... وأنتما حران!) شيعاها بنظرات بين السخط والرفض مع بعض من التقبل من طرف زكرياء الذي نطق بجمود (سأتحدث معها غدا بإذن الله.) جعد والده أنفه بانزعاج يقول له، وهو قائم (هي ابنتك وأنت حر لكن لا تنس بأن لها زوجا، فانتبه لكلماتك قد تزيد من الفجوة بينك وبينها ....تصبح على خير.) غمغم بالرد ثم انعزل بتفكيره يناقشه بالمنطق، والعقلانية، والكثير من المشاعر التي لا يعلم كيف يوصلها لابنة ابتعد عنها حتى أصبحت غريبة عليه كما هو غريب عليها.

طوع يدي الحق..2.. سلسلة نساء صالحات...للكاتبة منى لطيفي نصر الدينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن