الفصل العاشر

451 33 1
                                    

الفصل العاشر
لسانك لا تذكر به عورة امرئ... فكلك عورات وللناس ألسن. وعيناك إن أبدت إليك معايبا... فدعها وقل يا عين للناس أعين. وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى... ودافع ولكن بالتي هي أحسن."... الشافعي.

(اليوم التالي، صباحا.)

(في مكان ما في منطقة أَمَرْدولْ '١'.)
(براء، هيييه! استيقظي، هيا!) حركت رأسها أخيراً فزفر بارتياح فقده منذ أن ألقوا بها جواره فاقدة للوعي، وبسبب تكتيفهم له لم يستطع أن يصل إليها فاكتفى بمناداتها وبخفوت حتى لا يشعروا به، فمضت الساعات دون أن تتحرك حتى بدأ يتسلل اليأس إلى قلبه. أمسكت رأسها وكتفها تئن بألم قبل أن تنتبه للنبرة الذكورية القلقلة (هل أنتِ بخير؟ ماذا فعلوا بك؟) فتحت مقلتيها على وسعهما حين تعرفت عليه، تهتف بصدمة (إبراهيم آل عيسى؟... م ...ماذا تفعل هنا؟) هز رأسه بحيرة، يشير إلى نفسه (أسرعي وحرري يداي، وأثناء ذلك أخبريني ماذا تفعلين أنتِ هنا؟) تحاملت على نفسها واقتربت منه تبحث عن بداية الحبل الملتف حول رسغيه بينما تقول له بنبرة متعبة ومتوترة (لقد كنت أستكشف المكان مع يزيد، وطلبت منه أن نفترق كي نكمل بسرعة طبعا رفض لكنني أقنعته، وحين يئست من البحث في المخازن الخارجية تسللت إلى المخزن الكبير عبر المدخل الخلفي، ولا أذكر شيئا آخر.) نفخت بسخط من متانة الحبل المعقود بشدة وتشابكه المعقد، وهو يقرعها بعبوس غاضب (أنت تغامرين بنفسك وتتصرفين بتهور، ماذا لو آذوك؟) تلفتت حولها لتتأمل الغرفة ذات الجدران الطينية، والمليئة بمجموعة من الآلات القديمة وبقايا خردة متنوعة ثم تركت جانب إبراهيم تتفقد الآلات قائلة بحيرة (هل هذا ما أعتقد أنه هو؟) مط إبراهيم شفتيه يهتف بخفوت (أجل هو! أسرعي براء، سيتأكدون من استيقاظك في أي لحظة ....أحضري أي شيء يساعدنا في فك الحبل.) أومأت له بجدية، وبحثت بعينيها لبرهة قبل أن تسحب قنينة زجاج أسفل إحدى الآلات، ضربت بها حافة قطعة أخرى معدنية ثم عادت لتحاول تمزيق الحبل بطرفها الحاد. ابتسمت بظفر حين ارتخى الحبل حول رسغيه فأسرع إبراهيم بتحرير رجليه بينما يقول لها (شكرا لك، يجب أن نجد طريقة للفرار من هنا دون أن يؤذوك، فالرجال كُثر حسب ما رأيت أمس وهم يسوقونني هنا.) ربتت على كتفها تهون على نفسها الألم الصارخ به، وردت عليه بغضب ممتعض (الجبناء! كتفي يؤلمني بشدة.) قام إبراهيم يتفقد المكان ويتلصص من شقوق النافذة الوحيدة هناك، قائلا لها بتأنيب (ادعي ربك أن يكتفوا بذلك، كيف وجدت هذا المكان على أي حال؟) عبست تفسر وهي ترتب هندامها تحمد الله على عدم إنصاتها لغباء أنوثتها المُلح عليها بعد حديث طارق لترتدي فستانا أو تنورة، واكتفت بما تعودت عليه؛ سروال جينز وقميص غير أنه طويل إلى الركبتين؛ وهذا أمر آخر ترفض التفكير به كما ترفض الاعتراف بتأثير الضابط التنين عليها (بحثي أنا ويزيد أوصلنا إلى أماكن عدة لصنع الخمر الخطير الذي يمزجونه بالمخدر... ذاك الذي خصصت له حلقة في برنامجي، وتفقدنا بالفعل أغلبها دون نتيجة ثم توقفت بعد أن دسوا لي الثعابين وال****ب في سيارتي، ومع حراسة الضابط ازداد الأمر صعوبة.) توقف إبراهيم عن تفحصه يلتفت إليها معقباً بأمل (طارق يراقبك نسيت ذلك، جيد جدا قد يعرف مكانك ..لماذا تأخر؟) عضت شفتها بذنب تشكل على ملامحها بينما ترمقه بندم فاستدرك بريبة (براء! ماذا فعلتِ؟) أطبقت على أسنانها خجلاً ثم قالت له بتمهل (أنا هربت من الحارس.) عبس بشدة بينما يرد عليها بتهكم (هل نال جو أفلام الحركة هذا إعجابك؟ أتمنى أن تفهمي مدى خطورة ما تقدمين عليه يا براء، أعذري قولي هذا لكن لو أنك من عائلتي ومسؤولة مني لعاقبتك قبل أن يدمرك مجرم ما، أدعو الله أن يكون زميلك نفذ منهم إلا ستحملين ذنبه هو الآخر!) صمتت بخجل من نفسها؛ فهو محق وهي الآن مرعوبة وتشعر بالتعب والألم. تتمنى لو يجدها التنين المتوحش وليصرخ بها كما يريد، كل ما يهمها أن تخرج من هناك بسلام، لا تستطيع تصور مدى قلق أهلها وقلقها على يزيد يفتك بضميرها. جمدهما أصوات اقتراب أحد ما، فأشار لها إلى الزاوية خلف الباب وتقدمها ينتظران القادم.
'١'أمردول: عبارة عن خلاء شاسع يفصل بين الجبال.
***
(قبل ساعة)
(مركز الدرك)
دخل غرفة مكتبه حيث نزع عنه سترته وألقى بها فوق أحد الكرسيين قبالة طاولة مكتبه ثم هوى عليه يزفر بتعب وقنوط قبل أن يحتضن رأسه بين كفيه، هامساً بغضب وغل (أيتها الغبية! فلْأَجدْكِ سالمة بعدها س... سأحبسك في بيت أهلك حتى لو اضطررت لتكبيلك هذا إن لم أقتلك بيدي هاتين قبلا، فلتكوني سالمة فقط!) ضغط على رأسه بشدة كما اعتصر مقلتيه متابعاً بغيظ (يا إلهي ما هذا الألم؟ ما الذي يحدث معي؟) (طارق!) رفع رأسه وانتفض واقفا ليسحب كف والده يقبل ظهرها، فابتسم له وهو يضع حافظة طعام على سطح المكتب حين لمحها طارق خاطب والده بعتاب (لماذا أتعبت نفسك يا أبي؟) لم تفارق البشاشة المشوبة بلمحة من المشاكسة وجهه رغم القلق الذي قبض على قلبه من ملامح ابنه المتألمة... فمهما أخفى ابنه الصلب مشاعره ودواخله عن الجميع حتى نفسه أحيانا كثيرة إلا أنه يشعر به ويلاحظ أي تغير يطرأ عليه وطارق في الآونة الأخيرة ليس على طبيعته. (آه، أنت أدرى بوالدتك كلما قضيتَ الليل في عملك قضته هي في الطبخ، وما إن أصلي الفجر حتى أجدها قد وضبته وطردتني من البيت حرفياً لكي أحضره إليك.) خانته البسمة فعاد إلى مقعده بينما يشير له كي يجلس قبالته مجيباً بتعب (لا حرمني الله منكما، طوال الليل ونحن نبحث عن المفقوديْن دون نتيجة، سأفقد عقلي يا أبي! الجبال كثيرة وقد يكونان في أي مكان.) نظر إليه بغموض بينما يعقب بقلق (ستجدونهما بإذن الله، إبراهيم شخصية مهمة وعامة لن يجازفوا بحياته لأنهم سيشعلون فتيل الانتقام، فهم متأكدين من حب الناس قبل عائلته الكبيرة له، وسيقيمون الدنيا على أنفسهم إن أنهوا حياته.) أومأ له طارق بينما يرد عليه بحنق (أعرف يا أبي... أعرف... لكن!) بتر كلماته المحسورة في حلقه فأكمل والده بنفس النظرات الغامضة (يقلقك مصير الفتاة!) تهرب من نظراته المتفحصة فأستطرد أُوحَدّوا مقراً (في الحقيقية أنا أيضاً يقلقني وضعها، قد يقتلونها دون أن يرف لهم جفن!) احتدت أنفاس طارق فتابع والده ليحقق هدفه (أو أسوأ، قد يؤذونها!) اهتز بدنه وقام بحدة ليوليه ظهره بينما ينطق بغل (لا! لن يحدث، لن..) استقام والده بدوره يدقق به النظر بينما هو يتابع بنبرة مكتومة من شدة العنف الذي يغمره (سأستأنف البحث.) أمسكه والده ليديره إليه يخاطبه بحنو بعد أن تأكد له إحساسه، وأصبح مشفقاً عليه (حسنا، لكن كل شيئا قبلا لكي...) ربت على يده مقاطعا إياه (لا أبي، لست جائعاً... أنا..)لاحظ نظرات والده المستغربة والمرسلة خلفه، فالتفت نحو وجهة أنظاره قبل أن تتسع مقلتاه على يزيد الذي هوى على ركبتيه يلهث من فرط التعب فأسرع إليه في لمح البصر يهز بدنه هاتفاً بهلع (أين هي؟ ماذا حدث؟ تحدث يزيد!) تلاحقت الكلمات من فمه تنافس أنفاسه الفارطة (لقد ... كنا ... نتفقد آخر مخزن شككنا فيه وطلبت مني أن نفترق، عارضتها لكنها ألحت والحمد لله على ذلك إلا كانوا أمسكوا بي أنا أيضا.) أوقفه على رجليه يخاطبه بحدة (هل تذكر الطريق التي جئت منها؟) لم يكد يومئ حتى سحبه خارجاً وهو يكمل بغضب (لماذا تأخرت؟ لقد مضت ليلة كاملة.) استسلم له يرد عليه بخوف (لأنهم تفقدوا السيارة، فاضطررت إلى العودة على قدماي، وأمردول خلاء لا عمار فيه.) صاح طارق بمساعده الذي تفاجأ به منتفضا من كرسيه الذي غفا عليه من شدة تعبه (اجمع الدوريات وانتظروا إشارة مني! إياكم والتدخل قبل أن أرسل أليكم إشارة!)
***
(المستشفى، القسم النفسي)
(أوه! هذا أنا أعرفه ومنذ أول كأس عصير طازج قدمته لك.) قطبت صباح جبينها بشك ترمقه باندهاش، فهز كتفيه بقلة حيلة يستدرك (من فضلك يا آنسة لا تندهشي هكذا، لم يكن الأمر بتلك الصعوبة، مع أن أختك العزيزة لم تخبرني عنك من قبل.) فغرت شفتيها حتى ذكر طائعة، فهتفت بحمق (أنا أيضا لم أعرف بوجودها طوال عمري!) (لكنها كانت تعرف بوجودك، وتعرف الكثير عنك أيضاً!) قاطعها بنظرة ذات معنى فعبست وبلعت غصتها ثم استدرك (حسنا! بما أنك قررت كشف جميع أوراقك، لماذا لا تجيبين عن سؤال مهم؟) عادت ترمقه بحيرة وهو يكمل بنبرة متأرجحة بين الجدية والسخرية (لم أتخيل يوما أن أطرح سؤالاً كهذا، لماذا طلبت مني الزواج؟) وكأنها تذكرت فاقتربت منه وهو يعود خطوة للخلف دفعت بها إلى التوقف دون أن توقف الكلمات المتسارعة على لسانها (أجل، تزوجني وخذني من هنا!) أمال رأسه ناظراً إليها بتدقيق يناقشها (هذا ليس جوابا يا آنسة صباح.) تكومت ملامحها ألما والشرارة تندفع من مقلتيها، فابتسم بينما يتكئ بجذعه على حافة المكتب مردفاً بتهكم (من فضلك! أطفئي تلك النار في عينيك وكأنني كسرت قلبك الولهان!) اتسعت مقلتاها صدمة فعلت ضحكته القصيرة بينما يشير لها كي تجلس، ففعلت على مضض، ووضعت رجلاً مهتزة على الأخرى تراقبه بنظرات مضطربة وحاجبان معقودين بشدة إلى أن جلس بدوره وخاطبها بهدوء (أنت الآن تفعلين ما تفعلينه دائما، تهربين من هدف إلى آخر تتعلقين به، وكأنه آخر قشة ستنجيك من الغرق المحتوم!) شبكت كفيها تفركهما بتوتر، ورجلها تهتز برتابة تصغي لنبرته العملية (ألم تتساءلي يوما لماذا أنت هكذا؟) استفسرت منه بارتباك (هكذا كيف؟) تنفس بعمق ثم أجابها (آنسة صباح، هل تعتبرين نفسك طبيعية في طبيعة مشاعرك، قراراتك وطريقة حياتك على العموم؟... ولا تنسي اتفاقنا السابق!) بللت شفتيها تنظر إليه بتيه امتد لبرهة قبل أن تحرك رأسها بخفة يمينا ويسارا، فابتسم يشجعها (جيد... جيد جدا في الحقيقة، إذن لنعد إلى سؤالي الأول، لماذا تهربين؟ أو بالأحرى ممن تهربين بزواجك مني والرحيل إلى حياة مجهولة المعالم ومع رجل غريب عنك؟) ظلت على صمتها وارتباكها، فأسند ذقنه على يده ووضع مرفقه على سطح المكتب مستطرداً بلمحة مشاكسة (أستطيع الانتظار إلى أن تملي، فلا تتوقعي قلة صبر مني، فالفضول علتي، ولا يمكنك التخيل إلى أي مدى قد أصبر فقط لأتخلص من فضولي!) عبست فرفرف برموشه مبتسماً ببراءة مدّعية دفعت بها إلى الرد عليه بسخط (أريد الهروب من كل شيء هنا، لا أطيق عائلتي ولا محيطي! تعبت من كل شيء! داخلي يئن ألما لا يشعر به أحد حتى أبي وأمي!) ضيق البروفيسور مقلتيه متسائلا بحذر وترقب (وماذا تأملين من الهروب يا آنسة ص...) (كف عن مناداتي برسمية!) قاطعته بحدة وتحفز فرفع كفيه ليبسطهما عمودياً، وهز رأسه مرة واحدة متمهلة ثم أعاد سؤاله بتمهل متعمد (ماذا تتوقعين من هروبك يا صباح؟) فردت عليه بنفس السخط (يكفيني البعد عن هنا!) ابتسم ساخرا بحزن بينما يجيبها بجدية (إن كنت تأملين تَرك أشباحك هنا خلفك فأنت مخطئة.... مخطئة للغاية.) ثم مال بجذعه إلى الأمام يكمل بصدق خرج من جوفه وضرب قلبها في مقتل (أشباحك تتبعك أينما ذهبت بل وتسبقك أحياناً لأنها تُخلق في جوفك ما يؤرقك يا صباح ليس ممن حولك بل هنا...) أشار إلى رأسه متابعاً (كل شيء هنا يتكون وينمو إلى أن يصبح وحشاً إن لم نواجهه بقوة وشدة بلعنا عن آخرنا، فهل ستتركين وحشك يبلعك؟ أم ستتحدين أشباحك كي تنسفيها من أساسها؟ وحينها...) اعتدل في جلسته يكمل بتصميم (حينها ستمتلكين حريتك بالفعل، حريتك باختيار حياة طبيعية، وحريتك باختيار شريك حياتك لا لشيء سوى أنكما مناسبين لبعضكما بما يكفي لتقررا مشاركة حياتكما معاً.) سكنت تنصت إليه بتركيز حتى جفلها بسؤاله الغريب (هل أنت شجاعة يا صباح؟ لأن لك أخت قوية وصلبة!) لمعت مقلتاها بغيرة بينما تهتف بعصبية (أنا أقوى!) ابتسم بغموض يقول لها وهو يستقيم واقفاً (إذن عودي إلى غرفتك، وفكري في حديثنا هذا! وسنبدأ الجلسات اليوم بإذن الله.) أومأت له بينما تفارق كرسيها لتنصرف باستسلام غريب عليها قبل أن تتوقف لتستدير إليه، مستفسرة منه بخفوت خجل (م ...متى ستأتي؟) أجابها بنبرة نزقة مجعدا ذقنه بامتعاض (مساءً بإذن الله، بعد أن أنتهي من جولات أختك وزوجها، فشقيقه الأكبر مخطوف وأنا من يتحمل النتائج!) تفاجأت بقوله معقبة بصدمة (إبراهيم مخطوف؟) ضم يديه إلى صدره، والعكاز محشور بينهما ليجيبها بنبرة متهكمة كنظراته (يبدو أنه مألوف لديك لتنطقي اسمه بدون رسمية، فعلى حد علمي هو رجل متزوج!) وكأنها أجفلت للحظة ترف برموشها ببلاهة قبل أن تهز كتفيها بخفة، تجيبه باستعلاء قبل أن تنسحب بخيلاء (هو الذي فرضوه عليَّ عائلتي، وأنا رفضته ....قلت له في وجهه "أنا أرفضك لأنني معجبة بشقيقك" إلى اللقاء.) انسحبت متلافية جسداً تسمر مكانه بشكل مضحك للحظات استرجع فيها صوته الذي غادر حلقه معبراً عن بلاهته اللحظية (رفضت إبراهيم آل عيسى لأنها معجبة بشقيقيه... من تقصد؟! الآخر صغير ولا يوجد غير...!) ارتفع حاجبه واحتدت نظراته مستدركاً بنبرة جادة جداً (أحبت رجلا أصبح زوج أختها ثم تمسكت به المجنونة رغم ذلك!) كز على أسنانه ووضع عكازه ليستند عليه بكفيه، يكمل بحنق (والدهما ال ....) زم شفتيه وتحرك ليغادر الغرفة متابعاً بجدية (سأقتلك يا طائعة! لقد تماديت بكتمانك، تماديت كثيراً، وسأقتل المعتوه زوجك أيضاً!)
***
(أَمَرْدُولْ)
تقدمها إبراهيم ليخفيها خلف ظهره داعيا الله بالستر لها، فلم يعد يهمه نفسه على قدر ما يهمه ستر الفتاة خلفه مما قد يلحق بها. فُتح الباب يسبقه صوت الذي فتحه يهتف بغلظة (أين هما؟ استدعي الرجال! وأنت تعال معي!) لم يكد يخطو داخل الغرفة حتى عاجله إبراهيم بلكمة أفقدته توازنه فسقط ثم أمسك بتلابيب الثاني يحاول نزع سلاحه فاشتبك معه، والأول يفارق مكانه باحثاً عن سلاحه الذي طار من يده حين وقع، ليتفاجأ بزوبعة تضربه على رأسه بشيء ما ثقيل لم يتنبه إليه، وهو يمسكها بعنف ويصدم رأسها برأسه ليصيبها بدوار أخرج الدماء من أنفها. في تلك اللحظة كان إبراهيم قد اقترب من نزع سلاح الرجل الذي اشتبك معه حين توالت أمور عدة بسرعة؛ بين محاولة براء للفكاك من المجرم وتمزق قميصها الذي تشبث به الأخير مع دخول طارق المفاجئ في نفس اللحظة، وهجومه السريع عليه مما شتت تركيز إبراهيم لثانية واحدة استغلها غريمه وأطلق رصاصة غدر استقرت في كتفه. تجمدوا أماكنهم صدمة فالأوامر كانت واضحة، حبس المخطوف لثلاثة أيام مع تحذير مشدد بعدم إيذائه، إلا أن طارق لم يغفل وأخرج سلاحه بسرعة بينما عنق المجرم في قبضة يده الأخرى، يهتف بتهديد (لا أحد يتحرك من مكانه!) أمسك إبراهيم بكتفه يكبت صرخة أليمة مدوية، وطارق يطلق رصاصة أصابت يد المجرم فأفلت المسدس ليقبض على كفه وهو يصرخ بألم فقال له بتشفي قبل أن يضرب خلف عنق الآخر بمؤخرة مسدسه ليفقده وعيه (جرب الألم الذي سببته للرجل!) نفض عنه الذي فقد وعيه بين يديه، وأسرع إلى إبراهيم يتفقد جرحه متجاهلا براء التي نجحت بإيقاف الدماء السائلة من أنفها (تماسك! سنخرج من هنا.) أومأ له بتعب فسحبه كي يسنده بكتفه مستدركاً بينما يسلك طريقه للخارج دون أن يمنح من يشتعل داخله كالحمم بسببها نظرة واحدة (سنتمهل حتى نتسلل من هنا لأنني لم أرسل الإشارة إلا حين تأكدت من وجودك في هذا المخزن بالذات، كنت أخشى اشتباكات بالسلاح فتصاب.) لمح جرحه النازف بغزارة، فأكمل وهو بين تَلَصُّصٍّ وتفقد لما حوله (يجب أن أضغط على جرحك كي لا تفقد دماءً كثيرة.) أوقفه ليسنده بحائط فتدخلت الصامتة التي بلغ صبرها حده بعدما تجاوزت دهشتها بحضوره تهتف بتذمر، وهي تنقض على جرح إبراهيم ببعض من العنف أنّ له الأخير بألم (أنا سأضغط عليه، وأنت أخرجنا من هنا!) أجابها بغضب اسودت له سحنة وجهه ونظرات عينيه (ترفقي بالرجل! ستنهين حياته أيتها المجنونة!) عبست بينما تشد على شفتيها قبل أن تجيبه بغل(أنا بخير بالمناسبة! شكرا لك على سؤالك.) ضيق مقلتيه بصمت يرميها بسهام حارقة ثم التفت إلى ابراهيم يسأله بعتاب (ماذا فعلت كي يقرر الأحمق اختطافك؟) تنفس إبراهيم قبل أن يرد عليه (اكتشفت أن إحدى الشركات المتقدمة لمناقصة مشروع المياه وهمية، وحين بحثت في الأمر أوصلتني الخيوط إلى قريب الأحمق!) تدخلت براء المتابعة بتركيز تسألهما بريبة (من تقصدان بالأحمق؟ رئيس المجلس البلدي ... العتروسي ...أليس كذلك؟) هم إبراهيم بالرد عليها فمنعه طارق بتهكم ساخط (إياك يا إبراهيم فكل ما يهمها عملها البائس! وستفسد كل شيء قبل أن نقبض عليه.) مطّ إبراهيم شفتيه يزفر بضجر، وهي تهتف حتى اهتز بدنها فخف ضغطها عن الجرح قليلاً (ماذا تعني بعملي البائس؟ ..أنا ...) (لا تتركي الجرح!) هتف بتهديد فضغطت على الجرح غافلة عما انكشف من كتفها تحت كنزتها الممزقة، كما غفلت عن توحش نظرات طارق وتصلب فكيه بغضب أثار رأفة إبراهيم الذي لا يفوته كل ما يحدث. نظر إليها طارق يحذرها بنبرة مكتومة من شدة ضغطه على أعصابه المنفلتة (ومن الأفضل لك التزام الصمت إلى أن نخرج من هنا.) فتحت فمها ثم أقفلته حين أشار لها إبراهيم برجاء أن تتوقف عن الجدال خلف ظهر طارق الذي استدار ليتفقد الوضع قبل أن يعود ليسند إبراهيم، ويستأنفوا طريقهم نحو نقطة أخرى آمنة يريح فيها صديقه، وعقله يعُد الدقائق أمام وصول الدوريات. (كيف عرفت بمكاننا يا طارق؟) سأله إبراهيم بنبرة لاهثة والعرق يتفصد عن جبينه فأجابه بسرعة كسرعة خطواته (الفتى اليزيد، تأخر لكنه وصل في النهاية إلى المركز بعد أن أوشكت على فقدان عقلي، فلا أحد فكر في الأمَرْدُول، كلنا اتجهنا صوب الجبال.) تفاجأ لثانية قبل أن يعض على نواجده غيظاً محرقاً لصدره، وهي تهتف بسرور حقيقي (يزيد بخير! الحمد لله، كنت قلقلة عليه بشدة، ارتاح قلبي...) أجلس إبراهيم على الأرض بروية أدرك الأخير أي ضغط جبار يمارسه على نفسه كي يتحلى بها، وبالهدوء الذي نطق به متجاهلاً الأخرى التي لا تكف عن استفزازه (إبراهيم، هل أنت بخير؟) أومأ له بتعب، وبراء تعود إلى الضغط على كتفه لتقلل من نزيفه بينما تؤنب طارق بحنق (كف عن طرح نفس السؤال عليه كل دقيقة، سيكون بخير!) كز على أسنانه مجدداً هاتفاً بغل (أقسم إن لم تبلعي لسانك سأقطعه حالا! يا وجه المصائب!)
***
(شركة المرابط)
وضعت الملف بعنف على سطح مكتبها وهي تزفر أنفاسها المكتومة ثم ضمت رأسها بين يديها تهمس بحزن (اللهم سلمها من كل شر! اللهم أجِر عمي عمر وخالتي أمينة من الحزن يا حنّان يا منّان، اللهم اجْزهما عني خير الجزاء، احفظ لهما ابنتهما كما حافظا عليّ ودافعا عني، يا ربي أنت الكريم.) شعرت بحركة ما فرفعت رأسها لتجد أمامها رجلاً في مثل عمر والدها بجلباب أبيض وعمة ذهبية، حليق الوجه يتأملها بنظرات جريئة وابتسامة متلاعبة. قطبت تفكر بانزعاج وهي تستقيم واقفة لتسأله بنبرة عملية (هل تبحث عن أحد سيدي؟) اقترب منها فانقبض قلبها بشدة من صوته ونظراته غير المناسبة لعمره (أنتِ ...أبحث عنك أنتِ ووجدتك!) ازداد انزعاجها وهي تنزوي خلف مكتبها، تستفسر منه بخجل رغم القوة التي اكتشفتها في نفسها مؤخراً ويشتد وهجها على ما يبدو كلما شعرت بالتهديد (م... من ... تكون؟ وماذا تريد مني؟) اتسعت بسمته المتصابية وهو يعرف عن نفسه (أنا الحاج أَنْزاري، صديق والدك وخطيبك، أما ما أريده منك فهو الزواج يا صغيرة، لأنني لست بعمر الخطبة وباقي هذه الأمور التافهة.) شهقت بخفوت فتحت له شفتيها بصدمة تضاعفت حين صدح في المكان صوت غاضب بحزمه (بل أنت التافه! وإن لم تختف من أمامي حالاً سأنسى كونك في عمر والدي، وسألقنك درساً لا أظنك ستتحمله!) استدار بدهشة ما فتئت أن انقلبت إلى غضب بينما يجيبه بسخط (من أنت؟ وكيف تحدثني هكذا؟ ألا تعرف من أنا؟) اختزل المسافة بينهما في ثانية، يهتف بنبرة عنيفة أجفلته وأعادته للخلف خطوة (أنا ياسر آل طالب، وأظنك تعرف عائلة آل طالب جيداً، وأجل أعرفك يا أَنْزاري؛ رجل مسن عديم الحكمة متصابي ومزواج، شهوة المال والنساء أفقدتك صوابك وأعمتك عن مسؤولياتك وواجباتك تجاه أولادك الذين يتوه المرء بعدهم، ولا يُعرَفون سوى بسوء أخلاقهم، طبعا! فوالدهم العزيز مشغول بزيادة أمواله وصرفها على نسائه اللاتي يغيرهن كما يغير جلابيبه!) تجمد مكانه يرمقه بنظرات قاتلة، ليست بأقل من الأخرى التي يبادلها إياه ياسر وهو يكمل بتهديد (اتق ربك يا رجل واعمل لآخرتك! إن كنتُ أنا في عمر أبنائك وأفكر بأجلي في كل لحظة فما بالك بمن اقترب من السبعين!) ظللهم الصمت وحفصة تراقبه بانبهار انعكس في قلبها بدوي سريع ومتعب منذ أن سمعت صوته القوى الواثق يغمرها بالأمان فيتضاعف يقينها من أنها تريده! تريده وبقوة ليضمد جروحها ويحميها ويغرقها أمانا فقدته ويئست من وجوده. تنبهت حين نظر إليها الرجل متجاهلاً ياسر وكاشفاً عن بشاعة نفسه يهددها بجفاء (لقد ساعدت والدك بالكثير من المال، واعتبرته مهرا لك وسأسجنه إن لم يفِ بوعده لي.) همّ ياسر بالفتك به، لولا أنها رفعت كفها توقفه فتراجع دون أن يتخلص من تأهبه، وهي تجيب الرجل بقسوة لم تظن يوما أنها ستتحلى بها نحو والدها الذي أوصلها لحد اليأس (أنا لا دخل لي بما بينكما وأنت حر بسجنه أو فعل ما تراه مناسباً لك، من فضلك غادر قبل أن أستدعي لك الأمن، ولا تعد إلى هنا مجددًا، فأنا لست ابنة ذاك الرجل الذي تقول بأنه صديقك!) زمجر بغضب وغادر بغير ما أتى به تشيعه نظرات ياسر الشامتة قبل أن يعود إليها فرق قلبه من الخوف الطاغي على وجهها والمتمكن من نبرة صوتها القلقة (يجب أن أتصرف سيبيع له شقيقتي أنا متأكدة، يا إلهي ماذا فعلت؟) اقترب من مكتبها يقول لها بانفعال (هل أنت نادمة؟ هل كنت ستستسلمين لأطماع والدك؟) هزت رأسها ودموعها تغرق وجهها ونبرتها المرتعشة ألما (ليس من أجله لكن شقيقتاي! أنا خائفة عليهما.) ضم شفتيه يعدها بجدية (لا تقلقي! سنجد حلا مناسباً، وستحمين أختيك ووالدتك من سوء تصرفاته.) رفعت وجهها إليه تهتف بيأس (أخشى أن أتأخر، لقد سمعته بنفسك، لابد أنه سيتوجه إليه رأسا كي يهدده، وماذا سيفعل سوى بيع أختي له مكاني؟) التفتت إلى أغراضها تجمعها بتيه بينما تكمل بعصبية (أنا أستأذن منك سيد ياسر، أعرف أن عمي عمر غائب، لكنني يجب أن أذهب إلى منزل والدي، أنت على علم بكل شيء وأنا ...) (حفصة!!) شُلّت أطرافها حين هتف باسمها بذاك الحزم ليوقظها من هذيانها فنظرت إليه بينما يستدرك ببعض الارتباك (اهدئي من فضلك، لا تسيئي التصرف تحت الضغوط!) بلعت ريقها بتوتر تتنفس بحدة، فرفع ياسر يده يمررها على رأسه بحدة ثم أضاف بجدية فاجأتها وفي نفس الوقت أسعدتها (حفصة، هل تقبلين الزواج مني؟)
***
(المستشفى، المستعجلات)
(يا رب سلم! يا رب سلم!) يسابق خطواته داخلا إلى المشفى، وقلبه يلهج بالدعاء، وما إن لمحه عيسى حتى اندفع نحوه قلق الملامح (أهلا يا حاج.) (أين ابنتي يا عيسى؟ ماذا حدث لها؟) عاجله الحاج بقلق فرد عليه بهدوء ظاهري (في غرفة الأشعة يفحصون ظهرها ورجلها.) اتسعت مقلتا الحاج هلعاً يردد بصدمة (ظهرها؟ سلم يا ربي... سلم!) (اهدأ يا عمي، ستكون بخير بإذن الله.) هز رأسه مرات عدة ثم سأله مجددًا (كيف حدث ذلك؟) تناظر ومنصف قبل أن يجيبه (انزلقت على الدرج.) جعد جبينه بتفكير، فصمت عيسى يتبادل النظرات القلقة مع منصف الذي أشار إلى جهة ما التفت إليها، فعبس من هيثم الذي أصر على اللحاق بهم. (من أنت؟) جفلهم سؤال الحاج عبد الله فتلجلج هيثم برده أمام هيبته وما سمعه عنه (أنا هيثم من زملاء...) (إنه ابن عمي يا حاج، أخبرته بأن لا داعي لقدومه، لكنه سحر رواح تنثره أينما حلت على خلق الله.) احتدت نظارتهم عليها باستثناء الحاج الجامد يطل عليها بطوله الفاره، وجسمه الممتلئ قليلا تحت جلباب بني شتوي، عليه برنس أسود بحواف بنية، والعمامة أعلى رأسه بكبرياء كالذي يلف صاحبها. (ماذا تقولين يا نجوى؟ هل جننتِ؟) همس لها هيثم بعدم تصديق، فأكملت بتشف (ماذا! أنا لا أكذب، هي من كانت تفتخر بجمالها وسط الجامعة جاذبة العيون إليها حتى وقعت بكعبها العالي وكسرت رقبتها.) اتسعت مقلهم وكأن صاعقة وقعت على رؤوسهم، فكان أول من نطق عيسى الذي هتف بسخط (اخرسي نجوى! الجميع يعرفون بعداوتكما وأنا لا أعلم حقا ماذا تفعلين هنا تلعبين دور الصديقة القلقة؟) حدجته بحقد، بينما الحاج يتنحنح قائلا بهدوء أبهرهم جميعا وإن لم يصدقوه كليا (أشكر لكم حسن صنيعكم بإسعافها، يمكنكم الانصراف إلى أشغالكم الآن.) تحركوا ليغادروا وهيثم ينظر إلى نجوى بخيبة ورفض لما فعلته بينما عيسى يخاطب الحاج برجاء (لكن يا حاج، لم يبلغونا بنتيجة الفحص بعد.) منحه نظرة مبهمة، يسأله بدلا من الرد على كلامه (هل عرفت باختفاء شقيقك منذ أمس.) اغتمت ملامحه بحزن كما تشبعت به نبرة صوته (أجل يا حاج، هاتفني إسماعيل حين كنت أنتظر سيارة الإسعاف، لا أعلم لماذا لم يخبروني منذ أمس؟) رفع الحاج عبد الله ذقنه يسأله مجددًا وبنوع من التهكم (وماذا تفعل هنا يا ابن آل عيسى؟ مكانك حيث عائلتك لتساندهم في مصابهم.) رفع عيسى أحد حاجبيه بتمعن يجيبه بنبرة ذات معنى (أنتم أيضاً عائلتي، ولم يكن من الرجولة ترك أحد أفراد عائلتي مصاب وأوليه ظهري، خصوصا إن كانت فتاة.) ظهر شبح ابتسامة على جانب ثغره يدقق النظر به ثم قال له بنبرة ظهر فيها التهديد جليا (وأنا شكرت لك حسن صنيعك كما أنني الآن هنا وسأهاتف ياسر حالاً، يمكنك الذهاب وبلغنا بالأخبار الجديدة، أعاد الله إبراهيم سالما.) زفر بخفوت يومئ باستسلام وهم بالانصراف لكنه عاد يضيف كآخر محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن يستأنف طريقه (غيرة الفتيات مؤذية يا حاج... عن إذنك!) هتف منصف بدهشة حين وصل إليه (إبراهيم م مخطوف!) (تلك الحقيرة! إنها تسعى للتخلص من وجود رواح في الجامعة!) نطق بغل فأجابه منصف بقلق وهما يغادران المستشفى (لكنك أخبرته بالحقيقة، فكر بشقيقك الآن.) ركب سيارته الرياضية حيث رد عليه بغضب (أنت لا تعرف الآباء هنا، إن شكوا بأي شيء مسيء لسمعة بناتهم يغلقون عليهن في بيوتهم ويريحون بالهم... الحمقاء رواح دمرت مستقبلها الدراسي بغبائها!) أصاب عيسى كبد الحقيقية رغم عدم رؤيته لتشكل الغضب على ملامح الحاج عبد الله، وهو يسحب هاتفه ليستدعي بكره.
***
(أمرْدول)
(أصمتا أنتما الاثنان! لكما كلمتي إن خرجنا من هنا سالمين، سأزوجكما أول أمرٍ أفعله!)جحظت مقلهما بصدمة يهتفان في نفس الوقت (تزوجنا!؟) زفر أنفاسه بتعب يهز رأسه مؤكدا على قوله (لا دواء لأحدكما إلا لدى الآخر وعلاجكما جمعكما في بيت واحد كي يرتاح الناس منكما، يا إلهي! شجاركما المتواصل أسوأ من الرصاص!) مط طارق شفتيه بينما يتهرب بمقلتيه من نظرات إبراهيم قبل أن يلمح حركة ما فتأهب هامسا بتحذير (هناك أحد ما قادم، أبقيا مكانكما.) ظلت تضغط على جرح إبراهيم دون أن تغفل عن الآخر، تمد عنقها كي تراقب الوضع عن كثب. أسرع طارق معرضا نفسه للخطر كي لا يجدوا إبراهيم المصاب أو براء التي شقت قلبه بمنظرها المبعثر والإعياء الذي نشر شحوبه على سحنة وجهها، فكان لحركته وقع المفاجأة على المجرمين ضارباً الأول بحافة مسدسه على رأسه حرصاً منه على عدم لفت أنظارٍ أخرى بدوي الرصاص، ومتيحا لنفسه مزيدا من الوقت حتى وصول الدوريات الوشيك ثم هجم على الآخر بلكمات متتالية ليجرده من سلاحه ملقيا به بعيداً. اتسعت مقلتا براء وهي ترى الذي وقع بداية قد قام ويتحين الفرصة ليهجم عليه خلف ظهره، فصاحت دون وعي (طارق خلفك!) تصرف بآلية كما تدرب وتعلم، متجنبا جسده ثم أمسكه بحدة يكيل له ضربات عدة على الوجه، والرأس إلى أن أفقده وعيه هو الآخر بينما إبراهيم يبتسم بلهاث مصرا على كشف مشاعرهما لبعضهما (أنظري الى نفسك! ستموتين إن تعرض للأذى.) لمعت مقلتاها رغم الحزن الذي ردت به (إنه جلف وبارد ...ينعتني بمختلف الألقاب طوال الوقت!) ضحك إبراهيم بتعب يمسك بأسفل صدره من الألم، ووجهه يزداد بياضاً من الشحوب (لا تسمحي للغباء بأن يستولي على عقلك يا براء، ماذا تنتظرين من ابن جبل؟ هدايا وأزهار! أنت تحلمين!) ابتسمت بوهن، والآخر يعود ليهتف بحنق وريبة من تبسمهما (ما الذي يحدث هنا؟) رفع إبراهيم وجهه الشاحب إليه يجيبه بلهاث (أتخيلك بباقة أزهار بدلاً من السلاح في يدك.) رمى الباسمة بنظرة ساخطة مدعية قبل أن يجيب إبراهيم ساخراً (تعرف أن هذا لن يحدث حتى إن أتيت لزيارة قبرك!) شهقت براء بدهشة تلاها عبوس مستغرب، وإبراهيم يضحك معقباً (أعرف يا صديقي ...أعرف ... فقط ادعي لي بالرحمة.) انحنى إليه وأسند جسده قائلاً له بتصميم واثق (سأدعو لك بالشفاء يا صديقي، بإذن الله ما يزال في عمرك بقية تربي فيه أبناءك وتخدم هذه الجبال.) تبعتهما تسأله بحيرة وهي تطرق السمع (ما ذاك الصوت؟) ارتخت ملامح طارق وأسرع من خطواته، وهو يجيبها (دوريات الشرطة.)
***
(شركة المرابط)
(حفصة، هل تقبلين الزواج مني؟) علت البسمة الحالمة ثغرها، تنظر إليه بدهشة فاستبشر خيراً بردها يكمل بحزم لمعت به مقلتاه (اقبلي بالزواج مني ولا تقلقي من كل ما يشغل بالك، سنحله معا، فقط لا تستسلمي، ولا تظني أن كل الرجال سواء.) تنحنحت تخلي حنجرتها ثم ردت عليه بارتباك بلغ مداه حتى ارتعشت أطرافها (لماذا أنا بالذات؟ أنت لم يسبق لك الزواج؟ فلماذا تربط نفسك بفتاة مطلقة تحمل فوق كاهلها كومةً من المشاكل، ووالد لا يستحق نسب عائلتك؟) تهدجت نبرة صوتها مع آخر حديثها، فسارع بالرد عليها (لأنني لا أريد زوجة لي سواك يا حفصة!) ازداد ارتعاشها تفر بمقلتيها منه وقد اتسعت ذهولاً من قصده الواضح، فلم تظن بأنه سيجيبها بهذا حتى لو تخيلته وتمنت عميقاً أن يحبها وأن يختارها دوناً عن الفتيات (أنا لست بغِرٍّ يا حفصة، وأعرف معدن الإنسان الصالح من الخبيث كما تعلمت كيف أفصل بين المشاعر الحقيقية والانبهار بما يلمع زيفاً، وسريعاً ما يخبو.) استدرك برجاء فحملت حقيبتها تهم بالهروب منه، فأوقفها بإشارة من يده دفعت بها إلى الرد عليه بخفوت حيي (من فضلك، يجب أن ألحق بشقيقتي.) (إذن، سآتي معك!) رفعت أنظارها الرافضة إليه (لا! أرجوك! بماذا سأفسر قدومك معي؟ قد يكون ذاك الرجل أخبر والدي عنك فيستغلان الأمر، ويخوضان في شرفي ...لا!) ضم شفتيه أسفا على والد بدلاً من أن يستر ابنته يفضحها ثم طالبها برجاء (فقط أريحي بالي بكلمة واحدة.) ارتعش قلبها رأفة وتأثرا فأومأت له محمرة الوجه قبل أن تنطلق مسرعة، وهو يبتسم بسرور. جمع أغراضه ينوي اللحاق بها، ومراقبتها من بعيد كما اعتاد الفعل لكن مكالمة هاتفية من والده غيرت وجهته إلى المشفى.
***
(على باب المستشفى)
اجتمع أفراد عائلة آل عيسى بالسيد عمر الرزقي وزوجته على باب المشفى ينتظرون سيارة الإسعاف بعد أن بلغهم طارق بالمستجدات.
سلمت السيدة أمينة على نساء آل عيسى والدموع تبلل وجهها بما عاشته من خوف لم يسبق لها أن رأت مثله حتى أثناء غربة ابنتها من أجل الدراسة والعمل، فتحدثت إليها شمة التي تضم تغريد إلى صدرها لا تفارقها وتشاركها البكاء على أكبر أبنائها فهي لا تفرق بينهم وبين أبنائها من صلبها (لا تبكي يا ابنتي! كان الله بعونك، لقد أوشكنا على فقدان عقولنا قلقا على إبراهيم وهو الرجل، فكيف بشابة صغيرة؟! الحمد الله، إسماعيل أخبرنا بأنهما بخير.) أومأت لها بامتنان ثم ابتسمت بحزن لتغريد الباكية بينما تربت على رأسها، فسألتها الأخيرة (هل المذيعة ابنتك؟) هزت رأسها تذرف الدموع من جديد وهي تجيبها بلوعة (أجل، إنها ابنتي وروحي، أسأل الله أن يعيدها لي سالمة، لا أريد شيئا بعدها، إنها وحيدتي وابنة قلبي.) تشبثت تغريد بشمة التي شعرت بها فضمتها إليها هي الأخرى بقوة، تتأمل دموعها التي امتزجت بالحسرة والغيرة في ظلمة عينيها.
تململ منصف الذي عاد مع عيسى إلى المستشفى بعد مكالمة إسماعيل للأخير وهما في طريقهما نحو المنزل ثم همس لصديقه (ألن تخبر زوجة أخيك بمصاب أختها؟) التفت إليه ليرد عليه بامتعاض (وهل ترى وضعها يسمح بذلك؟ ألا يكفيها ما همها؟) هز كتفيه يقول له بتلقائية، وهو يرمق تغريد التي طعنت قلبه بحالتها الكئيبة (مظهرها يوحي بالهدوء، أحسبها على إيمان قوي ومتفائلة بالله على عكس أختك الصغيرة، وكأنها تموت رعباً.) ارتفعت زاوية شفته تهكما يعقب على قوله (مُنتبهٌ أنت لتغريد وحالتها.) فأجابه بنفس تهكمه (أنظر إليها وعارضني!) استدار إلى أخته فوقع قلبه بين رجليه من مظهرها المزري؛ تستند إلى الخالة شمة ورجليها لا تتحملان وزنها ففكر بأنها لم تأكل شيئاً. خطا نحوها بملامح قلقة، وما إن لمحته حتى ارتمت بين ذراعيه تهتف بأسى (هل رأيت ماذا حدث أخي؟ إنه إبراهيم ...إنه ...) استسلم لقلبه وطوقها بحنو بينما يرمي إسماعيل بنظرة تائهة متوسلة، فأومأ له بثقة يبثها للأخرى بين ذراعيه (شششش! تغريد اهدئي، إبراهيم بخير، لا تكوني ضعيفة هكذا! فأفراد آل عيسى جميعهم أقوياء، وأنت الفتاة الوحيدة لآل عيسى ويجب أن تبرهني على قوة إناثهم أيضاً.) رفعت رأسها تمسح دموعها دون أن تستطيع تمالك شهقاتها، فأضاف كي يزيل بعضا من الهم على وجهها، مدركاً لأن أكبر عقد هذه الفتاة هو الفقد، تخشى فقدان عائلتها مصدر أمانها بعدما وجدتها أخيراً (أم ربما قررتِ أن تصبحي ناعمة كمنصف؟) انعقدا حاجباها لبرهة قبل أن يطفو شبح بسمة على جانب ثغرها فتدخل منصف يكمل طرفة صديقه (أخوك محق، فممن سأتعلم الخشونة إذا تحولتِ لكائن ناعم؟) أشار إلى ارتعادها فسحبتها الخالة شمة من عيسى تضمها بينما تؤنبهما بسخط مزعوم (هل تتسليان على حساب ابنتي؟ ابتعدا أنتما الاثنان؟) علت البسمات وجوههم دون أن يجدوا في أنفسهم رغبة بالضحك قبل أن يحل عليهم الصمت، وسيارة الإسعاف تقبل عليهم يسبقها صوت زمجرتها.
قلبها يهفو إلى الانقضاض عليه وضمه داخل حضنها، وإخفائه عن العالم، لا تصدق كم تلك المشاعر التي تكتشفها في نفسها كل يوم يمر عليها في كنف زوجها لكن الحياء منعها من ضمه دون أن يستطيع منعها من الركض إليه ما إن فُتحت بوابة السيارة الكبيرة (إبراهيم!) كان ذلك كل ما تمكنت من نطقه وبخفوت تعبر باسمه عن كل ما شعرت به في الساعات الماضية عليها كالجحيم في بُعده، ترمقه بنظرات فيها من الشوق والرعب والحب ما جعله يبتسم بتفهم ويمد لها يده بتعب، فأمسكتها دون اكتراث بمن حولها، بل لم تشعر بأحد سواه، كل شيء اختفى واندثر سوى صوته الحبيب لقلبها تصغي لكلماته الواهنة بقلبها قبل أذنيها (الحمد لله، قدر الله وما شاء فعل، الحمد لله.) هزت رأسها باسمة بحزن والدموع تتوالى على وجنتيها ثم سارت مع الناقلة تمسك بيده بتشبث دمعت له مقل باقي أفراد عائلته الذين التزموا الصمت، وكأن رؤيته في تلك الحالة نزل كالصاعقة على رؤوسهم وألجمت ألسنتهم. توقفت قدماها على باب الطوارئ دون أن تجرؤ على ترك يده، ترمقه بتوسل تقطعت له جنبات قلبه فهمس لها بثقة (ادعي الله حق، لم أقابل في حياتي من يحسن به الظن مثلك، فابقي على إيمانك به...اقتربي!) مالت نحوه فأكمل بهمس لم يسمعه سواها (أحبك، لا تنسي هذا.) ابتسمت له وتطلعت إلى وجهه بملء عينيها المهتزتين بحزن ثم هزت رأسها تجيبه بصدق قبل أن تبتعد عنه (وأنا أحبك بقدر لم أتخيل أنني سأشعر به من قبل، وبُعدك عني أمر مؤلم حبيبي فلا تطل الغيبة.) اتسعت بسمته وعيناه هو الآخر على ملامح وجهها إلى أن اختفى خلف أبواب غرفة العمليات ثم عادت إليهم ساهمة، وجلست بسكون لتبدأ سيل الذكر مجددًا، والجميع في محراب الصمت يعتكفون رهبة واحتراما لعلاقة رغم حداثتها حفرت في قلوبهم أثراً عميقا أنارت شموساً كانت قد غابت عن مدارهم لسنوات.
***
اندفعت تركض نحو والديها، فضمتها والدتها بلهفة كالتي طوقهما بها والدها وبراحة منحها لقلبه أخيراً (الحمد لله ... ألف حمد لك والشكر يا ربي.) لهج والداها بهمس ثم وبعد برهة قالت لهما وهي تنسل بخفة من بينهما (يجب أن أرى الطبيب، كتفي يؤلمني أظن أنه انخلع من مكانه.) شهقت والدتها بهلع بينما والدها يعبس، وبحزمٍ خاطبها (يجب أن نتحدث بجدية، يبدو أنني أخطأت بطريقة تعليمك ولن أقول تربيتك لأنك أخطأتِ فهم بعضٍ من الحريات التي منحتها لك.) بلعت ريقها تفكر بأنها دفعت بوالدها على الحافة، ذاك الرجل قليل الغضب، وحتى في نوبات غضبه النادرة يتأنى في موقفه الذي يصدر منه في النهاية حكيماً. (ليفحصك الطبيب ونطمئن عليك ثم لكل حادث حديث.) حثتها والدتها على التحرك نحو غرف الفحص فاستسلمت لها، وعقلها يشرد إلى الذي تركته في ذاك المكان يغيرون عليه، ويقبضون على من فيه.
***
(منزل أهل حفصة.)
فتحت لها شقيقتها الصغرى فضمتها بحنو تسألها بقلق (كيف حالك حبيبتي؟ أين أمي و خديجة؟) تبعتها داخلتان، وهي تجيبها بانزعاج (في العمل لدى سيدة تريد تنظيف بيتها، ولن تعودا قبل نهاية اليوم.) زفرت حفصة تستفسر منها بحنق (هل تعرفين عنوان منزل تلك السيدة؟) أومأت لها وأخبرتها بعنوان سكنها في نفس اللحظة التي سمعتا باب المنزل يفتح كما صفع بحدة اهتز لها بدن الاثنتين خوفاً، إلا أن حفصة تجلدت بالقوة تدعو الله في سرها الثبات ثم أعادت شقيقتها خلفها منتظرة الزوبعة التي لم تتأخر، إذ ما إن لمحها حتى زمجر بغضب (أيتها الجاحدة ترفضين النعمة وترفسينها برجليك دون أي اعتبار لي، أنا والدك.) ردت عليه حفصة بتهكم (وما هي تلك النعمة من وجهة نظرك؟ بيعي لرجل في سنك يا والدي؟!) اقترب منها يستأنف صياحه، فتكومت على نفسها تتوقع الصفعة على وجهها في أي لحظة (ومن سينظر إليك بعد فضائحك مع عزيز الحقير وأهله؟) تجاوزت إهانته لها تستنكر بحرقة (الآن أصبح حقيراً! ألم يكن الزوج الذي لم أستحقه حتى في أحلامي؟ ألم تقف في صفه دوما؟! بل وتحثه على تربيتي بالضرب والإهانة؟! وكل مرة لجأت إليك فيها أنت من يفترض بك حمايتي منه تجلدني قبله ثم ترميني إليه كي يكمل على تدميري، يا إلهي! يا أبي ارحمني!) رفع يده كعادته حين يُجَادَل بالحق فتنقطع لديه السبل، فيبطش بيده في القهر والجور، وهوى بها على وجهها بكل قوة حتى صرخت أختها لكن حفصة لم تخف، بل توقفت أمامه تهتف بخيبة وحزن (اصفع يا أبي كما يحلو لك! لكن لا تنتظر مني الطاعة كالعادة فلقد تعلمت القسوة منك وتعلمت القوة بأشد الطرق وعورة.) فغر شفتيه يرمقها بلهاث، ونظرات عنيفة قاسية، وهي تكمل ضاربة على صدرها بمرارة (من يذوق حلاوة العيش بكرامة، ومن يعاشر الكرماء ويلتمس الحنان والتفهم لا لطمعٍ سوى حبا في الله عز وجل، وابتغاء رحمته يستحيل عليه العودة إلى طريق الذل والهوان حتى لو كان مُعَبَّداً بالذهب والمال، ولو أزهقت روحي بيديك يا أبي يا سندي وحماي، يا ستري ومصدر أماني، أنا لن أتزوج ذاك الرجل أو غيره إلا من يستحق أن أأتمنه على نفسي!) أجفلته لبرهة، لكنه سريعاً ما زمجر ساخرا بسخط (ومن هذا الذي يستحقه جنابك؟ أنت لست سوى فتاة تناقلت الألسن فضائحها وشوهت سمعتها، لا أحد سيكترث بك أولك، وحتى إن حدث لن يكون إلا طمعا فيما يُدِره عليك عملك!) بللت شفتيها ترمقه للحظة امتدت بينهما، هو يُظهر فيها سخريته المهينة لها بينما داخله يغلي خوفا من قوتها المستجدة عليها، ورعبا مما ينتظره إن لم يزوج صديقه ذاك إحدى ابنتيه، أما هي فتفكر بأن لا أمل في حياة تنتظرها من جثة غادرتها الروح ولن تعود.
رفعت رأسها مستسلمة بيأس في تغييره، ونطقت مقلتاها بكل خيبة الكون قبل لسانها الذي تحرك بثقل (كنت لأجيبك بأنني أستحق رجلا حنونا، كريما، متفهما وحامياً يعرفني جيداً ويحبني لشخصي بما أنا عليه، لكوني إنسانة خلقها الله كريمة عزيزة لها حقوق، وأول حقوقها الاحترام، لكنني سأخبرك برد آخر عساك تفهمه، ردٌّ معاكس لكل ما تتمناه أي ابنة رُزقت بأب حقيقي.) أمسكت يد شقيقتها بحزم، تستطرد قبل أن تغادر برفقتها )أريد زوجا لا يشبه أبي في شيء.) وانطلقت تجر شقيقتها خلفها، فصاح بغضب وتوعد )ستندمين يا غبية! لن يهتم بك أحد، وستعودين لكن حينها أنا سأعيد تربيتك من جديد!) ارتد رأسه من صوت ضربها لباب بيتهم بحدة وعنف خلفها، فهمس بقلق وامتعاض (ليس لدي حل سوى خديجة، بئساً للأمر لماذا الأمور كلها ضدي؟)
***

طوع يدي الحق..2.. سلسلة نساء صالحات...للكاتبة منى لطيفي نصر الدينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن