لم يرحل

12 3 0
                                    

ابريل /2017
ميلانو / ايطاليا

لم تتخطى فلورنسا (20 عاما) وفاة والدها بسهولة
خصوصاً انها كانت تعيش معظم اوقاتها برفقته ، يوصلها الى جامعتها صباحاً ثم يعود ليقلها الى المنزل بعد الظهيرة ،اصدقاء أكثر من كونهما أب وأبنته، عانت كثيراً بعد وفاته وشعرت أنها قد فقدت الجزء الحنون والصدر الدافئ من حياتها.
تراجعت صحتها ودراستها والأسوء من ذلك اصيبت بأحد اكثر امراض الفصام تعقيداً "الشيزوفرينيا إذ بدأت تفقد حاضرها الأساسي وعيشتها الواقعية
عائدةً الى الأفتراض الذي وضعه المرض في عقلها الباطن.
في فجرٍ ما، كان السهر قد نال منها ما نال واصبحت حياتها تشبه طيور الليل ، اثناء جلوسها امام حاسوبها المحمول كانت تتصفح المواقع على الإنترنت
ليلفت انتباهها إعلان مسابقة تحدي جسدي على موقع إنستغرام ، قيمة جائزة المسابقة تبلغ خمسون ألف يورو ، موقع المسابقة في احد غابات "أمبرا" جنوبي إيطاليا ، لم يتضمن الإعلان اي معلوماتٍ أخرى عن المسابقة سوى الموقع وقيمة الجائزة.
شعرت فلورنسا بشيء من التشويق والحماس مع بعض الخوف يدب في ربوع جسدها الوهن.
عادت الأصوات الى رأسها مجدداً " إذهبي يا فلورنسا قد يكون هذا التحدي طريق خلاصك" واصواتٌ اخرى تناقض الأصوات الذي تخبرها بالذهاب " إياك فلورنسا إياك ستغرقين هناك"
بدأت فلورنسا تفكر بجدية أكبر
ووجدت أنها بقيمة هذه الجائزة قد تجد علاجاً افضل لحالتها المزرية.
قررت فلورنسا بعد وقت من التفكير حزم حقيبتها للمشاركة والتوجه نحو غابات امبرا جنوباً ومواجهة التحديات التي ستضعها المسابقة
لتتفاجىء بموقع ضخم والعديد من المتسابقين الذين اعلنوا مشاركتهم أيضاً في هذا التحدي الكبير.
تقدمت سيدة متوسطة العمر تدعى "فلوريا" وهي نائب رئيس لجنة المسابقات ،
فلوريا - نحن سعداء بوجودكم هنا سنعطيكم بعض الأوراق الإستبيانية ويجب عليكم ملؤها.
تفاجىء المشاركين بأن هذه الأوراق هي تنصل عن مسؤولية ماسيحدث لهم من متاعب حتى لو كلفهم الأمر حياتهم .
وقع بعضهم وانسحب بعضهم وكانت فلورنسا ممن وقعوا على المشاركة بالمسابقة رغم أي متاعب قد تواجهها.
سمعت احد المتسابقين "لويزيتو" 23 عاماً
يقول" يبدو أن احد خصومي سيكون عنيداً". لم تلقى فلورنسا أي اهتمام لحديث "لويزيتو".
فلوريا - رجاءاً لا نريد التدخل بشؤون الاخرين ، ستبدا المسابقة غداً عند السابعة صباحاً استمتعوا بنهاركم كل شيء سيكون متوفر من طعام طازج ومبيت.
تجولت فلورنسا في موقع المسابقة وتسائلت عما ستواجهه لم تلقي بالاً للمخاوف والاحاديث التي كانت تقطن في رأسها، أما لويزيتو فقد كان الاخر يتفحص الموقع مرةً ويلقي بنظره على فلورنسا مرة.
في صباح اليوم التالي استيقظ المتسابقين وبعد إفطار خفيف توجهوا نحو خيمة السيدة فلوريا،
فلوريا- صباح الخير اتمنى لكم حظاً موفقاً جميعاً واتمنى تخرجوا من هذا التحدي بخير.
لويزيتو- إذا كان التحدي شاقاً الى هذا الحد أليس من المفترض أن توفري لنا بعض الادوات التي تساعدنا في رحلتنا!
فلوريا- بكل تأكيد ستجدون قبل توجهكم الى البوابة جميع الأدوات والملابس التي تناسبكم في مهمتكم.
لم تنطق فلورنسا بحرف واحد فقد كانت الأجتماعات والأحاديث في داخل رأسها كافية، لكنها تنبهت على لويزيتو وهو يتتبعها بنظراته.
توجه الجميع نحو البوابة بعد أن اذنت فلوريا لهم وأعلنت بداية التحدي.
دخل الجميع وكانت اخرهم فلورنسا التي ترددت بسبب مايدور براسها من شد وجذب لكنها في النهاية تشجعت على الدخول لتتفاجىء بما كان خلف البوابة.
ذُهلت فلورنسا من عجيب ما رأت حيث رغم دخول الجميع لم يكن هناك اي شخص من المشاركين خلف البوابة
فلورنسا- مرحباااااا ... أين ذهب الجميع لا تتلاعبوا بي !!!
كان المكان يشوبه ظلام وضياء
وبركة ماء امامها ،رقعةٌ صغيرة حيث تتوقف فلورنسا لا تعلم أين تذهب بدأت احاديث عقلها بلومها " ستبقين هنا الى الأبد" بعد وقت ليس بقصير منذ لحظة دخولها شاهدت فلورنسا شخصاً من بعيد تحت بقعة من الضوء في ظلام هذه المتاهة، بعد تركيز شديد ..
فلورنسا - مرحباً .. من هناك
امتلىء المكان بصدى صوتها المرتجف
فلورنسا مجدداً - من هناك!!
لتنصدم بعد تركيز شديد بأن الصوت القادم من تلك البقعة المضيئة هو صوت والدها "باولو" شعرت بشيءٍ من الطمأنينة والغرابة والعجب ولم تكن تعلم أن مرضها سيصور لها الاشخاص المتوفيين بهيئة حية لا تختلف عن الواقع.
باولو- انهضي يا إبنتي واتبعي روائح المكان والضياء وستجدين المخرج حتماً سأكون خلفك حتى النهاية أياً كان نوع تلك النهاية.
فلورنسا- لن تكون هناك نهاية هذه المرة سنخرج معاً.
باولو- هيا ياعزيزتي فالطريق سيكون مليئاً بالمتاعب.
انتفضت فلورنسا ونزلت من مكان وقوفها بأتجاه شبح والدها الذي كان النقطة الدالة عند كل نقطة خروج من مرحلة ما في تلك المتاهة يبتسم لها فتشعر بالقوة تسري في جسدها المتعب كان ظل باولو ملازماً امامها بإبتسامته التي جعلتها تتناسى الظلام الداكن الي يشوب هذا المكان.
بعد الكثير من السقوط والنهوض والعديد من الألغار والمتاعب التي استطاعت فلورنسا مواجهتها واجتيازها ،ابصرت الفتاة نقطةً مضيئةً في مكان شاهق لا طريق له الا الصعود لتجد ظل والدها مجدداً يقف عند تلك النقطة
باولو- عزيزتي أنه الصعود للمرة الاخيرة ستجدين ضياء النهار ونهاية هذا التحدي اللعين وستتخلصين من سموم دماغك وتكتفين بكل شيء اخبرتك به مسبقاً
فلورنسا- اخاف أن افقدك مرة اخرى
باولو- لقد رحلت مسبقاً ياإبنتي فلتتعودي على ذلك ولتكملي طريقك إن بقي حالك هكذا سأكون اكبر عائق في جميع دروبك.
فلورنسا- لا تقل هذا .. ابقى فقط.
تفحصت فلورنسا حقيبتها لتجد ما قد يساعدها في الصعود فوجدت حبلاً واثنان من المعاول لفت الحبل على جسدها من اجل رميه حين تكون على مقربةٍ من النهاية وبدأت بالصعود بتثبيت المعاول في صخور الكهف المريب .
استطاعت فلورنسا الوصول الى اكثر من منتصف هذا الارتفاع ، ثم فتحت الحبل من خصرها لرميه لعله يشبك في احدى صخور هذا الكهف، انشغلت فلورنسا برمي الحبل وفي كل مرة يعود اليها الحبل دون أن يشبك بأي ثقل ثابت ، عند اخر مرة رمت الحبل بقوة ليفلت من يدها ويعود هذه المرة هاوياً نحو الاسفل من ادنى نقطة انطلقت منها فلورنسا. شعرت الفتاة بشيء من اليأس والاحباط لكنها استجمعت قواها وبدأت بالصعود بالمعاول فقط تثبت واحداً بين الصخور وتتبعه بآخر ، لاحظت فلورنسا ان الصخور بدت عليها الهشاشة مع كل لحظة صعود ، لم تلقي بالاً لكل هذا واستمرت بالصعود حتى اصبحت على بعد بضعة سنتيمترات من الوصول الى قمة هذا العلو اللعين ،
فلورنسا - حسنا ربما ضربة معول او اثنين وننتهي من كل هذا.
ضربت فلورنسا المعول لتثبيته بين الصخور لتنصدم بأن هشاشة الصخور منعت تثبيت تلك الاداة ، بقيت فلورنسا متعلقة بالمعول الاخر وبيدٍ واحدة وقد نال منها التعب.
فلورنسا- الى متى سيصمد المعول الآخر يجب عليه المحاولة مجدداً قبل انهيار هذه الصخرة الرخوة.
حاولت مجدداً الصعود ولم تتمكن من تثبيت المعول حتى نال منها التعب ، استجمعت قواها للمرة الاخيرة ومع لحظة رفعها المعول انهارت الصخرة المثبت بها المعول الاخر ومع رفعها يدها لتثبيت الاخر التقطتها يد مجهولة ...
فلورنسا- أبي !!
لويزيتو - لست والدك يا فتاة تمسكي بيدي فقط.
فلورنسا- أياً كنت .. انقذني فقط ، فالعيش مع بنات افكاري افضل من متاعب هذا الكهف.
استطاع لويزيتو سحب فلورنسا وتمكنا من الخروج معاً من هذا التحدي ووجدوا أن كل شخص لم ينجح في الخروج من هذه المتاهة كان يتلقى العلاج والمساعدة بالخارج.
لاحظت السيدة فلوريا تعجب لويزيتو وفلورنسا من ذلك..
فلوريا -غريب صحيح ؟
حسناً لقد كنا نبحث عن الاكثر جاهزية وعن من يملك قوة القلب ، ستتمكنان من تسلم الجائزة لاحقاً.شكراً لكم.
بعد نيل فلورنسا قسطاً من الراحة لاحظت اختفاء الاحاديث والافكار التي كانت تقطن في رأسها ، نوعاً ما من الصفاء العقلي بعد كل هذا التعب
بعد تسلمها الجائزة تشكرت منقذها والذي يعتبر شريكا لها في الجائزة واخبرته بأن ما فعله لن يُنسى.
غادرت فلورنسا تلك الغابة والتي اعتبرتها نقطة فاصلة في حياتها استعادت بها شيئاً من السعادة المسلوبة ،واصبحت على دراية بما في داخلها من شجاعة رغم ما كانت تمر به من ضائقةٍ عاطفية ومشاعر سوداء قد تراكمت بمرور الأيام التي مضت وأخذت منها عبيرها وصفوها الداخلي.

#أسامة_حسن

رحلة في الظَللِحيث تعيش القصص. اكتشف الآن