فصل1: رحيل أم عودة؟

52 2 0
                                    


بالجهة الأخرى من البحر آدم يحزم أمتعته، حقيبة ظهر تحوي وثائقه وبعض الثياب فهو لم يرد أن يثقل نفسه أكثر مما كانت عليه بدا في عجلة من أمره للرحيل تماما كيوم قدومه المرة الأولى.

- مصطفى خد مفاتيح المنزل انه لك من الآن حتى أجل آخر واعتني بنفسك لقد وجدت تذكرة مباشرة لمطار قسنطينة في آخر لحظة سأحتاج لتوصيل من فضلك اعتني بنفسك يا صاحبي.

- أنت ذاهب للجزائر، ما هذا السفر المفاجئ؟

-لم أخطط لذلك صدقني أنا متفاجئ مثلك.

- كم تنوي المكوث بالبلاد؟

-لا أعلم ربما شهرا او أكثر لا أدري حقا.

- وعملك؟ لا أفهم ما الذي ستفعله هناك ما بك يا رجل إنك أحسن بكثير مما كنت عليه بالجزائر ثم انت لم تذهب هناك منذ سنوات لم الآن.

- إنني أختنق، أختنق أتفهم يا صاحبي، أخدت عطلة مفتوحة وسأعمل من الكمبيوتر سأعود للبلاد واستغل الفرصة لمراجعة نفسي.

- تختنق بدونها ليس كذلك؟

وضع يده على كتف آدم، نظر إليه وفهم الجواب من دون حتى أن ينطق به ذلك الأخير، علم أن صديقه لا ينوي الابتعاد وإنما مواجهة ماضيه فاهرب من قدرك ما شئت في النهاية سيجدك ويمسكك حتما كالموت الذي يطوق أهله من كل مكان يبث فيك رهبة تشعرك بعجز تام.

-ما الذي تقوله الآن هيا بنا سيفوتني موعد الطائرة

في تلك الليلة الشتوية هطلت امطار غزيرة، برد شديد وسيارة متجهة نحو المطار نزل الرجلان ودخلا جلسا بأحد المقاعد لم ينطق أحدهما بكلمة بقيا كذلك حتى سمعا صوت المكبر النداء الأخير بخصوص رحلة (باريس ـ قسنطينةَ) نهض آدم لإتمام آخر الإجراءات وحان موعد الالتحاق بالطائرة تعانق الصديقين تبادلا بعض الكلام لحظة الافتراق

-آدم بلغ سلامي لصديقنا عماد لا تنسى أرجوك.

-لا عليك فأنا سأزوره حتما لقد اشتقت لذلك المختل أيضا.

استدار آدم متجها نحو وجهته وأعطى كل ظهره للآخر، لم تكن تلك أول مرة.

صوت مشوش يتكلم عبر المكبر مرحبا نعلم ركابنا الكرام أننا نحلق الآن فوق مطار قسنطينة الرجاء الجلوس بمقاعدكم ووضع أحزمة الأمان تتمنى لكم شركتنا وقتا ممتعا".

هبطت الطائرة أخيرا بمطار قسنطينة وترجل الركاب انتظر آدم نزول الجميع وتبعهم. ها أنا ذا أرجع لأرض الوطن، بعد ثمان سنوات اتنفس هواء بلدي وأشم ترابه الذي لم يتغير عطره البتة يا ترى هل تغيرت الكثير من الأشياء بغيابي أم بعضها بقي وفيا كهذا التراب نقيا كهذا الوطن الذي تركته هاربًا منه رغم ذلك مازال يرحب بي بكل حرارة ويزيد من عذابي، لكل من يعيش بغربة بعيدا عن أهله ووطنه شعور خاص عند الرجوع احساس بين الحب والحسرة بعض الحزن أحيانا وتارة ذكريات أليمة تتملكنا نخفيها خلف ابتسامة تعبة بحجة ارهاق السفر.

استقلُّ سيارة أجرة توصلني حتى بيتي بسكيكدة التي تبعد قرابة الساعتين عن قسنطينة، لا أعير الكثير من الانتباه للطرقات والأماكن فلا شيء يتغير هنا، كل شيء على حاله نفس الطرقات والمطبات حتى أنَّ اللافتات لم تٌغيّر فهي ساعتان من الملل لا غير. بضع دقائق تلت وصولي كانت كفيلة بتغيير رأيي.

رؤية حيي زعزعت قلبي وجعلته يهتز بقفصه، ذلك المنظر لم يكن بالشيء الجديد الا أني لم أفهم احساسي حينها فقد سرّب دماغي كمية هائلة من الذكريات دفعة واحدة لدرجة أني بقيت ساكنا بمكاني الوهلة.

دفعت للسائق وبقيت هناك متأملا المكان، حي شعبي تقليدي كمعظم أحيائنا من الطبقة المتوسطة طرقات مهترئة، بنايات بهت لونها تروي قصة شباب وقفوا هنا منذ زمن تروي قصص فشل ونجاح، افراح وفي بعض الأحيان الكثير من الفراق فهنا ودع آدم والديه لما اخرجهما في الصناديق، هنا قبل جبينهما لآخر مرة هنا تخلى عن الكثير، مر الشريط كأنه حقيقي حتى أن الحي لم يصبح فارغا وامتلأ تلك الليلة بالجيران والأطفال، تبدد الظلام و ها هو ذا عمي علي ينهر الأطفال ويوبخهم لأنه يريد بعض الهدوء، عمتي يمينة تصرخ مجددا على ابنها عماد لأنه ليس جادا بدراسته يهرب ويختبئ بالمحل أسفل البناية تسألنا ان رأيناه وننفي ذلك بعض الفتيات يلعبن في الجهة الأحرى كن كعرائس برباط شعرهن المتدلي وأثوابهن و نضايقهن مجددا لأجل الضحك لا غير فتضربني احداهن بينما نحن كذلك يمر بائع المنظفات جافيل ،قريزيل .... وتنهال عليه النسوة من كل مكان، تناديني أختي الكبرى من شرفة منزلنا وتتوعدني الويل مشيرة بحركة من يدها ثم تأمرني بشراء الخبز الذي سآكل نصفه في طريق العودة يذهب أصدقائي معي في هذا المشوار الصغير ونتشارك أحلامنا وآمالنا كنا كالعصافير التي تريد أن تنطلق من العش نتوق للحرية وتحقيق شيء ما فلطالما تكلمنا عن كوننا سنصبح أغنياء أحدهم قال أنه يريد ذلك من أجل أمه والآخر قال أريد منزلا جديدا واسعا ضقت ذرعا من اخوتي، أما أنا فقلت حتى تكون لي وأشرت بإصبعي لمدللة الحي يضحك أصحابي بصوت عال ويستهزؤون بي فأخجل و نتعارك مجددا عراكا أخويا خاليا من العنف فقط حتى ننسى الموضوع نطرح بعضنا أرضا و تتعال ضحكاتنا قهقهتنا كانت تدوي المكان حتى أني أكاد أقسم انني سمعت صداها لحظة وصولي بين هذه الجدران القديمة .

أرجع للحاضر مرغما فكل هذا صار من الماضي يرجع الظلام وهدوء الليل تختفي كل الشخصيات فلا الجيران هنا ولا أصدقائي ولا حتى أنا.

رفع رأسه ورمق شباك بيته المغلق، تنهد مطولا وصعد السلالم حتى الطابق الأخير حيث شقة العائلة القديمة، صعد في صمت بخطوات ثقيلة كأنه يتحسس الدرج القديم كل خدش أو خربشة بتلك الجدران عنت شيئا ما فبعض الأشياء تحمل ذكريات أكثر مما نتصور.

كان البيت كما تركه منذ سنين بنفس الأثاث القديم مغطى بأقمشة بيضاء لا شك أن أخته من فعلت ذلك الأسوار لازالت تحمل نفس الندوب والتصدعات الباب يصدر نفس صوت الصرير أو ربما أكثر مما كان عليه، جال دلك البيت الصغير بنظراته في لفة واحدة لكنه ظل يسرح ويدور من غرفة لأخرى كمن يبحث عن شيء تحسس الأثاث والأبواب وكلم نفسه

-كل زاوية هنا تعرفني تماما، كل ركن من هذا البيت يملك شيئا يخصني.

وضع حقيبته بغرفته القديمة وارتمى فوق السرير ما صنع غيمة من الغبار الذي لم يمنعه من النوم حتى أنه لم يتكبد عناء نزع ملابسه إحساس غريب بالأمان يعتريه يجعله يغمض عينيه ويغط في نوم عميق كما لو أنه لم ينم منذ زمن، أهكذا نحس بالديار؟ أهذا هو الأمان الذي جعله يعود؟ كل ذلك لم يكن مهما كثيرا حاليا فمن هذه اللحظة لن يعود آدم كما جاء أبدًا. 

من شرفة لأخرىWhere stories live. Discover now