الفصل الثاني عشر

1 0 0
                                    

كانت تلك اللحظة أشبه بريشة الزمن التي تخط بمدادها مصيرًا مجهولًا، حينما وقفت أم قمر الدين على عتبة السؤال الذي يثقل القلب، تساءلت عن مصير المائة ألف جنيه التي أرسلتها، وقلبها يترنح بين شُرفات القلق وفزع الإجابة. كانت خشيةُ سماعِ أيّ نبأٍ مزلزل، كريحٍ عاتيةٍ تهبُ على سكونها الداخلي، لكن طمأنينة دافئة انسابت إلى أعماقها، كماءٍ يروي عطش الأرض، حين نطق السائق، وهو ما زال في سيارته، مُستعدًا للانطلاق، قائلًا:
_وصلوا يا فندم.

أم قمر الدين:أوكي باي.

انتهت المكالمة بين أم قمر الدين والسائق كطيّ صفحة في كتاب من الحذر. انطلق كل منهما في مساره، فالسائق عاد أدراجه نحو المدينة، بينما نهضت أم قمر الدين من فوق كرسيها المزخرف، كرمزٍ صامت لثرائها، واتجهت نحو الحديقة المترامية الأطراف، حيث ارتفعت يدها برفق لتضغط على زر الاتصال بأم الديب، تلك المرأة التي يختفي خلف ملامحها شيء من الغموض، للتأكد مما إذا كانت كلمات السائق تحمل الحقيقة، وفي تلك اللحظة، كانت أم الديب تجلس على حصير متواضع قبال التلفاز، حياتها تمضي في عبث لا ينقطع، لا تجد لذة سوى في اللهو الساذج وأكل الجزر الذي يملأ وقتها بمتعة عابرة. لكن تحت هذا القناع البسيط، كانت تخبئ فكرة ماكرة تراقصت في ذهنها منذ زمن بعيد؛ فكرة تآمرية، لا تعترف فيها بوصول المبلغ، حتى تضمن لنفسها طلبًا جديدًا بمائة ألف جنيه أخرى، تمتصها كمن يستغل الفرصة بشراسة، لتراكم ثروة تلبي بها طموحاتها، وتُجهز بها ابنتها هايدي للعالم الذي تنتظره. جاء صوت أم قمر الدين عبر الهاتف، يحمل في طياته قلقًا يتصاعد كسحابةٍ سوداء على شفا عاصفة، مُتسائلة:
_الفلوس وصلت يا أم الديب؟

أم الديب ببُهتان:فلوس إيه يا ست بسملة؟

أم قمر الدين بقلق:الفلوس اللي بعتهالك مع الحرس!

أم الديب بخداع:ايهي محدش جه ولا شوفته، يطلع مين دهو؟

أم قمر الدين بصدمة:انتي بتتكلمي بجد؟ يعني مفيش فلوس وصلت؟

أم الديب:لا يا ست هانم وآني هكدب ليه؟

أم قمر الدين بتضايق:أوكي هكلمك بعدين.

بعد انتهاء المكالمة، اجتاحت عروق أم قمر الدين موجات من المرارة، كماء يغلي في عمق بحر هائج، شعرت بأن السائق، ذاك الذي عهدته بالولاء والتفاني عبر سنوات مديدة، قد خان ثقتها وخدعها بمهارةٍ خفية. لم تتجرأ أفكارها حتى على توجيه الاتهام نحو أم الديب، بل ألقت بثقل شكوكها كاملًا على ذلك الرجل الذي لطالما كان رمزًا للإخلاص في أعينها.

مرّت ثلاث ساعات ثقيلة، حتى وصل السائق إلى بوابة القصر الفخمة، ترجل من سيارته ووقف بين الحراس يتبادل الحديث معهم ببراءة لا تعي ما يختبئ في الأفق. كان يظن أن اليوم سيمضي كما اعتاد، غير مُدرك أن الغيوم المتجمعة فوق رأسه تحمل عاصفة من الاتهام.

رواية أم الديب الجزء الثالثحيث تعيش القصص. اكتشف الآن