5- كيف بدأ الإلحاد؟

3 0 0
                                    

بداية الإلحاد كانت مع القرن الثامن عشر الميلادي، حين ظهرت موجة لتأويل النصوص الدينية في أوروبا على يد دُعاة التنوير والعلمانيين.
وهذا أخطر مداخل الإلحاد على الإطلاق: تأويل النص الديني تأويلًا فاسدًا يُخرجه عن معناه، هذا أخطر مدخل إلحاديٌّ!
لأن تأويل النص الديني بما يخرجه عن معناه سيُؤدي إلى التشكيك في قيمة النص، ومصداقية المعنى، وسيجعل ما يطرأ على ذهنك من فهم النص بلا وثوقية!
فانتشر الإلحاد في الغرب، حين فقد الناس الثقة بالنص الديني!!
وهذا بالمناسبة ما يحاول دُعاة ما يُسمى بالتنوير في بلادنا تطبيقه اليوم مع الإسلام.
يحاولون اللعب بالنصوص الشرعية حتى يوهنوا قيمتها في النفس، ويخرجوها عن معناها!
مثال ذلك: أنت تقول: الخمر حرام بالإجماع!
والملحد يقول: الخمر حلال...
فهنا يأتي التنويري ويقول لك: سأقوم بتأويل النص الديني حتى أجعل الخمر حلالًا!
هذا مشروع التنوير في بلادنا بإيجازٍ شديدٍ، وهو أكبر مدخل للإلحاد، وكانت هذه بداية الإلحاد في أوروبا.
لكن حتى القرن الثامن عشر الميلادي لم يكن الإلحاد الذي هو إنكار الخالق قد ظهر بعدُ!
فقط ظهر نوع من التمرُّد على الدين، وأشهر شخصية معادية للدين في ذاك الوقت، هو الفيلسوف الفرنسي فولتير().
وفولتير كغيره من دُعاة التمرُّد على الدين في ذاك الوقت لم يكن ملحدًا الإلحاد الاصطلاحيَّ المعروف اليوم، وإنما فقط رافض لمسيحية الكنيسة؛ ولذلك لم يمانع فولتير من شرح الأخلاق في إطار الدين لخدمه، وكان يقول كلمته الشهيرة: "لو لم يكن هناك إله لخانتني زوجتي وسرقني خادمي". والأعجب أنه قام في أواخر حياته ببناء كنيسة بالقُرب من قصره نقش على مدخلها: "يا رب، اذكُرْ عبدك فولتير"().
وادَّعى أنها الكنيسة الوحيدة المُخصَّصة للإله وحده على هذه الأرض، أما الكنائس الأخرى فهي مُخصَّصة للقديسين، وكان يرسل خدمه إلى الكنيسة بانتظام ويدفع أجور تعليم أبنائهم قواعدَ الديانة.
فنحن حتى هذه اللحظة لم نرصد الإلحاد بمعناه المعاصر.
ويدخل القرن التاسع عشر ليبدأ في هذا القرن تحديدًا التنظير الفعلي للإلحاد، وتتأسَّس الأفكار التي سينبني عليها الإلحاد:
فيظهر التنظير الاقتصادي للإلحاد عند كارل ماركس().
حيث اعتبر ماركس أن الاقتصاد هو البنية التحتية الوحيدة، أما الدين فسيختفي في المجتمع الشيوعي في مرحلة تالية.
وفي ذاك الوقت ظهرت نظرية التطوُّر على يد تشارلز داروين، والتي زعم فيها أن الكائنات الحية تطوَّرت من بعضها البعض().
وبعد تشارلز داروين ظهر باحث فرنسي في علم الاجتماع يُدعى إيميل دوركايم:()
حاول دوركايم أن يضع تفسيرًا لسبب اعتناق الدين، فاعتبر أن الدين نشأ نتيجة المجتمع والجماعة، حيث تشترك العشائر في لقب واحد فيما يُعرف بالطوطم Totem، وهذا الطوطم في الغالب يكون لقبًا حيوانيًّا، ومن هنا نشأ الدين عند دوركايم.
من المعلوم عند علماء الاجتماع اليوم أن تخيُّلات دوركايم أصبحت هباءً منثورًا، فهناك أُمم كاملة وحضارات، بل وقارات لا تعرف شيئًا عن الطوطم، ولا يوجد عندهم نظام الألقاب الحيوانية، ومع ذلك توجد عند هؤلاء جميعًا: عقيدة الإيمان بالله الأعلى بصورة واضحة().
والعجيب أنه قد تبيَّن مؤخرًا أن فكرة الطوطم في القبائل القديمة هي فكرة اقتصادية وليست فكرةً دينية، فالطوطم شعار قومي ورمز يُعرِّف القبائل بأنسابها، هو شيء أشبه بالعَلَم الخاص بالدول اليوم.

أما فكرة أن الدين أنشأه المجتمع، فهذه فكرة سخيفة، فممَّا هو معلوم أن الدين في الأصل ظاهرة فردية، هو عَلاقة بين الإنسان وربه...
ثم كيف يُنشئ العقل الجمعي الدين؟
هل سمع أحد بديانة تظهر ثم يقبلها المجتمع مباشرةً؟
أم أن العكس هو الحاصل دومًا؟
فالموقف المعتاد المتكرر هو: المناهضة للديانة الجديدة، والمقاومة العنيفة لداعيها! أليس هذا أصلًا تاريخيًّا مُشاهدًا ومتكررًا؟
ثم إن هذا الافتراض السخيف عند دوركايم لا يجيب عن السؤال الجوهري: مِن أين جاءت فكرة الإله الأكبر فاطر السماوات والأرض، وعلى غِرار أي جماعة أو مجتمع طُبعت هذه الصورة؟ وكيف قامت الدعوات لها عبر كل التاريخ وكل الجغرافيا، عبر كل الزمان وعبر تاريخ كل الأنبياء؟()
للأسف خيالات دوركايم ظلت لعقود تُدرَّس في جامعات أوروبا باعتبارها حقائق تاريخية.
وبالمناسبة دوركايم كان له دورٌ كبيرٌ في تدليس المعرفة عند الأوروبيين عندما كان يطرح حفلات القبائل البدائية بما فيها من عربدة وارتكاب للمُحرَّمات كمظهر تديُّني عندهم، فقد ثبت أن هذه الحفلات كانت تمردًا على هيكل الحياة الاجتماعية والدينية للقبيلة وليس العكس، وأصبحت الآن هذه الحقيقة من أشهر تدليسات دوركايم!
فالنظم القبلية في كل المجتمعات تقوم على الفصل التام بين الجنسين؛ لقد جعل دوركايم بأسلوب غريب التمرُّد على الدين والحفلات الماجنة مظهرًا دينيًّا.
إذنْ خُلاصة ما سبق: تسرَّبت على أيدي داروين وماركس ودوركايم الكثيرُ من المعلومات المغلوطة إلى العقل الأوروبي، فظهر الشك والإلحاد.
كانت البداية مع هؤلاء، وسوف تكون النهاية مع أشباههم!
ومع دخول القرن العشرين أصبح الإلحاد مشروعًا واقعًا على الأرض، وتبنَّى التنظير الاقتصادي لكارل ماركس دُوَل بأكملها!
فظهرت الشيوعية في كثير من دول شرق أوروبا وروسيا والصين وفيتنام وكوريا وكوبا وغيرها، وظهر التنظير البيولوجي لتشارلز داروين في ألمانيا النازية، ونشأت الحرب العالمية الثانية بناءً على مفهوم البقاء للأصلح وإبادة الأعراق الضعيفة، حيث ظهر مفهوم إبادة الـSubman أي: الأعراق المُنحطَّة كما يُسمُّونها.

لقد فشلت التنظيرات الإلحادية في البقاء، فانهارت النازية بعد أن كشفت عن الوجه القبيح للعنصرية، واختفاء معنى الإنسان في الإلحاد، وانهارت الماركسية وتفكَّك الاتحاد السوفيتي، وظهر عجز الإلحاد التام عن تحليل ظاهرة الإنسان!
فالإنسان لا يمكن أن يُفسَّر وَفْقًا لهذه التنظيرات الفاسدة.
ومع دخول القرن الحادي والعشرين ظهر الإلحاد بزيٍّ جديدٍ تمامًا، فقد اتَّشح زورًا بالعلم وتَسمَّى بـ"الإلحاد العلمي"، وبدأ يُقدم نفسه مرة أخرى معتمدًا هذه المرة على افتراضات وتخمينات جديدة لا تقلُّ سطحيةً عن الافتراضات القديمة، ولا تقل خطورةً على الإنسان عنها!
لكن مشكلة هذا النوع الجديد أنه يستخدم عصا العلم ليُغري أنصاف المثقفين والجيل الصاعد به!
مشروع هذا الكتاب الذي بين يديك الآن هو في: كشف حقيقة الإلحاد الجديد، والنظر فيما تلبَّس به من دعاوى عِلمية

بصائر Where stories live. Discover now