"الشفاء بنت عبد الله: حكمة وإيمان"

11 4 2
                                    

في زوايا التاريخ العريق، تختبئ قصصٌ لنساء عظيماتٍ غيّرن وجه العالم بإيمانٍ صادق وعزيمةٍ لا تلين. لم يكنّ مجرد أسماء تُذكر على الهامش، بل كنّ مناراتٍ للعلم والشجاعة، سطّرن بإنجازاتهن دروسًا لا تُنسى في الإيمان والعمل. كانت كل خطوةٍ في حياتهن حكايةً من الصبر والقدوة، تُلهم الأجيال وتُضيء دروب المستقبل بنور الحكمة والإيمان. هؤلاء النساء هنّ الشاهد الحي على أن العظمة لا تُقاس بالقوة الجسدية، بل بقوة الروح والإرادة التي لا تُقهر.
.
.
.
.

في أزقة مكة القديمة، وبين بيوت قريش التي كانت تعج بالحياة البسيطة، عاشت امرأة مميزة، لم تكن كغيرها من النساء في ذلك الزمان. إنها الشفاء بنت عبد الله العدوية، واسمها الحقيقي ليلى بنت عبد الله بن عبد شمس، لكن اشتهرت بلقب "الشفاء" نسبةً إلى مهارتها في الرقية والعلاج. تميزت منذ صغرها بذكاء فطري، وحبٍ للعلم والمعرفة جعلها تتعلم القراءة والكتابة في مجتمع كان الأميّة فيه هي السائدة. ورغم القيود المفروضة على النساء في ذاك الوقت، استطاعت الشفاء أن تبرز كواحدة من النساء المتعلمات القلائل.

مع بزوغ فجر الإسلام، كانت الشفاء من أوائل من آمن برسالة النبي محمد ﷺ. لم تتردد في أن تضع كل علمها ومعرفتها في خدمة الدين الجديد، لتصبح رمزًا للمرأة المثقفة التي تتحدى قيود المجتمع لأجل ما تؤمن به. بايعت النبي ﷺ على الإسلام والطاعة، وشعرت بأن لها دورًا أكبر من مجرد الإيمان، دورًا يتجاوز حدود البيت إلى بناء مجتمع إسلامي جديد قائم على العلم والإيمان.

كانت الشفاء بنت عبد الله تتقن الرقية الصحيحة بالقرآن، وقد علمت حفصة بنت عمر بن الخطاب رقية النملة – وهي نوع من العلاج الشعبي للجروح والقروح – بإذن من النبي ﷺ، الذي كان يقدر علمها وحكمتها. أدرك النبي ﷺ قيمة العلم، وخصوصًا عندما يأتي من امرأة تسعى لنشره بين نساء المسلمين. لذا كلفها ﷺ بمهمة عظيمة، وهي تعليم النساء القراءة والكتابة، لتصبح الشفاء بذلك أول معلمة في الإسلام.

في مجلسها التعليمي البسيط، لم تكن الشفاء تكتفي بتعليم الحروف والكلمات، بل كانت تزرع في قلوب النساء قيمًا إيمانية عميقة، وتحثهن على التفقه في الدين وتربية أبنائهن على تعاليم الإسلام. كانت تعرف أن التعليم هو المفتاح لتحرير العقول، وأن المرأة المتعلمة هي الأساس في بناء جيل قوي مؤمن بدينه ومعتز بقدراته.

أصبحت الشفاء بنت عبد الله مثالًا يُحتذى به بين الصحابيات، وكانت قريبة من قلب النبي ﷺ، الذي كان يثني على علمها وينزلها منزلة خاصة. ومن شدة احترامه لها، كان يستشيرها في بعض الأمور العامة، مما جعلها تشعر بأهمية دورها ومسؤوليتها تجاه المجتمع.

ومع وفاة النبي ﷺ، استمرت الشفاء في أداء دورها التعليمي، لكن مكانتها ازدادت أكثر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أدرك عمر قيمة الشفاء وعلمها وحكمتها، فلم يتردد في تعيينها على مراقبة الأسواق في المدينة، وهو منصب هام كان يتطلب شخصية قوية وعادلة. لم تكن الشفاء مجرد مراقبة على البيع والشراء، بل كانت تضمن أن تسير الأمور وفق مبادئ الإسلام، حيث العدل والأمانة فوق كل اعتبار.

وفي إحدى المرات، بينما كانت تتجول في السوق، لاحظت غشًا من أحد التجار، فتقدمت نحوه بثقة وقالت: "اتق الله ولا تغش، فالله يرى ما تصنع." لم تكن كلماتها مجرد نصيحة عابرة، بل كانت بمثابة تحذير يحمله صوت الحق، صوت امرأة لم تخشَ في الله لومة لائم.

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدر الشفاء حق قدرها، وكان يقول عنها: "قدمت إلى المدينة وليس فيها أحد أعلم بالقراءة والكتابة والرقية من الشفاء." وكان لا يتردد في استشارتها في أمور الدولة، مما يعكس ثقة القيادة الإسلامية في حكمة النساء العالمات ودورهن الفاعل في بناء الأمة.

عاشت الشفاء بنت عبد الله حياتها كامرأة متعلمة ومعلمة، وقائدة في مجتمعها. لم تكن تنظر إلى علمها كميزة شخصية، بل كأمانة ومسؤولية يجب أن تُنقل إلى الآخرين. وعندما رحلت عن الدنيا، تركت وراءها أثرًا لا يُمحى، وأصبحت قصتها مصدر إلهام لكل من يسعى لنشر العلم وخدمة الناس.
.

.

قصة الشفاء بنت عبد الله العدوية تظل شاهدًا على عظمة دور المرأة المسلمة في بناء مجتمع متعلم ومؤمن. كانت حياتها تجسيدًا لمعاني الحكمة، والتضحية، والتعليم، ولم تتوانَ لحظة في تقديم كل ما لديها من علم وإيمان لأجل رفعة الإسلام والمسلمين.
.

.

.

.

.

نَجْمَةٌ تُضِيءُ لَنَا دُرُوبَ الإِيمَانِ.

عَظِيمَاتُ الإِسْلَامِحيث تعيش القصص. اكتشف الآن