⚘
الخَنْسَاء بِنْت عَمْرو، شاعرة العرب وصابرة الإسلام، نموذج فريد للمرأة التي جمعت بين الشعر والإيمان. عاشت بين الجاهلية والإسلام، فألهمت بقصائدها وخلدت بصلابتها، لتكون رمزًا للصبر والثبات في مواجهة المحن والشدائد.
.
.
.
.الخَنْسَاء بِنْت عَمْرو بِنْ الحَارِث بِنْ الشَّرِيد، امرأةٌ تركت بصمةً لا تُمحى في تاريخ العرب، وهي التي عاشت بين ظُلمات الجاهلية ونور الإسلام، فكان قلبها مُمتلئًا بالشِّعر والحكمة والصبر. وُلِدَت في قبيلة سُلَيم، ونشأت في بيتٍ عربيّ أصيل يعتزُّ بقيم الشجاعة والكرم، وكان لأبيها مكانة مرموقة بين قومه. لُقِّبَت بالخنساء لجمال عينيها، لكنها لم تُذكر فقط بجمالها، بل بإبداعها الفريد في الشعر وقوة شخصيتها التي واجهت بها قسوة الحياة.
في أيام الجاهلية، كانت الخنساء شاعرة متميزة، فريدة في رثاءها لأخيها صخر بن عمرو الذي كان فارسًا نبيلًا وشهمًا. صخر لم يكن مجرد أخٍ للخنساء؛ بل كان عونها وسندها، وكان له الفضل الكبير في إعالتها بعد موت زوجها الأول. فقدانه كان كالصاعقة التي هزّت كيانها، فظلّت تبكيه وترثيه بشِعر يعبّر عن أصدق المشاعر وأشدّها ألمًا. كانت تقول فيه:
يَا عَيْنَ جُودِي بالدُّمُوعِ وَسُحِّي
وَفِي رَثَاءِ صَخْرِ أَطْلِقِي مَا تُجَنِّـيكان شعرها في صخر، يُعبِّر عن الفقد العظيم وعن ألمها الداخلي، ولم تكن ترثي أخاها فقط، بل رثت القوة والأمان الذي كان يمثله لها. لقد كانت الخنساء رمزًا للصبر في الجاهلية، وصبرها كان مرآةً لوجدان كل من فقد حبيبًا أو عزيزًا.
حين ظهر الإسلام، رأت الخنساء في دعوة النبيّ الكريم مُحمد ﷺ ما يروي ظمأ روحها الباحثة عن الحق والعدل. أسلمت الخنساء بصدقٍ وإيمان، وتحوّل حزنها العميق على فقدان أخيها إلى قوة تدفعها نحو الإيمان الراسخ بالله واليوم الآخر. كان النبي ﷺ يُعجب بشعرها ويُثني على بليغ كلماتها، وقد رُوي أنه كان يقول: "هيه يا خنساء، تَجاوَزي هذا الشعر، واحْتَسبي، واصْبِري".
الخنساء تعلمت من النبيّ ﷺ معنى الصبر على الابتلاء، وعمَّق الإسلام لديها مشاعر الرضا بقضاء الله وقدره. أصبحت أكثر وعيًا بما يجب أن يكون عليه المسلم، وتحولت من الشاعرة المكلومة إلى المرأة المؤمنة الصابرة.
أبرز محطات حياة الخنساء وأكثرها تأثيرًا كانت يوم معركة القادسية، حين دفعت بأبنائها الأربعة إلى ميدان القتال، مشجّعةً إيّاهم على الجهاد في سبيل الله. كان أبناؤها الأربعة هم كل ما تبقى لها في هذه الدنيا، لكن إيمانها بالله كان أعظم من حُبِّها لهم.
في الليلة التي سبقت المعركة، اجتمعت بهم وقالت: "يا بنيّ، إِنَّكم أَسْلَمْتُم طَائِعِينَ، وهاجَرْتُم مُخْتَارِينَ، والله ما بَنِي بطنٍ من بُطُون العرب كَانُوا أكثر منكم حَلْقَةً في الحَرْب ولا أَنْدَرَ على عَدوٍّ، فإن رأيتموه فصْبُروا وصَابِروا، وَاثْبُتُوا؛ تُفْلِحُوا وتُنَصَرُوا".
تلك الكلمات لم تكن فقط من أمّ إلى أبنائها، بل كانت نصيحة من مؤمنة قوية العزيمة تعلمت أن الجهاد في سبيل الله هو غاية المسلم وحلمه الأكبر. وفي اليوم التالي، خاض الأبناء الأربعة المعركة بشجاعة لا مثيل لها، وقاتلوا حتى استُشهدوا جميعًا.
حين بلغها خبر استشهادهم، لم تَجْزَع الخنساء ولم تبكِ بكاء النساء، بل استقبلت الخبر بكلمات عظيمة صادرة من قلب مؤمن راضٍ بقضاء الله: "الحمد لله الذي شَرَّفني باستشهادهم"، هذه العبارة تُلخّص كل ما تعلمته الخنساء من الإسلام: الرضا والصبر والثبات في وجه الابتلاء.
بقيت الخنساء مثالًا خالدًا للصبر والقوة، لم تكن مجرّد شاعرة تفوَّقت على عصرها، بل كانت أيضًا امرأة قوية الإيمان واجهت قسوة الدنيا بصبر وتوكل على الله. شِعرها الذي كان في الجاهلية يقطر ألمًا، تحول في الإسلام إلى شعلة من الإيمان والاحتساب.
تُمثِّل الخنساء النموذج الأعلى للمرأة التي تُضحي وتُقدِّم كل ما تملك في سبيل الله، دون تردد أو خوف. هي قصة امرأة كانت تملك قلبًا شاعرًا، لكن إيمانها جعلها تتجاوز حدود الذات إلى آفاق الأمل والصبر على الابتلاء. قصتها تتردد بين الأجيال كحكاية خالدة لامرأة ملهمة، جمعت بين الشجاعة والشعر، وبين الإيمان والتضحية.
الخنساء تُعلّمنا اليوم أن العزيمة الصلبة والإيمان القوي يمكن أن يحولا الألم إلى مصدر قوة، وأن المرأة، حين تمتلئ بالإيمان، تكون قادرة على مواجهة أي شيء، تمامًا كما فعلت الخنساء، شاعرة العرب وصابرة الإسلام.
..
.
.
.
نَجْمَةٌ تُضِيءُ لَنَا دُرُوبَ الإِيمَانِ.
أنت تقرأ
عَظِيمَاتُ الإِسْلَامِ
Short Storyعظيمات الإسلام: دروس من حياة الصحابيات اكتشف قصص نساء صنعن الفارق في تاريخ الإسلام، حيث تروي كل قصة شجاعة وإيثار الصحابيات. تجسد هذه الروايات إيمانهن العميق وصبرهن في أصعب الظروف، مما يفتح أمامك نافذة على قوة الروح البشرية وكيف يمكن للتفاني أن يحقق...