قصة الغلام الشجاع والجنية

1 0 0
                                    

سمع هذا الطفل السيد محمد أمين ذات مرة حديثاً كان يجري بين والدته وإحدى النساء التي راحت تروي لها قصة غريبة زعمت أنها تحدث في كل ليلة، وأن نساء الحي كلهنَّ قد علمن بها وتحدَّثن عنها وتناقلوها.

هل سمعت يا أم سليم عن "الجنيّة"؟!.

ماذا "الجنيّة"!!!.

نعم "الجنيّة" التي تظهر في كل يوم في الحظيرة (الاسطبل أو "البايكة" وكان سابقاً لكل دار حظيرة للحيوانات).

لا والله لم أسمع عنها، ولكن من قال لك ومن أين سمعت؟.

نساء الحي كلهن قد سمعن عنها، يقولون إنها تظهر إذا ذهب أحدهم إلى هناك بعد منتصف الليل، وأنها تخرج على من يناديها ويطلبها، فيراها تحاكيه وتكلمه، ولقد قالوا أن أحدهم قد أمسك بها فراحت تتوسل إليه أن يدعها وشأنها وعندما رفض عرضت عليه أن يطلب منها ثلاث أمنيات، فإذا حققتها له يتركها تذهب وشأنها.

ولقد توسعت أصداء مثل هذه القصص، وانتشرت أخبارها فانشغل الناس بها حتى استحوذت على اهتمامهم وتفكيرهم، صار الكل يتحدث عنها، ومنهم من راح يختلق قصصاً وهمية ويحاول إقناع الناس أنها حدثت معه فعلاً.

ومن كثرة تردُّد أحداث هذه القصة إلى مسامع صغيرنا السيد محمد أمين الذي لم يكن قد بلغ من العمر بعد سوى ثلاث سنوات ونصف تقريباً، صدَّقها ولكن لم يشأ أن يُقرَّ بها تماماً قبل أن يتأكد بنفسه مما سمع وعلم.

* * *

فلمَّا كان الليل، خلد صغيرنا إلى سريره وتظاهر بالنوم ليُقنع أهله أنه نائم فيطمئنوا عليه، ولكن ما أن انتصف الليل، حتى غادر سريره، وتوجه ليهبط الدرج بخفة وهدوء متوجهاً إلى خارج المنزل، قاصداً تلك الحظيرة، حيث المكان الذي توجد فيه "الجنيّة".

لقد دعاه فضوله وحبه للاكتشاف إلى خوض هذه المغامرة، ليتعرَّف على "الجنيّة" عن قرب، وقد كان ينوي إذا رآها أن يمسك بها... ويشترط عليها حتى يتركها أن تجلب له ملوك الأرض كافة ليعرض عليهم دين الإسلام، وإذا رفضوا فإنه سيقطع رقابهم.

وبالفعل وصل إلى المكان المقصود، وجلس هناك ينتظر أن تحضر تلك "الجنية".

ولما تأخرت أخذ يناديها ويناجيها، ويضرب بيده الصغيرة على الأرض داعياً إياها أن تخرج وتظهر له، ولكن ما من أحد يجيب نداءه أو يرد عليه!!.

وفي الليل استفاق أبوه من النوم ليطمئن على صغيره النائم فلم يجده في فراشه فاستفاق كل من في البيت وأخذوا يبحثون عنه في كل مكان، ولم يدعوا غرفة إلا ذهبوا إليها على أمل أن يكون موجوداً فيها... لكنهم لم يعثروا له على أثر.

وبدأ القلق يدبّ إلى قلوبهم، وراح كل واحد منهم يتساءل في نفسه: أين عساه يكون يا ترى؟. لقد مضى على انتصاف الليل بعض الوقت، هذا شيء مخيف حقاً.

ولما فقدوا الأمل من العثور عليه داخل المنزل اقترح أحدهم أن دعونا نبحث في الحديقة أو ربما وجدناه في الحظيرة: إذاً هيا بنا لنرى ما إذا كان موجوداً هناك.

وخرجوا باتجاه الحظيرة مصطحبين معهم المشاعل لتضيء لهم عتمة الطريق، وما أن اقتربوا حتى سمعوا صوته الشجاع الحاد يرتد إلى مسامعهم، وهو يقول:

أيتها "الجنية": لما لا تجيبيني؟. هيا... أنا أناديك وأدعوك لمَ لا تردِّين عليّ؟.

أسرعوا باتجاه الصوت، وإذا به جالس هناك على الأرض، وهو يردد هذه الكلمات ولا ينفك يضرب على الأرض بقوة طالباً إياها بإلحاح وجرأة خفقت لها قلوبهم إكباراً، وتهافتوا عليه... ماذا تفعل يا صغيري؟. وأي شيء هذا الذي أتى بك إلى هنا في هذا الوقت المتأخر من الليل؟.

فردَّ عليهم: أريد مقابلة "الجنيّة" التي تتحدثون عنها...

هيا... هيا بنا يا بني نعود إلى البيت ودعك من هذا الأمر، أنت ما زلت صغيراً وما زالت هذه الأشياء بعيدة عنك وخارجة عن اهتمامك. (لكنهم في نفوسهم هزئوا من تصديقهم لمثل هذه القصص وأنَّبهم ضميرهم، فهذه خرافات).

لقد خافَ أهلُه عليه وقالوا على مسمعٍ منه "وهو يسمع" فيما بينهم:

إنَّ حيّةً كبيرة مُرعبة ترقدُ على معلفِ الخيلِ وهي تعضُّ من يجلس هناك وتقتله، فذهب معهم مرغماً، لكن ذلك الأمر لا يزال يشغله ويؤرقه ويهمه أن يتأكد من صحته.

* * *

وفي اليوم التالي، وتحت ستار الليل عاد إلى محاولة جديدة، وفي قلبه تصميم ألا يدع هذا الأمر يمر عابراً دون أن يكون قد كوّن فكرة منطقية عنه لا يصادرها أدنى شك والتحقيق بالعمل عين اليقين.

وبالفعل، توجه إلى المكان ذاته وفعل ما فعله بالأمس، فلم تحصل له أية نتيجة تثبت صحة ما يقولون سوى صمت وسكون لا يتخلله إلا بعض الأصوات الاعتيادية، صرصر من هنا، وكلب من هناك، أما "الجنية" فلا أصل لها ولا وجود.

وهنا عرف أن أحاديث النساء عن هذا الأمر إن هي إلا كذباً فليس لها بالواقع أية صلة، وتوطَّد يقينه بكذب هذه القصة عندما أعاد الكرَّة في الليلة الثالثة وذهب إلى هناك في نفس الوقت وللهدف ذاته.

وقد قرَّر بعد هذه القصة أن لا يصدِّق شيئاً مما يسمعه أو مما يُقال له مهما كان هذا الأمر، وأياً كان دون أن يتأكد بذاته من صحة ما يُقال له، ودون أن يسعى إلى خوض التجربة، حتى يعود بالنتيجة الأكيدة التي يرتاح لها ويطمئن لها قلبه.

تفاسير ومعاني حيث تعيش القصص. اكتشف الآن