الفصل 13 | حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، رَجُلٌ وَاحِدٌ |

789 36 190
                                    

لَطَالَمَا إعْتَقَدْتُ أَنَّنِي لَامُبَالِي، مُجَرَّدُ عَابِرٍ فِي الحَيَاةِ، مِثْلَ حَجَرٍ يَتَدَحْرَجُ عَلَى ضِفَافِ نَهْرٍ جَارٍ دُونَ أَنْ يَتْرُكَ أَثَرًا خَلْفَهُ. لَكِنَّنِي كُنْتُ مُخْطِئًا. لَمْ تَكُنْ لَامُبَالَاتِي سِوَى قِنَاعٍ ارْتَدَيْتُهُ، دِرْعٍ صَامِتٍ أَحْكَمْتُ إِغْلَاقَهُ حَوْلَ قَلْبِي كَيْ لَا تَتَسَرَّبَ مِنْهُ تِلْكَ الأَحَاسِيسُ المُتَقَدَةُ الَّتِي تَعْصِفُ بِدَاخِلِي........

لَمْ تَكُنْ تِلْكَ القُوَّةُ البَارِدَةُ سِوَى وَسِيلَةٍ لِحِمَايَةِ نَفْسِي مِنَ الغَرَقِ فِي مَحِيطِ مَشَاعِرِي، الَّتِي كَانَتْ دَائِمًا أَشْبَهَ بِالنَّارِ المُخْبُوءَةِ تَحْتَ رَمَادٍ هَادِئٍ. لَقَدْ دَفَنْتُ أَحْزَانِي وَآلَامِي مِثْلَمَا تُدْفَنُ الحِجَارَةُ فِي بَطْنِ الأَرْضِ، سَاخِنَةً، ثَقِيلَةً، تَحْرِقُ يَدِي كُلَّمَا حَاوَلْتُ لَمْسَهَا.......

أَنَا لَسْتُ لَامُبَالِيًا كَمَا تَوَهَّمْتُ، بَلْ أَنَا شَخْصٌ يَغْلِي دَاخِلَهُ بُرْكَانٌ مِنَ الأَلَمِ، لَكِنَّهُ يَتْقِنُ فَنَّ قَمْعِهِ حَتَّى أَصْبَحَ الأَلَمُ جُزْءًا لَا يَتَجَزَّأُ مِنِّي. تَرَاكَمَتْ تِلْكَ الأَحَاسِيسُ فِي دَاخِلِي مِثْلَ الصُّخُورِ الَّتِي، بِمُرُورِ الزَّمَنِ، تَحَوَّلَتْ إِلَى جِبَالٍ شَاهِقَةٍ لَا يُمْكِنُنِي تَسَلُّقُهَا وَلَا الفِرَارُ مِنْهَا......

كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّنِي تَجَاوَزْتُ كُلَّ تِلْكَ اللَّحَظَاتِ القَاسِيَةِ بِسُهُولَةٍ، وَلَكِنَّ الحَقِيقَةَ هِيَ أَنَّنِي عَالِقٌ فِيهَا. كُلُّ جُرْحٍ، كُلُّ هَمْسَةٍ جَارِحَةٍ، كُلُّ خَيْبَةِ أَمَلٍ، كُلُّهَا لَا تَزَالُ مَحْفُورَةً فِي ذَاكِرَتِي مِثْلَ نُقُوشٍ عَلَى صُخُورٍ لَا تُنْسَى. تِلْكَ النَّظَرَاتُ الحَزِينَةُ، تِلْكَ الكَلِمَاتُ الَّتِي أُلْقِيَتْ فِي وَجْهِي بِلَا تَفْكِيرٍ، لَا تَزَالُ تَتَرَدَّدُ فِي أُذُنِي كَمَا لَوْ قِيلَتِ اليَوْمَ......

الغَضَبُ الَّذِي أَحْمِلُهُ دَاخِلِي هُوَ نَارٌ كَامِنَةٌ، تَكَادُ تَأْكُلُنِي مِنَ الدَّاخِلِ، لَكِنَّنِي لَا أَتْرُكُهَا تَشْتَعِلُ. أَعِيشُ مَعَ هَذِهِ النَّارِ، أَتَعَايَشُ مَعَهَا كَمَا يَتَعَايَشُ الصَّيَّادُ مَعَ الوَحْشِ الَّذِي يُطَارِدُهُ فِي اللَّيْلِ. تَرَكْتُ كُلَّ مَنْ جَرَحَنِي يَمْضِي فِي طَرِيقِهِ دُونَ أَنْ أُظْهِرَ لَهُمْ جُرْحًا أَوْ نُدْبَةً........

وَلَكِنَّنِي فِي الوَقْتِ ذَاتِهِ، حَمَلْتُ ذَلِكَ الأَلَمَ مَعِي، كَأَنَّنِي سَجِينٌ يَحْبِسُ أَلَمَهُ فِي زِنْزَانَةٍ مُظْلِمَةٍ لَا يَعْرِفُ مِفْتَاحَهَا. هَلْ تَرَى؟ لَيْسَ الأَمْرُ أَنَّنِي قَوِيٌّ بِمَا يَكْفِي لِتَحَمُّلِ الأَلَمِ، بَلْ هُوَ أَنَّنِي خَائِفٌ جِدًّا مِنْ أَنْ أَكْشِفَ ضَعْفِي. الخَيْبَاتُ الَّتِي أَعِيشُهَا لَيْسَتْ مُجَرَّدَ لَحَظَاتٍ عَابِرَةٍ، إِنَّهَا مِثْلُ شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ اقْتُلِعَتْ جُذُورُهَا، وَتَرَكْتَنِي فِي عَرَاءِ الرِّيَاحِ بِلَا سَنَدٍ، عَاجِزًا حَتَّى عَنِ التَّعَلُّقِ بِتِلْكَ اللَّحَظَاتِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي كَانَتْ تُسْعِدُنِي فِيمَا مَضَى......

Lady De Jorgia 🎻Where stories live. Discover now