6- رسائل لم ترسل..

13 6 0
                                    

أمي..

ليتكِ فقط منحتني العناق الأخير قبل أن ترحلي، كل ما أريده في هذه اللحظة أن تعود بي الساعات إلى الخلف.. إلى ما قبل إستشهادك.. ليتني فقط إتبعت قلبي.. ليتني فقط وافقتُ ذلك الشعور الذي زعزع ثباتي و دمر داخلي.. ليتني إتبعتهُ و جلستُ جانبك و أخبرتك اني أحبك فوق الجميع.. لأنكِ لستِ مجرد أم لي.. و أنما كنتِ لي الأخت و الصديقة التي لم أحصل عليها..

هل تتذكرين يا أمي.. عندما كنتِ تطلبين مني الإبتعاد عن كتابة هذه المذكرات!؟

لم أتوقع يوما أني سأكتب الخاتمة بهذا الألم.. و قلبي ينزف دموعا و دماءً لم تعتد تحتمل أوردتي..

كنتِ تنصحينني بالإبتعاد عن المذكرات.. و لكن كنتُ أتجاهل نصائحك.. لأني لم أكن أعلم أن النهاية ستكون بهذه القسوة و بهذا الألم الذي أشعر به حاليا..

سلاما على روحكِ الطاهرة يا أمي..

أبي..
ألم تكن تخبرني دائما أنك لن ترحل إلا بعدما تراني إمرأة متزوجة، أنا لم أتزوج و أنت رحلت يا أبي..

ذهبت و تركتني أجول بمقلتاي بين الأشلاء المتناثرة لعلي أجد يدك لأتمسك بها أو شيءً يخصك أحتفظ به.. لكني لم أجد شيئ لم أحض حتى برؤية جثتك..

قبل وقت الفجر عندما نظرت لي قبل ذهابك.. تلك النظرة لم أفهم معاناها حتى هذه اللحظة..

و كأني للتو أدركتُ أنك قدمت لي وداعا صامتا قبل رحيلك يا أبي..

أمي أبي.. تيقنوا دائما أني ما دمتُ على قيد الحياة سأسير فيها بثقتكم بي.. سأجعل كل من يراني يدعو لمن رباني..

ربما لا تكفي الكلمات للتحدث عن قدر الألم الذي أشعر به حاليا.. و لكنه ألم لا يحتمل..

أن ترى ربوع وطنك يتدمر.. عائلتك.. شعب وطنك أمام مقلتيك.. ستشعر بالعجز و الألم.. ستموت ألف مرة في اليوم..

أخي أحمد..

صحيح ربما لا أتذكرك جيدا.. و لكن ظلك فقط كان كفيلا ببث الأمان بداخلي.. غيابك في طفولتي شكل بداخلي صدمات لن يحُلها الزمن.. لم أكن أعرف و لم أكن أفهم حينها معنى الشهادة..

لكني بعدما فهمتُ وجدتُ نفسي أبتسم فخرا لأن أخي شهيد.. منذ أكثر من سبع سنوات أنا لا زلتُ أجالس البكاء ليلا..

لم أبكي يوم جنازتك.. لكني بكيتُ كل الأيام بعدها.. هل تذكر أول يومٍ لي في المدرسة!؟ كنتَ أنتَ من أخذتني إلى هناك.. تشجيعك لي ذلك اليوم لا يفارق أذني.. و كأني أسمعه من جديد..

كنتَ تريدني أن أكمل دراستي بذات التفوق الذي كنتُ عليه.. أن أتحصل على البكالوريا بمعدل ممتاز.. بعدما وصلتُ لبعد سنة واحدة على البكالوريا أتت الحرب و قطعت كل أحلامي..

لم يتبقى بيدي سوى هذه المذكرة و القلم الذي أصبح باهت اللون من كثرة ما كتبت به.. و كأنه يحذرني بالإسراع في كتابة النهاية هو الآخر...

أخي علاء الدين..

كنتَ أنتَ الأخ و السند و الكتف، لم أكن أبدا أشعر بضعفي في وجودك.. لأنك من كنتَ تدفعني للإكمال في مسيرتي ككاتبة مقاومة..

أنظر لي.. ها أنا اليوم أكتب خاتمة مذكرات السابع من أكتوبر.. خاتمة المذكرة التي كانت بدايتها أنت.. رصاصتك لا تزال حول عنقي.. لا تزال تخنقني عندما أفكر بالتراجع عن مسيرتي ككاتبة مقاومة..

ربما لن يكتب الله لي نشر هذا العمل.. و لكني على الأقل فعلتُ ما بوسعي.. و حققتُ ما كنتَ تريده مني يا أخي..

أجلسُ الآن فوق ركام مدينتي.. ربما لا أدري مالذي جاء بي إلى هنا.. إلى ركام منزلي.. و لكني أردتُ أن تكون كلماتي الأخيرة هنا.. في المكان الأخير الذي رأيتُ فيه عائلتي مجتمعة فيه..

زياد..

أخي.. حفظك الله أينما كنت.. صحيح أنا لم أكن بعلاقة جيدة معك.. كنا كثيرا ما نتعارك.. كثيرا ما نتشاجر.. لكني والله أحبك..

سلام على عائلتي و سلام على فلسطين حتى تتحرر.. حتى تكسر هذه القيود.. حتى تعود الحياة إلى أرضنا..

صوت أسلحة نارية في الأرجاء لم يحرك بداخلي شيئا.. لم أشعر حتى بالخوف و أنا أسير بخطواتي إلى نهايتي..

أمسك المذكرة بيد و قلمي الذي إنتهى بيدي الأخرى.. كتبتُ لجميع عائلتي رسائل لم ترسل.. تبقت صفحتان.. واحدة لي و الأخرى لخاتمة المذكرة..

واصلتُ سيري بخطوات هادئة أبتعد عنهم كي لا يكشفوا أمري.. كنتُ أظن أن هذا البرود عادي.. و لكني لم أتوقع أبدا أن يحصل لي ما حصل تاليا..

ليت الزمن يعود بي إلى ما قبل السابع من أكتوبر..

لأودع عائلتي..
بيتي..

كل شيء..

و الحياة..

تم قطع  طريقي.. و لا أدري من أين خرج هؤلاء الجنود الصهاينة.. أشعر كما لو أن نهايتي تقترب.. اللهم الثبات حتى النهاية..

وجه أحدهم السلاح نحوي، فأغمضت مقلتاي و نطقت الشهادتين..

صوت رصاصة واحدة مزقت الصمت و الهدوء ثم صوت ثلاث رصاصات أخرى إخترقت إحداها كتفي..

لم يكن بإستطاعتي تحمل الألم الذي عصف بكتفي، لم أكن أستطيع التحمل فهويتُ على الأرض بقسوة.. و عندما فتحتُ مقلتاي وجدتُ أخي قد تلقى الثلاث رصاصات الأخرى..

.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.

صمود.. ٠٧أكتوبر ٢٠٢٣
٠٧أكتوبر ٢٠٢٤

السابعُ من أكتوبر- مكتملة- حيث تعيش القصص. اكتشف الآن