مرت أسابيع منذ آخر جلسة مع نورا، وسليم مستمر في العمل مع مرضاه، محاولًا أن يحافظ على توازنه بين مساعدة الآخرين ومعالجة مشاعره الخاصة. لكن تلك الليلة التي جلس فيها يتأمل ماضيه تركت أثراً داخليًا. كلما حاول التركيز على مرضاه، كانت أفكاره تجره إلى ذكريات والدته، وكأن هناك شيئاً عالقًا في ذهنه، لا يمكنه تجاوزه.
في صباح يوم هادئ، بينما كان سليم يرتب أوراقه قبل وصول مرضاه، دخل مكتبه يوسف، صديق قديم لم يره منذ سنوات. كان يوسف يبدو منهكاً، عيناه مجهدتان وكأنه لم ينم منذ أيام. سليم تفاجأ بزيارته غير المتوقعة، لكنه استقبله بابتسامة.
"يوسف! لم أرك منذ زمن طويل. كيف حالك؟" سأل سليم بينما ينهض ليصافح صديقه.
ابتسم يوسف ابتسامة باهتة وقال: "كنت بحاجة للحديث معك، لم أجد مكانًا آخر أذهب إليه."
جلسا معًا، وسرعان ما أدرك سليم أن يوسف يمر بمشكلة عميقة. بدأ يوسف في الحديث عن زواجه، وكيف تدهورت علاقته بزوجته بشكل لم يعد يستطيع التحكم فيه. كان يشعر بالعجز، وكأن كل حوار بينهما ينتهي بصراع.
"لا أفهم ما الذي يحدث. كل شيء كان على ما يرام في البداية، لكن الآن... نشعر أننا لا نستطيع أن نتحدث حتى في أبسط الأمور دون أن نتشاجر. الأمور تفاقمت بشكل لا يطاق." تحدث يوسف بصوت مليء بالحزن.
سليم، الذي طالما كان صديقاً مقرباً ليوسف، أدرك أن ما يقوله يعكس مشكلة مشتركة يعاني منها الكثيرون: نقص التواصل الفعّال. لكن بالنسبة ليوسف، كانت هذه المشكلة أشد تعقيداً، فهو لم يتعلم قط كيف يتعامل مع مشاعره أو مشاعر الآخرين.
"يوسف، هل تعتقد أن مشكلتكم تتعلق بالتواصل؟" سأل سليم وهو يميل إلى صديقه قليلاً.
"ربما... لكن لا أعرف كيف أشرح ما يحدث. كلما حاولت التحدث، ينتهي الأمر بمزيد من الجدل. أشعر بأنني ألومها على كل شيء، وهي تفعل الشيء نفسه معي."
أخذ سليم لحظة قبل أن يجيب. كان يعلم أن هذا النوع من المشكلات يتطلب حساسية ووضوحًا في الفهم. "التواصل الفعّال ليس مجرد حديث، إنه يشمل الاستماع، وفهم ما يشعر به الآخرون قبل الرد. هل سبق وأن جلستما وتحدثتما عن مشاعركما دون توجيه الاتهامات؟"
يوسف أطرق برأسه قائلاً: "لا أظن ذلك. كلما بدأت الحديث، تخرج مني كلمات اللوم بشكل عفوي، ولا أستطيع أن أمنع نفسي."
"هذا شيء شائع، يوسف. عندما نشعر بالغضب أو الإحباط، نميل إلى اللوم بدلاً من التعبير عن مشاعرنا الحقيقية. هناك تقنية بسيطة قد تساعدك. بدلاً من قول 'أنتِ دائمًا تفعلين كذا وكذا'، حاول أن تبدأ عباراتك بـ 'أنا أشعر'. هذا التغيير البسيط في الطريقة التي تعبر بها عن مشاعرك يمكن أن يحول مجرى الحوار."
تأمل يوسف ما قاله سليم للحظات. "هل تعتقد أن ذلك سيحدث فرقًا؟"
"لن أقول إنه الحل السحري، لكن نعم، يمكن أن يكون له تأثير كبير. عندما تبدأ بالحديث عن مشاعرك الشخصية بدلاً من إلقاء اللوم، ستفتح مجالاً للحوار بدلاً من الجدال. وفي المقابل، عليك أيضًا أن تكون مستعدًا للاستماع إلى مشاعرها بدون الحكم عليها."
صمت يوسف للحظات، ثم قال: "أشعر أنني فقدت القدرة على التواصل معها. كلانا متعب."
ابتسم سليم بلطف وقال: "التعب هو جزء من الحياة، لكن العلاقات تحتاج إلى جهد وصبر. إذا كنتما تريدان حقًا تحسين الوضع، يجب أن تكون مستعدين للعمل معًا. سأساعدك في هذا، لكن عليك أن تكون صادقًا مع نفسك ومعها."
يوسف نظر إلى سليم بعينين ممتنتين، وكأنه وجد أخيرًا بصيص أمل وسط العتمة. "أشكرك، سليم. لا أعرف ماذا كنت سأفعل بدونك."
---
في نفس الوقت الذي كان سليم يساعد فيه يوسف، كانت ذكريات طفولته تتسلل إليه بشكل أكثر حدة. كلما تحدث مع مريض أو صديق، كان يشعر بتلك الظلال التي تلاحقه، ذكريات عن والدته التي كانت تستلقي على سرير المستشفى، وجهها شاحب وكلماتها الأخيرة عالقة في ذهنه.
تذكر الليلة التي ماتت فيها، كيف وقف بجوار سريرها وهو طفل صغير، غير قادر على فهم ما يحدث. "كن قويًا يا سليم، ستكون بخير." كانت تلك كلماتها الأخيرة. لم يكن يعرف ما الذي تعنيه القوة في ذلك الوقت، لكن الآن، وهو بالغ، يشعر أنه يحاول أن يكون قويًا دائمًا، ولكن دون أن يتعامل مع ألمه الحقيقي.
في جلسة تأملية تلك الليلة، جلس سليم على الأرض في غرفته، محاطًا بالهدوء، وأغمض عينيه. بدأ يسترجع تلك اللحظات، تلك المشاعر التي لم يواجهها قط. كلما غاص في ذكرياته، شعر بأن قلبه يثقل أكثر. لم يكن يعلم إن كان يستطيع الاستمرار في تجنب هذا الألم، لكن شيئًا بداخله كان يقول له إنه قد حان الوقت لمواجهته.
---
في اليوم التالي، جاءته رسالة من ليلى، جارة قديمة كانت تعرف والدته جيدًا. لم يكن قد تحدث معها منذ سنوات، لكن رسالتها جاءت في الوقت المناسب. كتبت له: "سليم، أعرف أن والدتك كانت تعني لك الكثير. كنت أود التحدث معك عن شيء يتعلق بآخر أيامها، ربما تحتاج إلى سماعه."
شعر سليم بشيء من القلق والفضول. ماذا قد تكون ليلى تريد أن تخبره؟ لم يكن مستعدًا لمعرفة المزيد عن تلك الأيام، لكن داخله كان يقول له إن هذه الرسالة قد تكون مفتاحًا لفهم أعمق لذكرياته.
أنت تقرأ
مرآة النفوس
Romanceالغرض من الروايه ليس القراءه فقط بل التعلم والاستفادة من علم النفس حيث الروايه تحمل بعض الأمور التي تصادفنا. نبذه صغيره: "ط نورا: "كنت دائمًا الطفلة التي يتم تجاهلها. في المدرسة، في المنزل... حتى مع أصدقائي، كنت أشعر أنني لا أنتمي." سليم: "في كثير م...