الفصل الاول: ظلال الماضي

49 15 13
                                    


الليل كان قد ألقى بظلاله الكثيفة على المدينة وهناك على الرصيف المقابل شاب في العشرينيات يسير ببطء على الرصيف المبلل بمياه الأمطار المتجمعة ،خطواته ثقيلة، كأنها تحمل عبء أعوام عديدة لم يعشها كاملة، يرتدي معطفاً طويلاً قديم الطراز بلون رمادي باهت، وهو يكاد يخفي جسده النحيل، لكن تفاصيل وجهه تبدو واضحة مع كل ومضة من مصابيح الشوارع الباهتة.

يبدو ان الشاب ذو بنية متوسطة الطول، لكنه يبدو كما لو أن جسده فقد الكثير من قوته مع مرور الوقت، عيناه الغائرتان بلون بني قاتم تحملان نظرات حائرة ومترقبة، وكأنهما في حالة دائمة من البحث عن شيء ما لا يعلمه سوى نفسه،  تظهر على وجهه ندبة صغيرة أسفل عينه اليمنى، وربما كانت آثار مشاجرة قديمة أو ذكرى مؤلمة، لكنها تمنحه تلك الهالة الغامضة، يحاول ان يغطي وجهه بقبعة الجاكيت الاسود الذي يرتديه، لكن كل جزء من ملامحه يعكس سنوات من العناء، وتلك الهالات السوداء أسفل عينيه تُخبر عن ليالٍ طويلة قضاها بلا نوم.

كلما أغمض عينيه، يعود إلى تلك اللحظات، يسمع الأصوات بوضوح: الصرخات التي تهز أعماقه، والدماء التي لا يستطيع نسيانها. هذه الذكريات تأتيه بشكل مفاجئ، أحياناً على شكل كوابيس ليلية تجعله يستيقظ متعرقاً وبالكاد يستطيع التقاط أنفاسه، وأحياناً في وضح النهار، كأن طيفاً مظلماً يحجب عنه رؤية الحاضر،
ترافقه دائماً نوبات الهلع، يشعر فجأة بتسارع في دقات قلبه، وكأن قلبه يريد الفرار من صدره، يجد نفسه يتصبب عرقاً، حتى في الليالي الباردة، ورأسه يغلي بالأفكار كل صوت مفاجئ، كل حركة غير متوقعة تزرع فيه حالة من الذعر، تجعله يلتفت خلفه بحثاً عن خطر قد لا يكون موجوداً.

أما المدينة التي يسكنها ليست كما يتذكرها،  المباني العالية بدت متآكلة، يمر بجانب متجر بقالة مغلق، نوافذه المتصدعة تعكس لمحات من الظلام ، الشارع يفتقر إلى حياة البشر، فلا ترى سوى القليل من المشاة الذين يبدون كما لو أنهم يهربون من شيء غير مرئي، الهواء يحمل معه رائحة الرطوبة والعرق وأشياء أخرى يصعب تحديدها.

في كل خطوة يخطوها، تأتيه ومضات من الماضي، تارة يرى نفسه محاطاً بأصدقاء فقدوا في ظروف غامضة، وتارة يرى صورة شخص عزيز عليه، ملامحه تتلاشى في الظلام، وكأنها تتلاشى من ذاكرته مع مرور الوقت يشعر بالذنب يتسلل إلى صدره، كأن عينيه تحملان وزناً لم يستطع التخلي عنه يغمض عينيه لثوانٍ، لكنه يراها مجدداً: لحظات من العنف والدماء، لقطات متسارعة لا يستطيع التحكم بها، فتجعل أنفاسه تتسارع ورأسه يدور.

يصل إلى مقهى قديم يعرفه منذ زمن، "كافيه الليل"، ويجده شبه مهجور، كان هذا المكان يوماً ملتقى للعابرين والغرباء، لكنه الآن يكاد يخلو من زواره يدخل المكان، فيغمره دفء غريب لا يتناسب مع حالة البرودة التي يشعر بها في الداخل، تتدلى الأضواء الصفراء من السقف، تلقي ظلالاً طويلة على الطاولات الخشبية المتهالكة، يجلس في زاوية بعيدة، حيث يستطيع رؤية المدخل وكل من يدخل ويخرج هذه عادته منذ عودته، يبحث عن المكان الذي يسمح له برؤية كل شيء، وكأنه يخشى أن يباغته شيء ما.

يطلب فنجاناً من القهوة السوداء، لا رغبة له بالطعم بل بشيء يشغله عن أفكاره يحمل الفنجان بيد مرتجفة، ويشعر بحرارة القهوة تخترق أصابعه المتجمدة، لكنه يظل يراقب الزبائن المتناثرين في المقهى كل واحد منهم يحمل قصته الخاصة، مثل تلك النادلة التي تحاول إخفاء إرهاقها بابتسامة زائفة، أو ذلك العجوز الذي ينظر عبر النافذة وكأن ماضيه عالق في الخارج.

بين رشفة وأخرى، يمرر أصابعه على زجاجة صغيرة من المهدئات التي يخفيها في جيبه الداخلي، إنها طوق نجاته الوحيد عندما تشعره الحياة بأنه على وشك الغرق، يعرف أن هذه الحبوب لا تعالج جروحه، لكنها تمنحه هدنة قصيرة مع شياطينه، يتذكر نصائح الأطباء، تلك العبارات الجافة عن التعامل مع القلق والأفكار السلبية، لكنه يشعر وكأنهم يتحدثون عن شخص آخر غيره ، بالنسبة له، الألم ليس مجرد شعور، بل حقيقة يعيشها كل لحظة.

بينما يراقب المكان، يتسلل إلى سمعه حديث يدور بين اثنين يجلسان على طاولة قريبة صوت أحدهما خافت، يتحدث عن جريمة وقعت في الحي، والجثة التي وجدت في الزقاق المظلم وطريقة القتل العجيبة،  ينتبه الشاب فجأة، وكأن حديثهما سحب الغشاوة عن عينيه، فيبدأ بالإنصات بصمت شديد ، يتكلم احدهما عن تفاصيل الجريمة، فيشعر بقشعريرة تجتاح جسده، وكأن تلك الجريمة تعيد إليه لحظات مألوفة، لحظات لم يستطع الهروب منها يوماً.

----------------------

٦٤٨ كلمة

سراديب الماضي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن