الفصل الأول: الصّرخات المكتُومة.

21 1 0
                                    

في لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، كَانَ المَنْزِلُ الصَّغِيرُ المُتَهَالِكُ يَلُفُّهُ الظَّلَامُ، إِلَّا مِن ضَوْءٍ خَافِتٍ يَنْبَعِثُ مِن المِصْبَاحِ الوَحِيدِ فِي المَطْبَخِ. جَلَسَ لُوك، ذُو التِّسْعِ سَنَوَاتٍ، عَلَى الطَّاوِلَةِ المُتَآكِلَةِ، يُحَدِّقُ فِي أَوْرَاقِهِ المُلَيِّنَةِ بِالرُّسُومِ. كَانَتْ رُسُومُهُ تُخْبِرُ حِكَايَةً لَمْ يَسْتَطِعِ التَّعْبِيرَ عَنْهَا بِالكَلِمَاتِ؛ وُجُوهٌ بِلَا مَلَامِحَ، ظِلَالٌ ثَقِيلَةٌ، وَأَيَادٍ مَمْدُودَةٌ تَحَاوِلُ الإِمْسَاكَ بِهِ. كَانَ عَقْلُهُ يَهْرَبُ مِن وَاقِعِهِ القَاسِي إِلَى عَالَمٍ مِن الأَلْوَانِ وَالخُطُوطِ، عَالَمٍ يَسْتَطِيعُ فِيهِ السَّيْطَرَةَ عَلَى مَا يَحْدُثُ.


خَارِجَ المَطْبَخِ، كَانَتْ هُنَاكَ صَرَخَاتٌ مَكْتُومَةٌ تَأْتِي مِن غُرْفَةِ الجُلُوسِ. صَوْتُ وَالِدِهِ دَانْيَال المُخْمُورِ وَهُوَ يَسُبُّ وَيَشْتِمُ، وَصَوْتُ وَالِدَتِهِ مَارِي وَهِيَ تُحَاوِلُ التَّهْدِئَةَ، لَكِنْ بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ لَا يَكَادُ يُسْمَعُ. كَانَ لُوك يَعْرِفُ أَنَّ مُحَاوَلَاتِهَا لَنْ تُثْمِرَ عَنْ شَيْءٍ. كَانَتْ مِثْلُ هَذِهِ اللَّيَالِي مُتَكَرِّرَةً، حَيْثُ يَعُودُ وَالِدُهُ مُتَأَخِّرًا، مَحْمُولًا بِرَائِحَةِ الكُحُولِ وَالغَضَبِ، لِيَصُبَّ جَامَ غَضَبِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ فِي المَنْزِلِ.


أَلْقَى لُوك نَظْرَةً سَرِيعَةً نَحْوَ البَابِ، وَقَلْبُهُ يَخْفِقُ بِسُرْعَةٍ. كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ كَانَ يَرْغَبُ فِي الهُرُوبِ، لَكِنْ أَيْنَ يَذْهَبُ؟ المَنْزِلُ كَانَ بِمَثَابَةِ سِجْنٍ لَا يَسْتَطِيعُ الفِرَارَ مِنْهُ. مَدَّ يَدَهُ المُرْتَعِشَةَ لِيُمْسِكَ قَلَمَ الشَّمْعِ الأَحْمَرِ، وَبَدَأَ بِرَسْمِ خُطُوطٍ عَشْوَائِيَّةٍ، كَمَا لَوْ كَانَ يُحَاوِلُ تَفْرِيغَ الأَلَمِ الَّذِي يَشْعُرُ بِهِ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ.


فَجْأَةً، انْفَتَحَ البَابُ بِقُوَّةٍ، وَظَهَرَ دَانْيَال، بِوَجْهِهِ الشَّاحِبِ وَعَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ تَلْمَعَانِ بِالغَضَبِ. "مَاذَا تَفْعَلُ هُنَا؟" صَاحَ بِصَوْتٍ جَهُورِيٍّ، مِمَّا جَعَلَ لُوك يَقْفِزُ مِنْ مَكَانِهِ.


أَجَابَ لُوك بِصَوْتٍ خَافِتٍ وَهُوَ يَرْتَجِفُ، "كُنْتُ... كُنْتُ أَرْسُمُ فَقَطْ."


اقْتَرَبَ دَانْيَال بِخُطُوَاتٍ ثَقِيلَةٍ، وَحَدَّقَ فِي الأَوْرَاقِ المُبَعْثَرَةِ أَمَامَ ابْنِهِ. لِوَهْلَةٍ، خَيَّمَ صَمْتٌ غَيْرُ مُرِيحٍ عَلَى المَكَانِ. ثُمَّ، وَبِكُلِّ فَجْأَةٍ، أَمْسَكَ بِالأَوْرَاقِ وَمَزَّقَهَا بِيَدَيْهِ، لِتَتَنَاثَرَ القَصَاصَاتُ فِي الهَوَاءِ كَرَمَادٍ تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ. "الأَلْوَانُ لَا تَنْفَعُكَ فِي شَيْءٍ!" صَرَخَ وَهُوَ يُلْقِي بِالقَصَاصَاتِ عَلَى الأَرْضِ، قَبْلَ أَنْ يَتَرَنَّحَ وَيَعُودَ إِلَى غُرْفَةِ الجُلُوسِ.

فوضى العائِلة ..Where stories live. Discover now