الفصل الثالث: بداية حديث القلوب
بدأت إميلي زياراتها للمقهى تتحول إلى عادة أسبوعية، ومع مرور الأيام، أصبحت تجلس مطولًا وتتبادل مع ليام الحديث بعد كل عزف. بدأ ليام، الذي كان في البداية خجولًا ومتحفظًا، يشعر براحة تدريجية في الحديث معها. ومع ذلك، كان هناك شيء لا يزال يحتجزه، كأن هناك جدارًا عتيقًا يفصله عن التعبير الكامل عن نفسه.
في مساء بارد من أمسيات الخريف، بينما كانت نسمات الهواء تعبق بالمكان، جلست إميلي على طاولتها المعتادة، تراقب ليام من بعيد وهو يغرق في عزفه. كانت نظراتها تتسلل إلى ملامحه الهادئة، وتلاحظ كيف تنسجم أصابعه مع المفاتيح بمهارة تشي بشخصية دقيقة وصبورة. شعرت بإحساس غريب، كأنها تقترب من شخص لم تكتشف كل جوانبه بعد، لكن تتمنى بشدة أن تعرفها.
بعد انتهاء المقطوعة، أشار ليام إلى النادل ليحضر لإميلي فنجان قهوتها المعتاد دون أن تطلبه. ابتسمت عند وصول القهوة، وفهمت أنه بدأ يحفظ تفاصيلها الصغيرة، شيئًا فشيئًا، كما بدأت هي في حفظ تفاصيله.
حين اقترب منها، بادرته بسؤال مفاجئ: "أخبرني يا ليام، كيف بدأت عزف البيانو؟"
تردد قليلاً قبل أن يجيب، إذ كانت تلك المرة الأولى التي يسأل فيها أحد عن شغفه بالموسيقى. قال بصوت هادئ، "بدأت بالعزف وأنا صغير. كانت الموسيقى الطريقة الوحيدة التي أستطيع من خلالها التعبير عن نفسي… كنت أخشى التحدث أمام الناس، لكن البيانو كان عالمي، وملاذي."
نظرت إليه إميلي باهتمام واضح، وقالت: "أفهم ذلك. أحيانًا نجد في الأشياء الصامتة ملجأً من الكلمات التي نخشى نطقها."
أومأ ليام برأسه، ثم تابع، "بالنسبة لي، كانت الموسيقى هي اللغة الوحيدة التي لا تحتاج إلى تفسير. كل نغمة تخرج من البيانو تشعرني كأنني أفرغ جزءًا من روحي، كأنني أقول شيئًا بعمق دون أن يسمعه أحد."
ساد الصمت بينهما، وكأن كلماته لامست شيئًا في قلب إميلي، شيئًا خفيًا لم تكن تريد أن تكشف عنه. وبعد لحظة ترددت فيها، قالت بصوت منخفض: "أتعرف، ليام؟ أنا أيضًا أبحث عن ملاذ… عن شيء يهدئ من صخب حياتي المتعبة."
نظر ليام إلى عينيها بدهشة واهتمام، فقد كان يعتقد أنها شخصية مرحة وقوية لا تحمل أي هموم ثقيلة. لم يتوقع أن تلك الابتسامة الواثقة قد تخفي خلفها أسرارًا لا تقل عمقًا عن أسراره.
قال لها بلطف: "أحيانًا نحتاج إلى من يشاركنا تلك الأحمال. قد لا يكون الأمر سهلاً، لكننا نخفف عن أنفسنا بمجرد أن نجد من يستمع لنا."
ابتسمت إميلي وقالت بصوت محمل بالعاطفة: "ربما… وربما لهذا أجد نفسي مرتاحة هنا، معك ومع موسيقاك. أشعر كأنني أعيش لحظة هادئة تمنحني بعض السلام."
كان لهذا الحديث أثر كبير على ليام؛ فقد كان يشعر بارتياح غريب لم يعهده منذ سنوات. كان يتساءل، هل يمكن أن تكون إميلي هي الشخص الذي سيساعده على تجاوز خجله ويجعل قلبه ينبض من جديد؟
بعد لحظات من الحديث، مدّت إميلي يدها ولمست كتفه برفق، وقالت: "أتعلم؟ أنا أريد سماع المزيد من موسيقاك. ليس فقط هنا، بل موسيقى تشبهك… موسيقى تقول ما في قلبك."
نظر ليام إلى يدها، ثم إلى عينيها، وابتسم بخجل وقال، "ربما في يومٍ ما… لكنني لا أعدك. لست جيدًا في التعبير المباشر."
ضحكت إميلي برقة وقالت: "لا بأس، لست هنا لتجعلك تتكلم، ليام. أنا هنا فقط لأكون جزءًا من هذا الهدوء الجميل الذي يصنعه عزفك."
في تلك اللحظة، أدرك ليام أن إميلي ليست كأي شخص آخر؛ فهي ليست هنا فقط للإعجاب بموسيقاه أو سماع قصة عابرة. كانت تريد أن تفهمه، أن تكون جزءًا من حياته، ولو بصمت. كانت تلك الفكرة جديدة ومخيفة بالنسبة له، لكن شيئًا في قلبه بدأ يفتح أبوابه لها.
وبينما كانا يهمّان بالمغادرة، سألته إميلي: "هل ستعزف غدًا؟ أودّ أن أكون هنا للاستماع."
أجابها بابتسامة هادئة، "نعم، سأكون هنا… أنتظر زيارتك."
وقبل أن تتركه، قالت بابتسامة أضاءت عينيها: "إلى الغد إذن، ليام. لا تنسَ، موسيقاك هي أجمل حديث بيننا."
راقبها وهي تغادر المقهى، وفي داخله شعور لم يختبره من قبل، كأنه يتطلع إلى الغد بشوق لم يعهده. كانت إميلي تشكل جزءًا من حياته الآن، كأنها تجلب معها لونًا جديدًا لعالمه الصامت، ورغم خجله وتردده، كان يشعر بفرحة طفيفة كلما فكر في لقاء جديد معها.
وفي طريق عودته تلك الليلة، لم يكن يعزف على البيانو، لكنه شعر أن موسيقاه تعزف في قلبه على نحو لم يشعر به من قبل.
أنت تقرأ
اغنية المساء
Romanceهي قصة رومانسية تدور حول ليام، شاب خجول وهادئ يعمل كعازف بيانو في مقهى صغير. خلف شخصيته الهادئة، يحمل قلبه مشاعر عميقة وجروح قديمة لم يتعافَ منها بعد. يدخل إلى حياته ضوء جديد عندما تتردد إميلي على المقهى بانتظام؛ هي كاتبة حيوية وجريئة، تُعرف بشخصيته...