نشأته ومنزلته في قريش
وعلاقته بالنبي ﷺ قبل البعثة●● ولد أبو بكر رضي الله عنه في بيت ابيه أبي قحافة ، ونشأ في حجر أبوين لهما في قومهما العز والكرامة ، مما جعله يترعرع كريم النفس رفيع المكانة في قومه بني تيم.
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت : (تذاكر رسول الله ﷺ وأبو بكر ميلادهما عندي ، فكان رسول الله ﷺ أكبر من أبي بكر).
وقالت رضي الله عنها : (كان رسول الله ﷺ أكبر من أبي بسنتين وشيء) -1-.
وعن المطلب بن عبدالله بن حنطب قال : (ولد أبو بكر بمكة بعد الفيل بسنتين وأربعة أشهر إلا أياماً) -2-
والنسابة على شبه اتفاق أن سيدنا رسول الله ﷺ ولد عام الفيل فالفرق بين سنيهما عامان وأشهر يفرع بهما النبي ﷺ أبا بكر.
وهذا الفرق في المعاصرة لا يمثل شيئاً ، فأبو بكر تنسم نسيم الحياة في الزمن الذي تشرفت فيه الدنيا بوجود المصطفى ﷺ ، وعاش في البلد الذي عاش فيه ، والبيئة التي نشأ فيها ، فنهد وشب في مكة حول البيت الحرام ، في بيت قرشي ، في بيئة عامة على أفسد ما تكون ، وأحط ما عرف الناس من نظام اجتماعي وكيان خلقي ، هي الجزيرة العربية وما تعج به من قبائل متنافرة متناحرة ، عاشت على سفك الدماء ، ونهب اﻷموال ، يعبدون اﻷوثان ، ويعتقدون الخرافات ، ويطوفون بالبيت عرايا ، ويدمنون الخمر ، ويئدون البنات خوف العار ، ويقتلون اﻷبناء خشية الإملاق ، ويستقسمون باﻷزلام ، ويذبحون للأصنام ، ويلعبون الميسر ، انغمسوا في حمأتها ، واتخذوها شعارهم ، فتأصلت في نفوسهم ، فدافعوا عنها دفاعهم عن حياتهم.
نشأ أبو بكر رضي الله عنه في مكة أم القرى ، والعرب على ماهم عليه ، فلم يكن أبو بكر كأحدهم يشهد مجالسهم ، ويقترف آثامهم ، ويأتي منكراتهم ، ويدين بأباطيلهم ، ويعتقد خرافاتهم ، ويأبه لتراهاتهم . . . كلا ، ولكنه كان خلقاً وحده وأمة في نفسه : رأى أن الخمر تنقص العقل فحرمها على نفسه ، وامتنع عن شربها تعززاً وتكرماً. ورأى أن وأد البنات سوءة في المروءة ووهن في العرض فلم يأته مطلقاً. ورأى أن قتل اﻷولاد خشية اﻹملاق عجز عن الكسب من أشرف طرائقه فأبى أن يفعله. ورأى في جميع ما عليه قومه من سيئ الخصال ومنكر الخلال مطعناً في رجولته ومغمزاً ﻹنسانيته ، فاعتزلهم إلا في المحامد والمكارم -3-.
وكان رجلاً مألفاً لقومه ، محبباً سهلاً ، ذا خلق ومعروف ، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من اﻷمر ؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته -4- ، وأضحى أنف قومه ومن وجهاء قريش ، يلقون إليه السمع ويمضون له اﻷمر.
ذكر ابن عبد البر وابن عساكر وغيرهما : أن أبا بكر رضي الله عنه كان في الجاهلية وجيهاً رئيساً من رؤساء قريش وأهل مشاورتهم ، وكان أحد عشرة من قريش اتصل لهم شرف الجاهلية بشرف اﻹسلام. ومن شرفه في الجاهلية أنه كانت إليه اﻷشناق - واﻷشناق : الديات والمغرم - فكان إذا احتمل شيئاً ، فسأل فيه قريش صدقوه وأمضوا حمالته وحمالة من نهض معه وأعانه ، وإن احتملها غيره خذلوه ولم يصدقوه -5-!.
وأنصت أبو بكر رضي الله عنه إلى دعوة الحنفاء الذين نأوا عن عبادة الأصنام ، وبشروا بمجيء (نبي هذه اﻷمة) وألقى سمعه إلى الكلمات الرطبة المؤمنة التي كان يرددها ورقة بن نوفل وقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل ، وتأثر بها كثيراً ، وزاده استمساكاً بموقفه في هجران وثنية قومه وأخلاقهم الرديئة.
وصحب (محمد بن عبدالله) ﷺ قبل البعثة ، وعلم صدقه وأمانته وحسن سجاياه وكرم أخلاقه وبغضه للأصنام وترفعه عن أخلاق الجاهلية. ولازمه وأصبح خدناً له ، وكان معه حين ذهب مع عمه إلى الشام واجتمع بالراهب بحيرا -6-.
وعرف أبو بكر رضي الله عنه في قريش كلها بصحبته للنبي ﷺ قبل البعثة ، فكانت تقول له : اسمع ما يقول صاحبك. ومن أمثلة ذلك ما وقع عند حادثة اﻹسراء.
ورأى أبو بكر رضي الله عنه محمد بن عبدالله ﷺ من بين لداته -7- وأقرانه من شباب قريش أكملهم وأزكاهم ، فصادقه ولازمه وجعله قدوته ، ومحمد ﷺ أكمل الخليقة نفساً ، وأعظمهم خلقاً ، وأكبرهم قلباً ، وأطهرهم روحاً ، وأجلهم أدباً ، وأصدقهم حديثاً ، فطرة الله التي فطره عليها ؛ فتآلفا وتحابا ، وأخذ أبو بكر من أخلاق محمد ﷺ ما اتسعت له فطرته ، وتهيأ له استعداده ، وهذا هو سر ما اشتهر عن أبي بكر من مشابهته لبعض أخلاق النبي ﷺ قبل النبوة ، والتي وصفه بها ابن الدغنة بقوله : (إنك تكسب المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق).
وسيد القارة ابن الدغنة نوه بذكر بعض مناقب أبي بكر ، وهي صفات من أفخر مفاخر العرب ، وأفضل فضائل اﻹنسانية ، وهذه اﻷوصاف النبيلة هي نفسها التي وصفت بها أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها النبي ﷺ في مبدأ الدعوة.
ذاكم أبو بكر الصديق رضي الله عنه نسيج وحده في طيب أرومته ، وطهارة نشأته ، وألمعية فكره ، وجلالة صحابته ، ورفعة قدوته وأسوته . . . نشأ أكرم ما ينشأ الرجال ، صنعه الله على عينه ، فانفلت من أغلال بيئته ، وتسامى عن عبادات قومه ، فنشأ فيهم أريباً ، نبيلا ، حكيماً ، عاقلاً ، كريماً ، عطوفاً -8-.
أكرمه الله تعالى بصحبة أصفى الخلق ﷺ سريرة ، وأطهرهم نفساً ، فكانت تلك الصداقة صيقل نفسه ، ومغنى أنسه ، وأعظم الدوافع في إلى اﻹسراع بتصديقه عندما أعلن في الناس أنه نبي هذه اﻷمة.
* * *
_________________________
1- ابن عساكر ، ص 113 ، 115.
2- ابن عساكر ، ص 576.
3- حياة رجالات اﻹسلام ، ص 17-19 ، باختصار.
4- السيرة النبوية ، لابن هشام : 250/1.
5- الاستيعاب : 237/2 ؛ ابن عساكر ، ص 448 ؛ تهذيب اﻷسماء : 183/2 ؛ اﻹصابة : 335/2.
6- ابن عساكر ، ص 95 ؛ البداية والنهاية : 27/3.
7- لداته : جمع ، مفرده : لدة ، وهو من كان في مثل سنه وعمره ، تقول : وفلان لدتان ، يعني في سن واحدة ، وعمر واحد.
8- حياة رجالات اﻹسلام ، ص 21 ، 24.
أنت تقرأ
ابو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
Randomو (ثاني اثنين إذ هما في الغار) لمؤلفه : عبد الستار الشيخ.