الفصل الخامس
نقاء في جهنمج١
ليتني عرفتُ قدري في الدنياقبل أن يعرفونه لي الآن تحت أقدام أهل جهنم . ألقوا بي وانا مكتف الأيدي والأرجل على أرض محمّرة مسودّة ملتهبة , كلا لامسها جزء من بدني دفعتُ به ليتكئ على جزء آخر , فأصبحت متقلباً ممدوداً أتحول من مكان الى آخرتحت أقدام سكان أهل جهنم الذين كانوا يقفزون من شدة آلامهم , والنار مشتعلة فيهم , فكأنهم قطع نار متحركة مضطربة , والملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم بسياط غليظة .
آه ثم آه , ألمي لايوصف , وعذابي ( رغم قلة درجته على قول الملك ) لو قسّم على أهل الدنياجميعاً ماتحمّلوه . لقد كانت حرارة النار تدخل الى أعماق قلبي فتحرقه قبل بدني , وأيّ نار! أظن انّ حرارتها لو مسّت جبال الارض لانصهرت , ولو سقطت شرارة منها على بحار الأرض لتبخرت .
كنتُ أسمع في الدنيا وأقرأ عن نار الآخرة وأتصورها بما يتناسب مع تخيلاتي المحدودة في ذلك الوقت , أما الآن فان روحي بعينها تذوق العذاب وهي حاضرة فيه لا خارجة عنه , وشتان بين الاثنين . أصابن عطش شديد , لذا كنت حين تقلبي انظر هنا وهناك بحثاً عن الماء , فرأيت أحد ملائكة الغضب يحمل إناءً اسود يتصاعد منه بخار , ويُسمع منه صوت فوران مابداخله , ادناه مني فانشوى وجهي لشدة غليانه , وكنت متردداًبين قبوله وردّه , لكن يبدو ان لاخيار لي في ذلك , فقد أراقه في فمي دون ان ينتظر , وليته لم يرقهُ , لقد كان حميماً وأي حميم , قطّع أمعائي لشدة غليانه , فازددت ألماً وعطشاً فوق ألمي وعطشي , وندمت حتى على يتي في طلب الماء وشربه .
قال الملك وقد ضربني بسوطه مستهزئاً :
- كيف كان طعم الماء ؟
لم أجبه فقال :
- انه ((بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا)) وهناك نوع آخر من الماء هل تريده ؟
- أجبته بصوت ضعيف وشفاة يابسة :
- نعم .
تناول اناء آخر وأراقه في فمي فإذا به أسوء من الأول , لذا قذفته خارجاً بعد أن ترك في حلقي مرارة لا تُطاق فقلت له :
- أتقول عن هذا أنه ماء ؟!
قال :
- انه ماء صديد , يخرج مع الدم الذي يسيل من أثر جروح أهل جهنم .
أحسست بجوع شديد حتى إنني لم أعد أقوى على الحركة , بل حتى على التقلب يميناً وشمالاً . رفعت رأسي قليلاً بحثاً عن الطعام فرأيت شخصاً يصرخ صراخ المجنون بعد أن دخلت أفعى عظيمة فمه ثم خرجت من دبره , وبدأت تلدغ في وجهه وبدنه والنار ملتهبة تحت قدميه .
نحّيت بصري عنه لبشاعة منظره , إذا بسوط أحد الملائكة يهزّني , رفعتُ رأسي نحوه فقال :
- هل تريد طعاماً ؟
أجبته بصوت خافت متقطع :
- نعم
لم يمكث طويلاً حتى اتى بإناء ممتلئ قرّبه مني فنظرت لما فيه وإذا به طعام على هيأة نبات ذي أشواك حادة ورائحة نتنة كريهة . فتح السلاسل من يديّ وأشار لي بتناوله . أخذتُ الإناء وتناولت مافيه , وليتني لم اتناوله ولم أطلبه , لقد مزّق حلقي فلا يدخل فيه ولا يخرج منه , ولم أقذفه الا بشق الأنفس وجهد جهيد , فقلت له عجباً من طعام !
نظر الي الملك وقال :
(( ان لدينا أنكالا وجحيما *وطعاما ذا غصة وعذابا أليما ))
قلت له :
- من اين أتيت بهذا الطعام ؟
قال :
- أنت صنعته لنفسك في دنياك , فأتيت به من خزانة أعمالك
- عجباً وكيف أصن لنفسي طعاماً كهذا ؟
- أكلك مال الحرام تجسّم بهذا الشكل من الطعام , كنت لاتراعي في وقت عملك انك أجير لثمان ساعات يوميا في شركة أبرمت عقداً معها فتأتي متأخراًأحيانا او تخرج منها مبكراً دون عذر شرعي يجوّز لك ذلك .
ج2
مضت ساعات إذا بي أسمع ضجيج أناس يصرخون .زاد الضجيج شيئاً فشيئاً لاقترابهم مني فتمعنتُ فيهم وإذا بهم مجاميع مجاميع من اناس ذات وجوه وأبدان سوداء والنار محيطة بهم ,ونار أخرى تخرج من أفواههم وآذانهم, وهم في حالة هول وذعر شديدين , يركضون وكأنهم قد فرّوا من فزع عظيم . أصغيت الى صراخهم فسمعتهم يقولون : أين نهر الماء ... أين نهر الماء !