الفصل الثامن

26K 820 25
                                    

8 _ من أنت ؟

بدا الصوت العميق ورائها أجش يحمل بعض المرح وشيئاً آخر تفاجأت ماغي فاستقامت في وقفتها واستدارت لمواجهته .
قالت معترضة : لن .. لن أقع .
مشى رافايللو نحوها واضعاً يديه في جيبي بنطلونه لا بد أنه دخل من الباب الخاص الذي يصل بين غرفتيهما كان ما يزال مرتدياً بذلته الرسمية وقد فك عقدة ربطة عنقه وتركها متدلية على جانبي قميصه الحريري صحح لها : ليس هذا الخطر الذي قصدته أقصد هذا .
وشدها إليه بقوة .
تمتم وقد أحنى رأسه : إنه موضوع أكثر خطراً .
رأت في عينيه بريقاً جعلها تشعر باضطراب قوي في داخلها فراحت تتنفس بصعوبة محاولة أن تنسحب لتبتعد عنه : رافايللو !
لكنه بدالا غير راغب في السماح لها بالهروب ببساطة شدها بقوة أكثر إليه محركاً يده على ظهرها وكور يده الأخرى تحت شعرها الكثيف ليمسك بمؤخرة عنقها لم يبق لديها نفس في صدرها لتتكلم أو تعترض أو تصرخ أو حتى .. لتتنفس .
قال لها بنعومة : هناك طريقة واحدة لإنهاء أمسية مثل هذه .
ثم عانقها ...
حدث ذلك فجأة ودون أن تتاح لها الفرصة لتفعل أو تقول شيئاً .
في لحظة كانت تحدق من النافذة إلى ليل توسكانا الرائع وهي تفكر أن الأمسية انتهت وفي اللحظة التالية ضمها رافايللو إليه وهاهو يعانقها بشوق ولهفة .
شعرت ماغي أنها ضائعة , ضائعة تماماً .. سيطر عليها إحساس قوي بقوة الألعاب النارية أصبح عناقه أعمق وأخذ الدم يتدفق في عروقها وفي أذنيها وسرعان ما التفت يداها حول عنقه لتضماه إليها بقوة .
راح يتمتم بكلمات في أذنها لكنها لم تفهم أي كلمة مما قاله لم تستطع أن تفهم سوى أنه ما زال يعانقها .. سمعته يقول : إلى غرفتي .
جاء صوته أجش ... وأخيراً وجدت ماغي صوتها فتمكنت من النطق من أعماق أعماقها : رافايللو من فضلك أنا .. أنا .
قال هامساً : هش ... عزيزتي ثقي بي فأنا أريدك كثيراً .
عاد يعانقها مرة أخرى وكادت أن تستسلم له بالكامل لكن الأحلام لا تصبح حقيقة وما تعيشه الآن ليس حقيقياً .. لا يعقل أن يكون حقيقياً .
ابتعدت عنه قليلاً بينما كان رافايللو يدفعها إلى الأمام .
_ رافايللو لا ! من فضلك أصغ إلي أنت لا تفهم .
لاحظ رافايللو الإلحاح في صوتها فتركها لتبتعد عنه أكثر وبحثت عيناه السوداوان عن عينيها في ذلك النور الخافت .
_ لا تخافي لن أسبب لك أي أذى أعلم انه مر وقت طويل بالنسبة لك وأن خسارتك لوالد بنجي كانت مأساة قاسية ولا تحتمل لكن عليك الاستمرار في العيش ومعانقة الحياة من جديد .
اتسعت عيناها لسماع كلماته وبدا عليها أنها تحاول الكلام لكنه لم يدعها تتكلم .
_ أنت جميلة وجذابة وحياة بأكملها قد فتحت أمامك الآن الماضي مضى عزيزتي تذكري كايس فقط من خلال الولد الذي أعطاك إياه لكن الآن استمتعي وعانقي الحياة من جديد .
ظهر الرعب على وجهها وتمكنت أخيراً من القول بضعف كايس ؟ لا أنت لا تعرف كايس ليس والد بنجي .
جمد في مكانه فجأة وكأنها ضربته ثم سألها : إذن من ؟
تجهم وجهه فما الذي يحدث أمامه ؟
شعرت بذراعيه ترتخيان حولها ورأته يتراجع إلى الوراء .
_ أنا .. أنا لا أعرف .
أصبح وجهه قاتماً من الغضب وصاح : ماذا ؟
ابتلعت ماغي غصة وقالت : أنا لا أعلم من هو والد بنجي أرأيت ... ؟
ابتعد عنها أكثر والتوتر باد في كل ذرة من جسمه .
_ أنت لا تعلمين من .. هو والده ؟
لاحظ أن هناك نظرة مترددة في عينيها لكنه تجاهلها ففي داخله تضطرم نار من الغضب المدمر .
_ هل أقمت علاقات مع عدد من الرجال لدرجة أنتك لا تعرفين من هو والد ابنك ؟
قساوة كلماته اللاذعة لسعتها بقوة ومع أنها بدت مصدومة إلا أنه تابع بقسوة والعنف ذاتهما : إذاً ذلك كايس الذي تتحدثين عنه وعن تلك الخسارة المأساوية هي مجرد قصة عاطفية لتتمكني من السيطرة علي .
تراجعت خطوة أخرى إلى الوراء وهمست : أنت لا تفهم .. ولا تعرف .
التوى فمه بازدراء وقال : آه ! أنا أعرف كل شيء .. أنا أعرف الحقيقة مهما كانت حياتك صعبة وسيئة فليس هناك عذر مطلقاً لتعيشي حياة مستهترة حتى إنك لست منزعجة من عدم معرفتك لهوية والد ابنك .
ملأ الاحتقار والازدراء وجهه وهو يتابع : هل فكرت مرة باستهتارك المطلق وعدم مسئوليتك تجاه ذلك الطفل البريء ؟ ألست أنت مثالاً حياً عن عدم تحمل المسؤولية ؟ ومع ذلك تفعلين ذلك ثانية وكأن ابنك ليس من لحمك ودمك .
صرخت بمرارة وألم : بنجي لي ! لن أتركه أبداً , أبداً .
خلا وجهه من أية تعابير وهو يقول : الولد بحاجة لأبيه .
ظهر شيء من الحزن في صوته ثم قال مكرراً : الولد يحتاج لأبيه وأنت حرمت ولدك من هذا الحق حتى إنه لن يعرف من هو والده ! أم أنك ستكذبين عليه وتقولين له إن كايس والده لتخفي عنه حقيقة أمه ؟
بدا صوته مليئاً بالازدراء والإدانة بغضب سار عبر الغرفة متوجهاً نحو الباب ليصل إلى غرفته من خلاله شعر بألم في أحشائه وكأن شيئاً ما رائعاً نادراً ومدهشاً تحول فجأة إلى فطريات عفنة بين يديه .
ما إن راقبته يغادر حتى وقفت ماغي في مكانها مضطربة من العاطفة القوية إلى الغضب الشديد في عدة لحظات ! شعرت وكأنها في ثورة من الغضب وعلمت أن عليها أن تلحق به .
وصلت إلى الباب المشترك في اللحظة التي كان سيغلقه فيها ومدت يدها لتمنعه قالت بصوت منخفض ومتوتر : رافايللو أنا لا أعرف من هو والده أمر فظيع جداً لكن .. أرجوك أعط السماح والغفران لكايس .
ازداد وجهه تجهماً وعبوساً .
_ كايس ؟ أنت قلت الآن إنه لم يكن والد بنجي ؟
ابتلعت ماغي غصة وقالت : صحيح كايس لم يكن والد بنجي كايس ...
ترددت قليلاً لتقول أخيراً : كايس هي والدة بنجي .
حدق بها وكأنها أصيبت بالجنون أجبرت نفسها على المتابعة : كانت كايس كشقيقة لي لم يكن للواحدة منا سوى الأخرى في كل هذا العالم عندما .. عندما عاودها السرطان .. أصيبت بشيء من الجنون على ما أعتقد كانت تعلم أنها ستموت قبل أن تبدأ حتى بالحياة وقالت لي .. قالت لي ..
شعرت بطوق من الفولاذ يضيق على عنقها جعل من الصعب عليها أن تتنفس أو أن تتحدث لكنها أجبرت نفسها على المتابعة : .. إذا كانت لا تستطيع أن تعيش وإذا كانت ستختفي عن هذا الوجود .. وأرادت أن تبرهن أنها كانت موجودة وأنها وإن كانت لا تستطيع أن تعيش فستترك جزء منها بعدها هل كانت مخطئة ؟
أصبح صوتها كالهمس وهي تتابع : هل كانت مخطئة لمحاولتها الحصول على طفل بأية وسيلة كانت لتترك شيئاً
منها ورائها ؟ هل كان بإمكاني أن أقول لها لا ؟ كيف يمكنني ذلك وأنا لا أواجه المرض والموت مثلها ؟ كل ما استطعت القيام به هو أن أعدها بأن أربي ابنها وأن أكون الأم التي لم يتسنى لها أن تكونها كانت تعلم أني لن أتخلى عن بنجي مطلقاً لأنني أنا نفسي كنت يتيمة كانت تعلم أنها يمكنها الوثوق بي لذلك أعطتني إياه ... قبل وفاتها .
راحت الدموع تنسكب على خديها بغزارة ولم تستطع إيقافها بعد هذا الفيض من الذكريات التي تجمعها بصديقتها وقفت هناك وهي تضع يدها على الباب ولم يعد بإمكانها قول المزيد .
بعد ذلك أحاطتها ذراعان قويتان ضمتاها إلى صدر رافايللو القوي وكأنهما يحمياها انسكبت الدموع أكثر فأكثر وهي تسمع كلمات باللغة الإيطالية تهمس في أذنها لكن ما شعرت به هو إحساسها بالراحة بسبب صوته العميق المطمئن .
استغرقت فترة طويلة قبل أن تتوقف عن البكاء في الأشهر الأولى لوفاة كايس كان بنجي مازال صغيراً ومحروماً فكانا يبكيان لوحدهما في الليل لكن مضى على ذلك زمن طويل وطويل جداً منذ أن بكت لم يكن لديها يومها أحد ليخفف عنها .
أخيراً لم يعد هناك أي أثر للدموع أبعد رافايللو ذراعه عن كتفها وقادها إلى غرفته وقال لها : اجلسي .
سمعت رقة في صوته لم تسمعها منه من قبل ساعدها لتجلس على كرسي بجانب المدفأة الفارغة وربض على الأرض بجانبها ثم أمسك بيديها .
_ اغفري لي غضبي وكلامي السيء لقد تحدثت عن جهل كامل بالحقيقة .
لوى شفتيه بسخرية وتابع : .. كما فعلت معك في السابق .
ثم توقف وتابع بعدها بصدق : يمكنني أن أقول شيئاً واحداً فقط وهو أن بنجي طفل محظوظ جداً لحصوله على هذا الحب الشديد منك .
قالت ماغي وكأنها تصرخ من قلبها : إنه ابني ! .
ضغط رافايللو على يديها وقال مؤكداً : إنه ابنك بالطبع وحبك له يشع كأنه مشعل في الظلام لقد أخذته إلى قلبك وسيبقى هناك إلى الأبد .
رفع يديها إلى شفته وشعر بفرح داخلي لا يمكن وصفه .. شيء رائع وواضح جداً وقف و جذبها نحوه وهو مازال ممسكاً بيديها وتحت تلك الأنوار الخافتة عانقها ..
كان عناقاً ناعماً ... كالحرير .
قال لها بنعومة : أريدك جداً هل تبقين معي الليلة ؟
بدت عيناها عميقتين وغامضتين .
_ رافايللو .. أنا .. هناك شيء يجب أن تعرفه ..
ابتسم وقال موبخاً : هل لديك المزيد من الأسرار ؟ أخبريني بها كلها .
شعرت بخديها يتوردان قليلاً وقالت : منذ فترة قصيرة ظننت أني فتاة مستهترة وكنت غاضباً جداً ..
هز رأسه وقال : غضبي كان بسبب اعتقادي بعدم مسئوليتك بإنجاب طفل لن يستطيع معرفة والده لكن نظراً لما قلته .. حسناً .. ! أنا لست في وضع أستطيع انتقادك فيه إن كان لديك تجارب مثلي .
_ نعم لكن المشكلة هي ...
توقفت عن الكلام وهي تشعر بالإحراج أخفضت رأسها كي لا تنظر إلى عينيه وتابعت تقول : أنا .. لا تجارب لدي مطلقاً .
سقطت كلماتها في صمت طال بينهما ثم ودون أي كلمة أبعدها عنه وسقطت يديه إلى جانبه أما هي فتابعت وهي تشعر بالخجل : أعلم أنك افترضت أن لدي على الأقل ما يكفي من التجارب حتى أصبح حاملاً لكن في الحقيقة ليس لدي أي تجربة أبداً مطلقاً .
اختفى صوتها وتمنت ماغي لو أنها تختفي في صدع في أرض الغرفة .
_ هل أنت عذراء ؟
بدت في صوته نبرة غريبة لم تعرف معناها كل ما أرادته هو أن يتسع ذلك الصدع لكي تنزلق في داخله من المؤكد أنه يفكر أنها مملة غير مثيرة باردة كان عليها أن تتذكر أن ساندريلا عادت إلى ثيابها البالية عند منتصف الليل فلا تنتظر أي اهتمام من رجل غني جذاب ولديه الكثير من التجارب مثل رافايللو دي فيسنتى قالت بتعاسة : أنا آسفة .
_ أنت آسفة ؟
سمعت تلك النبرة الغريبة في صوته مرة ثانية فحدقت في الأرض وأصابعها تلتوي على قماش تنورتها .
فجأة تقدم رافايللو منها ثانية وأمسك خديها بين أصابعه الطويلة الناعمة ثم أدار وجهها إلى الأعلى لتنظر إليه قال برقة : ألا تعلمين أن هناك أمراً واحداً فقط يمكن للمرء القيام به مع زوجته العذراء ؟
حدقت به وقد حبست أنفاسها بدا رائعاً تماماً بعينيه الجميلتين الغامضتين وشعره الأسود الناعم كاحرير وفمه المنحوت بدقة ..
أخذ رافايللو نفساً قصيراً وتابع يقول : أن يغازلها حتى يحصل عليها .
انزلقت أصابعه عن شعرها الناعم ولامست حدود خدها وشعرها المتدلي عليه ثم عانقها .. رفعت ماغي رأسها إليه وكأنها زهرة تتفتح لتشرب من رحيق الآلهة .
شعرت بكلماته تنزل على مسامعها ناعمة منعشة كرقائق الثلج الذائبة على خد حار وكأنه لم يعد في العالم سوى شخصين هي و رافايللو كان يمسك وجهها بيديه وأصابعه تلامسها بنعومة وكأنها أصابع من ريش لكن تحت تلك النعومة كان الشوق ينمو ويكبر وكانت ماغي تشعر به وتتجاوب معه من خلال عناقهما لم تعد تشعر بشيء حولها إلا ذلك الإحساس الرائع المميز ...
قال بصوت منخفض أجش : أنت جميلة , جميلة جداً .
شعرت بقلبها يطير ويرتفع بسعادة لا تقاوم شعرت كأنها تذوب ولم يكن باستطاعتها تصديق ما تسمعه همست قائلة : هل أنا .. جميلة فعلاً ؟
_ وهل تشكين في ذلك ؟
وأمسك بيديها شابكاً أصابعه بأصابعها فكرت ماغي أنها في حلم فالحقيقة ليست بهذا الجمال والسحر ولا يمكن أن تكون كذلك .

روايات احلام / معا فوق النجومحيث تعيش القصص. اكتشف الآن