~الفصل الأوّل~

379 36 17
                                    

تعدو بأقصى سرعتها و كل ما يسمع هو لهيثها المتقطع و صوت تكسر العصيات تحت قدميها.
تجري و تجري، لكن دقات قلبها الصارخة تأمرها ببعض الراحة.
فتوقفت بحذر شديد و احتمت بجانب شجرة فارهة الطول. حاولت تهدئة نفسها و تصفية ذهنها علّه يسعفها بحل سريع ينقذها من هذه المصيبة.

تحلت ببعض الأمل و حاولت تصفية عقلها للتفكير، لكنها وجدت نفسها مشتتة الفكر، فأصيبت بالإحباط و الخذلان. فهي وحيدة، في غابة واسعة وتهوي نحو مصير مجهول، و لحظها السعيد ملاحقة من قبل ذئاب مسعورة تريد تقطيعها و الإستمتاع بها.
تضخم شعورها بالعجز المرير و زادت وحدتها الطين بلة.
لكم من القسوة أن تجد نفسك عاجزا مكبلا، بلا حول و لا قوة.

جل ما تريده هو النجاة و العودة إلى حضن والديها ليغمرانها بدفئمها و لطفهما. تريد تقبيل جبينهما و اخبارهما كم أنها ممتنة لكونها ابنتهما و لكونهما أفضل والدين يمكن أن يحظى بهما الإنسان.
تريد أن تحضى بفرصة أخيرة لبعثرة شعر أخيها سامي كمحاولة منها لإغاظته وتقبيل وجنتي -طفلها الأصغر كما تسميه- محمد متلذذة بخديه الطريين.

دون أن تدري، وجدت نفسها تفكر بإمكانية عدم النجاة! فالإسلام قد أخذ -مسبقا- بالتسلل إلى قلبها.
فهل كان الإستسلام منفذا يوما ؟
لكن هيهات، فهي لم تعد واثقة من شيء و رغم كل الصراعات التي تمر بها و رغم رغبتها بالتوقف و الخضوع فقد وجدت أنها مازالت تحاول.

قررت اتباع طريق النهر التي واجهتها علها تكون سبيلا للخلاص.
أخذت حواسها في التقاط ما حولها، فاستمعت إلى خرير المياه الذي أراحها نوعا ما و تسللت إليها رائحة الأعشاب البرية.
وصلت إلى نهاية الطريق أخيرا و قابلها القمر المنير وانعكاسه البراق فوق سطح النهر.

حدقت به لثوان معدودة ثم تذكرت حياتها قبل ساعات قليلة.

"يا إلهي، ما العمل الآن"
تمتمت بسوء و هي تبحث في صندوق السيارة الخلفي عقب تأكدها لما نسته، فالتفت ناحية أمها و استفهمت: "أمي، لقد نسيت إحضار الحطب من المنزل، ما العمل الآن"

"أوف براء"
تذمر أخوها الذي كان بجانبها مجعدا وجهه وتضربه هي بخفة بعد أن أجابته "أصمت أنت، فأنا لم أحدثك"

"يا ربي ألهمني الصبر عليهما، ألا تتوقفان أنتما عن المشاكسة أبدا"
نطقت السيدة سلمى بنفاذ صبرٍ ثم أضافت
"وأنت أيتها الشابة، متى ستتوقفين عن مضايقتك لأخيك الأصغر؟"
"لكن أمي..."
تذمرت براء لتقاطعها والدتها
"كفى تذمرا براء حسنا. فلتأخذيه معكِ و اذهبا للبحث عن بعض الحطب بالغابة، لديكما ساعة ونصف بالظبط قبل غروب الشمس فلا تبتعدي"

"حسنا إذًا، براء احذري يا ابنتي و كما قالت أمك لا تتأخري، بينما نحن سنقوم بنصب الخيمة بمساعدة هذا السنجوب هنا" تدخل والدها مشيرا على أخاها الأصغر محمد ذو الخمس سنوات و الذي كتف يداه بغيض من أبيه.
أومأت براء بطاعة ثم احتضنت يد سامي وتوجهت لمقصدها.لكنها كلما ابتعدت كلما أحست أمها سلمى بشعور مبهم أقلقها.
فهل أخطأت الأم بشعورها يوما؟

تقدم السيد عمر من زوجته محيطا إياها من كتفيها مداعبا أنفها بسبابته و قال: "إذًا يا شريكة دربي، هلّا تكرمتي وساعدتني في هذه الخيمة المرهقة فهي حقًا تزعجني."
ضحكت بخفة على تصرف زوجها الطفولي وباشرت فورا في مساعدته.

***
أخذت براء في جمع الحطب مع سامي، ثم بنظرة خاطفة منها وجدت أن الإرهاق و التعب قد تمكن منه.
"صغيري، هيا احمل ما استطعت وعد إلى الخيمة، وأنا سأجمع ما أستطيع وألحق بك بسرعة."
تكلمت بلهجة حنونة و لكن بنفس الوقت آمرة.
"لكن أختي أم..."
فقاطعت احتجاجاته و وجهت نحوه اصبعها السبابة آمرة من جديد:" بدون أية معارضة، احمل ما تقدر وعود إلى الخيمة، انتهى النقاش."
لم يستطع أن يحتج أكثر بسبب تصميمها العنيد، فلم يكن بيده سوى الانصياع لها.

***
رغم انغماسها بما تفعل، إلا أن براء لم تغفل أيضا عن التمعن في المناظر الآسرة للغابة بتلك الأشجار شاهقة العلو و متشابكة الأغصان مع الأخرى، بأعشاش العصافير المحتمية بها وأصواتهم الشادية التي أطربت مسامعها المرهفة.
ثم رفعت بصرها نحو تلك التحفة الفنية من صنع الخالق العظيم، إذ تلونت السماء بأحمرٍ قان ليمتزج مَع زرقتها الطاغية و الذي انعكس على قطرات الندى المزينة لوريقات الأشجار والأعشاب الطرية.
فوقت الغروب بالنسبة لها وقت مقدس بإعلانه عن نهاية اليوم وبداية آخر عند فجر جديد لتخلق معه فرص جديدة.
كانت تتمعن النظر في هذه التحفة الربانية في محاولةِ حفظها بذاكرتها، فعطلتها شارفت على الإنتهاء و لا تعلم متى ستعود إلى أحضان الطبيعة.

لطالما جمعت براء ذلك المزيج اللذيذ بين النضج و الطفولية و قد بان ذلك على تقاسيم وجهها اللطيفة، فبتلك البندقيتان الواسعة ذات الرموش الكثيفة و الغامقة كظلمة ليلة قاتمة في أحدى ليالي ديسمبر؛ كانت عيناها تحملان سحرا غامضا جذابًا يجعلك تقع بسحرهما دون أن تلحظ. بوجنتيها الطريتين التي اكتسبت لون الورد بعد ليلة ممطرة، و شفتيها المكتنزتين المكتسبة لحمرة الكرز الطازج في فصل الربيع، إذ أن والدتها كانت دومًا ما تشبهها بالطبيعة الخلابة ودومًا ما تخبرها أنها بريئة ونقية مثلها.

بقيت تسير وحيدة بين أحضان الغابة مأخوذة بجمالها ومأسورة بهذه الجنة الأرضية الغناء لتنسى الوقت وتنسى نفسها. فجأة استفاقت من سحرها لتجد نفسها قد ظلت الطريق.

تجمد الوقت، و توقفت في الا مكان! شعرت بدوامة ضبابية تبتلعها و أخذت أذنيها تصدر طنينا لا يطاق. بقيت عيناها تحدق بخواء، نسيت التنفس لوهلة!
أخذ الذعر بمحاوطتها ثم تسارع نبضها بجنون، أحست قلبها يكاد ينفصل عن صدرها. حاولت الحراك مرارا، لكنها بدت و كأنها قد شلت! حاولت مقاومة خوفها لكنه قد تمكن منها بالفعل.
فلم تدري حتى كيف أوقعت الحطب من يديها مما أدى إلى توجه تلك النظرات الخبيثة إليها. ذئاب أدمية مسعورة تلمع أعينهم شهوة و رغبة في الانقضاض على فريسةٍ جديدة!

بَراءْحيث تعيش القصص. اكتشف الآن