الراهب

612 25 12
                                    

أمضى الراهب بقية نهاره في القرية الرابضة على سفح الجبل المقابل للجبل الأخضر الذي تقع عليه صومعته. كان يريد أن يبقى في القرية إلى ما بعد الغروب، كان يشعر بإحساس غريب يدعوه إلى البقاء فيها، أو الذهاب إلى قرية أخرى ولا يعود إلى الصومعة!. ولكن بوادر عاصفة قوية بدأت تظهر في الأفق، وقطع من الغيوم الصغيرة البيضاء انتشرت في السماء، وقد أسرعت الشمس نحو المغيب..

وعاد الرعاة يسوقون أغنامهم، وتلكأ الراهب في سيره وهو يتطلع إلى الأغنام البيضاء المعلمة ظهورها باللون الأحمر، وهي تنحدر بخفة من فوق الجبال.. ولكن عددا من الرجال الذين عادوا من الحقل، يتقدمهم رجل رث الثياب، يشتد على حماره، أشاروا عليه بالإسراع إلى الصومعة.

وازدادت قوة الريح ، وأقبلت السحب يلهب ظهرها سوط البرق ، ولم تعد أنامل الشمس الوردية تنفذ خلال الغيوم البيضاء.
وعادت أسراب الطيور تزقزق في السماء ، وعلى مسافة بعيدة ظهر أحد الرعاة يتقدم غنمه، يتلفت بين لحظة وأخرى حاثا لها على الإسراع..

ووقف الراهب ينظر إلى الجبل الأخضر الذي انتشرت عليه بعض الأشجار الصغيرة النامية ، والتي أخذت الرياح تهزها بعنف، ينظر إلى الصخور التي أحبها، وعاش إلى قربها، وسكب دموع التوبة على بعضها، هذه الصخور تبدو له هذا اليوم غريبة منفرة، لا تطاوعه نفسه على الاقتراب منها.

وغطت الغيوم السماء، وبدأت ترسل رذاذا، تساقط على وجه الراهب ولحيته، فمسح وجهه بيده، ولم يكترث لدوي الرعد الذي يصم الآذان..
ولكن المطر بدأ يشتد، فأسرع الراهب يسلك الطريق المعبد إلى الصومعة، ولم تنج ثيابه من البلل. وعندما دفع باب الكهف الذي اتخذه صومعه، شعر بيد خفيه تمنعه من الدخول...

أين يذهب في هذه الساعة؟.

وأظلمت الدنيا ، ونزل المطر غزيرا ، وكان البرق يلمع فترى قمم الجبال ، وتبدو بعض الصخور البيضاء الناصعة وإلى جانبها صخور سوداء أو حمراء داكنة.
ومن مكانه استطاع أن يسمع نباح الكلاب في القرية على سفح الجبل المقابل ، ولم يعد يرى الراعي الذي عاد مسرعا ، ولم يبق في الجو طير واحد.

كان فيما مضى يعجبه هذا المنظر ، منظر السماء المزدحمة بالغيوم ، والمطر الغزير ، وكان ينطلق بكل كيانه يشارك الرعد في تسبيحه ، ويحس بدفقة إيمانية تغمره ولا يريد أن تغادره ابدا . .

ما أسعد تلك اللحظات التي مضت.. وما أجملها.. ولكنه هذا اليوم، يبدو كئيبا منقبض النفس، ولا يدري لماذا ؟ .. لقد بات الليلة الماضية ، متهجدا حتى الصباح ، مبللا الأرض بدموعه ، سائلا الله الرحمة والغفران. وقد نام أول النهار بما فيه الكفاية ، وعندما استيقظ رأى أن يذهب إلى القرية لجلب ما يحتاجه منها ، ولكي يعطي لنفسه بعض الراحة لكي تستعيد نشاطها ، وتقوى على العبادة ومواصلة السير إلى الله.

جبل التوبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن