جريمة في الصومعة

146 14 14
                                    

وذعر الراهب وهو ينظر إلى وجه الرجل الغريب، وكأنه ينظر إلى وجه شيطان، بل كأنه ينظر إلى الشيطان نفسه، وتراجع إلى الوراء ثم نهض ولصق ظهره بجدار الكهف، وأخذ يردد:
- أنت قاتل..

وكان الرجل جاثيا مكانه، وقد رفع يديه فوق اللهب يستمد بعض الدفء. وأخذ الراهب ينظر إلى يديه اللتين بدتا له بلون الدم.
- أنت قاتل..

وهتف الرجل:
- ألم أقل لك اسمع قصتي...؟

وهز الراهب يده وهو يقول:
- لا.. لا أريد أن أسمع قصتك.. فأنت مجرم..
أنت قاتل.. كيف تريد أن يغفر الله لك؟!

ونفذ صبر الرجل، وصرخ غاضبا:
- أريد أن أتوب.

وأشار الراهب بيده:
- أخرج من هنا.. اخرج.. أي توبة هذه التي تستطيع أن تكفر عن ذنبك.. تغسل خطيئتك.. أخرج.. لا أريد أن أراك، فأنت مجرم.

واشتد غضب الرجل.. وتحول إلى كتلة من القسوة والوحشية، ورفع جسمه الكبير، ونهض وهو يقول:
- لقد قتلت تسعة وتسعين نفسا..

وتصور الراهب كومة من الجثث يجري من تحتها بحر من الدماء، والرجل الغريب واقفا شاهرا سيفه متعطشا إلى المزيد..
فصرخ الراهب:
- أخرج.. لا تدنس صومعتي بأقدامك، لا تلوث هوائي بأنفاسك.... أخرج من هنا فأنت شيطان.

ثم هجم عليه يدفعه بكل ما أوتي جسمه النحيف من قوة، بينما وقف الرجل الضخم كالصخرة العنيدة لا يتحرك وابتسامة الحزن واليأس والمرارة ترتسم على وجهه بشكل كريه..

ثم قال بصوت كأنه حشرجة الموتى:
- أما وقد أغلق في وجهي باب التوبة، فسأكمل بك المائة..

وأطبق الرجل يديه الفولاذيتين على عنق الراهب، وضغط عليها بكل قوته المتمردة، وأحس بشيء يتحطم تحت اصابعه..
وكانت يد الراهب تتشبث بصدر الرجل وساعده، ثم أخذ يرفس برجله، و قاوم لحظات ثم رجف جسمه النحيل رجفة اخيرة، وتخاذلت يداه إلى جانبه بعد أن جحظت عيناه، وتحول وجهه إلى ما يشبه الدم.
وضربت الرياح باب الكهف، وارتفعت ألسنة اللهيب ، وسقطت العكازة المعلقة على الجدار، ووقع الراهب على وجهه فوق الحصيرة مرتطما بموضع سجوده، ومرت بجسمه رجفة خفيفة، ثم خمد.

وارتفع صوت الرعد غاضبا مزمجرا، وصفرت الريح ، وهُيء له أنه يسمع صوتا من بعيد، صوت رجل يستغيث... وأخذ يفكر مع نفسه.. أين سمع هذا الصوت؟ ومتى سمعه؟..

ونظر إلى الراهب الذي فارق الحياة، و تلفت في أرجاء المكان، فإذا كل شئ عابس متجهم ، حتى النار في الموقد أخذت بالتلاشي..
وأدار ظهره وخرج من الكهف، ورفع رأسه ينظر إلى السماء المزدحمة بالغيوم الرمادية الداكنة، وقد حاول القمر جاهدا أن يطل بوجهه، فإذا بها تطبق عليه وتخنقه فلا يبدو منه شئ..

جبل التوبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن