وفي الليلة التاسعة والثلاثين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فرفعت رأسي إلى فوق لأنظر من أين سقط هذا المنديل فوقعت عيني في عين صاحبة هذا الغزال وإذا بها مطلة من طاقة من شباك نحاس لم تر عيني أجمل منها، وبالجملة يعجز عن وصفها لساني فلما رأتني نظرت إليها وضعت إصبعها في فمها ثم أخذت إصبعها الوسطاني وألصقته بإصبعها الشاهد ووضعتهما على صدرها بين نهديها ثم أدخلت رأساً من الطاقة وسدت باب الطاقة وانصرفت فانطلقت في قلبي النار وزاد بي الاستعار وأعقبتني النظرة ألف حسرة وتحيرت لأني لم أسمع ما قالت ولم أفهم ما به أشارت فنظرت إلى الطاقة ثانياً، فوجدتها مطبوقة فصبرت إلى مغيب الشمس فلم أسمع حساً ولم أر شخصاً فلما يئست من رؤيتها قمت من مكاني وأخذت المنديل معي، ثم فتحته ففاحت منه رائحة المسك حصل لي من تلك الرائحة طرب عظيم حتى صرت كأنني في الجنة، ثم نشرته بين يدي فسقطت منه ورقة لطيفة ففتحت الورقة فرأيتها مضمخة بالروائح الزكيات ومكتوب عليها هذه الأبيات:
بعثت له أشكو من ألم الجوى بخط رقيق والخطوط فنون
فقال خليلي ما لخطك هكذا رقيقاً دقيقاً لا يكـاد يبـين
فقلت لأني في نحـول ودقة كذا خطوط العاشقين تكون
ثم بعد أن قرأت الأبيات أطلقت في بهجة المنديل، نظر العين فرأيت في إحدى حاشيته تسطير هذين البيتين:
كتب العذار ويا له من كاتب سطرين في خديه بالريحان
وأخيرة القمرين منه إذا بـدا وإذا انثنى وأخجله الأغصان
وسطر الحاشية الأخرى هذين البيتين:
كتب العذار بعنبـر فـي لـؤلـؤ سطرين من سبج علـى تـفـاح
القتل في الحدق المراضي إذا رنت والسكر في الوجنات لا في الراح
فلما رأيت ما على المنديل من أشعار انطلق في فؤادي لهيب النار، وزادت بي الأشواق والأفكار وأخذت المنديل والورقة وأتيت بهما إلى البيت وأنا لا أدري لي حيلة في الوصال ولا أستطيع في العشق وتفصيل الأجمال، فما وصلت إلى البيت إلا بعد مدة من الليل فرأيت بنت عمي جالسة تبكي فلما رأتي مسحت دموعها وأقبلت علي وقلعتني ثيابي وسألتني عن سبب غيابي وأخبرتني أن جميع الناس من أمراء وكبراء وتجار وغيرهم قد اجتمعوا في بيتنا وحضر القاضي والشهود، وأكلوا الطعام واستمروا مدة جالسين ينتظرون حضورك من أجل كتب الكتاب فلما يئسوا من حضورك تفرقوا وذهبوا إلى حال سبيلهم وقالت لي: أباك اغتاظ بسبب ذلك غيظاً شديداً وحلف أنه لا يكتب كتابنا إلا في السنة القابلة لأنه غرم في هذا الفرح مالاً كثيراً ثم قالت لي: ما الذي جرى لك في هذا اليوم حتى تأخرت إلى هذا الوقت وحصل ما حصل بسبب غيابك؟ فقلت لها: جرى لي كذا وكذا وذكرت لها المنديل وأخبرتها بالخبر من أوله إلى آخره فأخذت الورقة والمنديل، وقرأت ما فيهما وجرت دموعها على خدودها وأنشدت هذه الأبيات:
من قال أول الهـوى اخـتـيار فقل كذبت كلـه اضـطـرار
وليس بعد الاضـطـرار عـار دلت على صحتـه الأخـبـار
ما زيفت على صحيح الـنـقـد فإن تشأ فقـل عـذاب يعـذب
أو ضربان في الحشى أو ضرب نعـمة أو نـقـــمة أو أرب
تأتنس النفس له أو تـعـطـب قد حرت بين عكسه والطـرد
ومـع ذا أيامـه مـواســـم وثغرها على الـدوام بـاسـم
ونفحـات طـيبـهـا نـواسـم وهو لكل مـا يشـين حـاسـم
ما حل قط قلـب نـذل وغـد
ثم إنها قالت لي: فما قالت لك وما أشارت به إليك؟ فقلت لها: ما نطقت بشيء غير أنها وضعت إصبعها في فمها ثم قرنتها بالإصبع الوسطى وجعلت الإصبعين على صدرها وأشارت إلى الأرض ثم أدخلت رأسها وأغلقت الطاقة ولم أرها بعد ذلك فأخذت قلبي معها فقعدت إلى غياب الشمس أنها تطل من الطاقة، ثانياً فلا تفعل فلما يئست منها قمت من ذلك المكان وهذه قصتي وأشتهي منك أن تعينيني على ما بليت فرفعت رأسها إلي وقالت: يا ابن عمي لو طلبت عيني لأخرجتها لك من جفوني، ولا بد أن أساعدك على حاجتك وأساعدها على حاجتها فإنها مغرمة بك كما أنك مغرم بها فقلت لها: وما تفسير ما أشارت به؟ قالت: أما موضع إصبعها في فمها فإنه إشارة إلى أنك عندها بمنزلة روحها من جسدها وإنما تعض على وصالك بالنواجذ وأما المنديل فإنه إشارة إلى سلام المحبين على المحبوبين وأما الورقة فإنها إشارة إلى أن روحها متعلقة بك وأما موضع إصبعيها على صدريها بين نهديها، فتفسيره أنها تقول لك بعد يومين تعال هنا ليزول عني بطلعتك العنا. اعلم يا ابن عمي أنها لك عاشقة وبك واثقة وهذا ما عندي من التفسير لإشارتها ولو كنت أدخل وأخرج لجمعت بينك وبينها في أسرع وقت وأستركما بذيلي. قال الغلام: فلما سمعت ذلك منها شكرتها على قولها وقلت في نفسي: أنا اصبر يومين ثم قعدت في البيت يومين لا أدخل ولا أخرج ولا آكل ولا أشرب ووضعت رأسي في حجر ابنة عمي وهي تسلني وتقول: قوي عزمك وهمتك طيب قلبك وخاطرك.