يتبع 4...

72 8 0
                                    

بدأت استراحة الغداء للنصف الأول من الموظفين في الطابق الأول والثاني، وبعد نصف ساعة، تبدأ استراحة النصف الآخر.

كنت من النصف الأول، لذا نويت تقضية الاستراحة في البحث عن ماريا، وإعطائها محاضرة بالوقت المتبقي للاستراحة.

ولكن.. وقبل أن أبدأ بالتحرك بحثاً عنها بعد توصلي لذلك القرار المريع، سمعت رئيسة الشركة تناديني، التفت خلفي لأجد بجانبها ماريا.

اتجهت فوراً نحوهما، وكدت أعتذر عن تصرفات ماريا، إلا أن الرئيسة أوقفتني بقولها: اتبعيني لمكتبي.

رائع.. أجمل يوم يستمر على نحو أسوأ فأسوأ.

عندما دلفنا ثلاثتنا داخل غرفة مكتبها، أشارت لي ولماريا بالجلوس، فجلست وأنا أهز قدماي بعصبية من شدة التوتر.

جلست الرئيسة خلف مكتبها الضخم، ووضعت يداها أسفل ذقنها، وأسندت كوعاها على الطاولة.

قالت بهدوئها القاتل: إذاً.. ما قصة هذه الأجنبية؟

أجنبية؟! ليس كل فتاة جميلة ببشرة بيضاء تعتبر أجنبية، ومع ذلك لا أستطيع إنكار الأمر فهي ليست من هنا، ورغم أن الأمر ضايقني قليلاً إلا أني لم أجد محفزاً لأدافع عن ماريا، فقلت: إنها ابنة خالتي، لقد أحضرتها معي اليوم فقط كزائرة.

- زائرة؟ زائرة وقد أدارت المحل بأكمله دون أي يطلب منها أحد ذلك؟

- أنا آسفة حقاً، لكنها ومع احترامي الشديد لكِ، لم تفعل أي شيء خاطئ، بل قدمت مساعدة مجانية للمتجر، لقد أرشدت-

قاطعتني وقد علا صوتها: إذاً تقولين أن ليس لي الحق كمديرة أن أعين من أشاء ليدير المتجر، بل يستطيع أياً كان أن يحضر ضيوفاً وزواراً ليتصرفوا بحرية كاملة هنا.

أكملت بنبرة رقيقة وهي توجه كلامها لماريا كأنها تخاطب طفلاً: من أخبرك يا عزيزتي بأننا نحتاج مساعدات مجانية لتقدميها لنا؟ هل هو متجر والدك وأنا لا أملك علماً؛ حتى أعتذر عن كلامي إن كنت مخطئة.

أخفضت ماريا رأسها وهي تتمتم: أنا آسفة، لم أقصد.

ماذا؟ تعتذرين؟ لكن على ماذا تعتذرين؟ هي من يجب أن تعتذر على وقاحتها وليس أنت!

تنحنحت المديرة على كرسيها الجلدي الكبير، ثم قالت بعد صمت قصير: هل هي هنا لفترة قصيرة؟

لماذا تشيرين إليها بهي؟ ولماذا تسألينني عنها؟ أليست أمامك؟ إذاً اسأليها.

لكنني لم أجرؤ على قول: لست ولية أمرها لأجيب عنها، فلتسأليها مباشرة.

بل التزمت حدودي وأجبت بأدب: أجل، ستعود لبلادها بعد عدة أشهر.

- أوه كم هذا محزن؟ لقد أردت أن أوظفها عندنا، لكن إن كانت زيارتها لن تطول فليس باليد حيلة.

نظرت لماريا، كانت تنظر لي وعيناها كلهما توسل بأن أساعدها بنيل الوظيفة، وفقط لرغبتها تنازلت عن كبريائي وقلت: في الواقع هي ستبقى هنا لثلاثة أشهر تقريباً، ولا مانع لديها بنيل الوظيفة.

رفعت الرئيسة حاجباها وقالت بسخرية: أأنت وكيلة أعمالها أم مربيتها؟ لقد احترت.

تجاهلت ما قالته وحاولت قدر الإمكان الحفاظ على هدوء أعصابي.

قالت أخيراً وهي تتأمل القلم في يدها: لا أمانع في توظيفها، فلتكمل العمل اليوم، لكن غداً عليها أن ترتدي الزي في المقام الأول. وأريد منك أن تُعلِمِيها بسياستنا هنا، فكما تعلمين، لا أحب المشاكل والفوضى.

نهضت عن كرسيها لتأذن لنا بالانصراف.

خرجت وأنا أشعر بالإهانة، كيف يحدث هذا لي وفي هذا اليوم بالذات! صحيح أنني تخليت عن فكرة كونه أجمل يوم في حياتي، لكن لا يعني هذا أن يستمر على نحو سيء.. إلى متى؟

سمعت ماريا تقول بصوت منخفض: هذا أسعد يوم في حياتي!

نظرت لها مستغربة، فوضحت: لقد توظفت أخيراً.

أوه.. حقاً؟! تهانينا.

في داخلي استغربت فعلا سبب سعادتها، فلا يعقل أن تكون بتلك البساطة التي تجعلها تفرح لأي سببٍ كان ولكني خشيت فتح الموضوع فأتورط مجدداً بقصصها الدرامية.

كان قد تبقى على الاستراحة ربع ساعة تقريباً، لذا اتجهنا إلى الكافتيريا المخصصة للموظفين، لم يكن بها ما يدهش، فقط بوفيه لبيع الوجبات الخفيفة وماكينة لبيع المشروبات، وتم توفير -من حسن حظنا- طاولات ومقاعد.

سحبت كرسياً وجلست ففعلت ماريا المثل وجلست بجانبي. لفت وجودها -وبدون الزي أيضاً- نظرات كل من كان بالغرفة.

أتت بعض زميلاتي المقربات وجلسوا معنا.

كانت رغد -صديقتي المقربة- هي أول من تحدث، فقالت بمرح: لمَ لا تعرفينا على الجميلة بجانبك؟

ها قد عدنا من حيث بدأنا، أريد أن أفهم شيئاً واحداً، لماذا يسألونني أنا عنها؟ لمَ لا يسألوها مباشرة، وطبعاً انتهى بي الأمر -ككل مرة- توضيح من هي وسبب وجودها هنا، وبالطبع حافظت على "خصوصية" أنها من بلد أجنبي.

علقت زميلتي أرجوان بصوت مرتفع ما جذب أنظار كل من حولنا: إذاً فهي في إجازة لثلاثة أشهر فقط، وستبدأ العمل بشكل رسمي في الغد؟

نظرت إليها ياسمين ببرود وقالت: هل من الضروري أن تعيدي لنا ما سمعناه للتو!

أدارت أرجوان عيناها متأففة وقالت: عليك أن تكوني طبيعية مثلي هكذا.

أخذتْ نفساً عميقاً والتفّت بجسدها ضخم البنية ناحية اليمين ثم ناحية اليسار؛ لترينا كم هي.. رائعة.

ما أحبه فيها هو ثقتها بنفسها، رغم أنها الوحيدة بيننا التي تملك جسداً ضخماً يكاد يتفوق على أجساد زملائنا من الرجال، لكن أصعب ما فيها هو حزنها، فمن الطبيعي أن يحزن الشخص، لكن ما يميز شخصاً عن آخر في مثل هذه الحالات هو ردة فعله تجاه ما أحزنه.

فأرجوان عندما تحزن، تصبح كالثور الهائج الذي يصعب تهدئته أو التواصل معه، وإن بكت، تنفجر ينابيع وعيون ماء منها مع مؤثرات صوتية.. يمكن وصفها "بالشجية".

لستِ أفضل منيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن