لم ترق لعابد إطلاقا تلك الطريقة التي عرف مهيار نفسه بها على زيان , راقبها و هي تحضر الإفطار صباحا , لتتناوله معه كما اعتاد منذ ذلك اليوم وهو يقضي أطول الأوقات معها , حتى أنه يمر عليها في المحل في أوقات متفرغة بينما لعجبه فقد وصلت طلبيته التي أرادها دون سابق علم منه ..
أفرغها و لكنه غير مطمئن لما يجري سألها محاولا أن يبدو سؤاله عاديا
*هل رأيت مهيار ثانية ؟
قطبت للحظة وهي تشرب الشاي محاولة تذكر من يقصده فسألت بشك
*تقصد ذاك الشاب الذي رأيته عندك ؟
هز رأسه بنعم لتنفي و قد تذكرته تماما و كم تمنت أن تلقاه حقا ثانية
*لا لم أره ..
لم يتمكن من التنهد راحة فحتى هذا الوقت لا يعلم بماذا يفكر مهيار ..
و اقترح مبتسما
*ما رأيك أن نقضي اليوم معا ؟
تدلت ملامح وجهها الجميل بحزن
*و لكن أبي لدينا الكثير من العمل لا يمكنني ذلك ...
أخفى قلقه بابتسامة ليؤكد عليها كما اعتاد
*إذن سنتناول الغداء معا ..
حملت حقيبتها و اقتربت منه تقبل خده
*كما تريد سأنتظرك..
نظرت لساعتها لتعاتبه بدلال
*أصبحت أتأخر عن نزهتي الصباحية..
نهض بسرعة يلتقط مفاتيحه
*سأوصلك..
دفعته بكفها الصغيرة ليجلس مرة أخرى
*بل سأسير أنت تعلم كم أحب المشي صباحاً..
و سحبت شالا خفيفاً عن الشماعة المعلقة قرب الباب لترميها حول رقبتها بإهمال و تترك شعرها هفهافا يرتاح على ظهرها..
تبعها والدها إلى الباب يراقبها بحسرة وع جز، حين خطرت له فكرة أعجبته جداً... أدخلت بعض السكينة لقلبه وروحه..
سيخرجها من محيط هذا المجنون الذي اقتحم حياتهما و لن يسمح له بأذيتها ، سيتصرف دون أن يثير شكوكه..
عند هذه الفكرة ركب سيارته وتبعها عن بعد حتى اطمئن أنها وصلت لمحلها بأمان...
كانت منغمسة في تصميم بطاقة للفرح حين اقتربت ريوان منها لتضع الحاسب أمامها بفم ملتو
*انظري المهووس ذاته يريد بطاقتين يبدو أن تصميمك أعجبه!
قفزت روجين عن كرسيها لتقترب منهما
*ماذا ماذا...
و لفت الحاسب لتقرأ ما المطلوب فكبرت فتحتي عينيها لتهتف
*يا إلهي هل هو جاد لمن يرسل هذا البطاقات...
زمّت زيان شفتيها المكتنزتين مستاءة
*ليس هذا المثير للعجب ، بل يريد ذات تصميم الجمجمة مع الورود!
ابتعدت ريوان لتعود لمكانها
*نعم ورود مع جملة أهلا بك في جحيمي!!
تنهدت روجين براحة
*الحمد لله أننا لا نتعامل مع أناس مثله في الحقيقة..
بينما زيان عادت لتصميمها الذي شارفت على إنهائه
*كالعادة ستتركانه عليّ؟
لم يردا عليها فقالت بإحباط
*كنت أعلم ذلك..
نظرت روجين لساعتها
*سأخرج مع خطيبي اليوم فقد دعاني للغداء..
*و أنا أبي سيمر ليأخذني للغداء كذلك..
عبست ريوان
*و سأبقى وحدي!
اقتربت منها زيان لتربت على كتفها تواسيها مقترحة
*تعالي معنا والدي لا يمانع..
*حقاً؟
*بالطبع...
لم يأت الرد من زيان بل من والدها الذي ظهر فجأة و ألقى التحية عليهن
*لم أكن لأمانعك صغيرتي..
و صفق بكفه مقترحاً
*ما رأيكن بعطلة يوم من العمل..
نظرت له الفتيات باستغراب ..
ليشرح
*نزهة يوم لأي مكان تردنه بإمكانك إخبار خطيبك روجين .. ستكون رحلة مميزة..
نعم هذا ما سيفعله سيرسلهم للساحل بعيدا عن المدينة , حيث أخوالها ..
حيث الرجال الأشداء فلا يقدر مهيار على الاقتراب منها وحينما تصبح هناك سيخبرها أن تبقى لتنتظره وينهي أمور محله حتى لو أغلقه فما بقي لديه من مال يكفيه وقتا طويلا , وسيتبعها ويقنعها بالبقاء هناك وربما وجد لها زوجا مناسبا بسرعة قبل أن يعلم مهيار ما الذي حصل وحينها فلينتقم منه هو كما يشاء ..
هللت الفتيات للفرصة فهن حقا بحاجة ليوم طويل بعيد عن العمل و مشاكله ..
فكان له ما أراد ...
ليكن صباح اليوم التالي في سيارة زين خطيب روجين متجهات للساحل بعد أن قضين وقتا طويلا في العمل أمس كيلا يتراكم العمل عليهن ..
بدت زيان مستاءة لأن والدها لم يقدر في آخر لحظة من القدوم معهم فقد انشغل في محله بمشكلة ما لم تفهم منه شيئا عما هي !
داعبها زين ليمحو عبوسها
*لا تبتأسي يمكننا أن نمر على الشاطئ ونعود لا داعي لأن تبتعدي عن والدك ..
ابتسمت له شاكرة الفكرة
*نعم سيكون ذلك جيدا لا أحب أن أبتعد عنه مدة طويلة .
اعترضت ريوان بحنق
*لا لا لقد وضعت الكثير من الخطط لقضاء وقتي في الريف !
نظرت لها روجين ضاحكة
*ويمكنك وضع غيرها على الشاطئ ..
لم ترد .. زمت شفتيها باستياء وسكتت ..
وبالفعل خلال وقت قصير وصلوا للشاطئ , فالوصول للريف كان سيأخذ منهم وقتا أطول .. وهناك على الرمال تفرقوا .. دون حتى التفكير بتناول إفطارهم ..
روجين ذهبت مع خطيبها تمشي قرب الأمواج , وريوان انكبت تجمع الأصداف التي تعشقها رغم اعتراضها على تغير الخطة ..
وزيان تأملتهم وسارت بعكسهم على الاتجاه الآخر من الأمواج ..
انحنت لتخلع حذائها الرياضي وجواربها فلا فائدة له هنا وحملتهما بيدها تتابع سيرها مبتسمة لحبات الرمال التي تلاعب أصابعها وجلدها الرقيق ..
لم ينتبه أحدهم أبدا لتلك السيارة التي كانت خلفهم تماما ..
ابتسم مهيار للشاب الذي معه قائلا
*من قال أن أجهزة التنصت الصغيرة القديمة لم تعد ذات فائدة ..
رد الشاب الجالس قربه
*حرصت على ألا تظهر وكان يبدو الأمر وكأني ألقي نظرة لما يعرضنه الفتيات .
عض مهيار شفته بإثارة بينما قرر أخيرا أن يترجل من سيارته طالبا من الشاب البقاء فيها ..
كان خلفهم تماما طوال الطريق وكم غير تغييرهم الطريق من خططه لقد أصبحت أسهل .. و زيان هذه أصبحت فرصة أكبر..
تخلص من حذائه وحمله بدوره , عيناه تتابعان البقية , كم هو مسكين لو اعتقد أنه سيبعد ابنته عنه بل على العكس لقد قربها منه دون أن يعلم .. وهذه أيضا سيتذكرها ويعتبرها شفيعا لها لاحقا حين تدفع الثمن ..
ومشى خلفها دون أن تلاحظه حتى سمع ضحكة ناعمة صادرة عنها كهديل الحمام فتوجس أن تكون انتبهت له ولكن لعجبه كانت ضحكتها للرمال فقد بدأت تركل الرمال بقدمها لتتطاير في كل اتجاه .. وخاصة نحو الأمواج ..
ورمت الحذاء لتنحني وترفع بنطالها الواسع حتى ركبتيها وتخلصت من الجاكيت القطنية النعامة التي كانت تغطي كتفيا ترميها على الرمال وركضت نحو الموج بجنون ...
غير مبالية بأحد ولا منتبهة لذاك المراقب المستمتع بصيحات طفولتها ولا ركلاتها المجنونة للموج الذي بللها تماما حتى رمت نفسها على الرمال مبقية جسدها في الماء ضاحكة ..
همست بتعب
*تبا للجنون ماذا سأفعل الآن بملابسي ..
وجاءها الرد على الفور
*ستبقين مكانك وسآتي بشي جاف لك ..
شهقت بهلع لتحاول الوقوف بسرعة لكنها تعثرت ووقعت في المياه ! ..
تباً تباً...
شتمت بصمت لحركتها الخرقاء التي جعلته يضحك مرجعا رأسه للخلف وكأنه لم يضحك منذ دهر...
وما أن توقف حتى رفع إصبعه مؤكداً
*مكانك لا تتحركي سأعود على الفور..
وذهب جري نحو سيارته ليفتح الصندوق يسأل ملهم
*هل لدينا ثياب في الحقائب؟
انحنى ملهم ليسحب الحقيبة الضخم
*طبعاً سيدي إنها معدة دائما للسفر المفاجئ..
فتحها ملهم فأبعده مهيار ليبحث فيها حتى وجد أحد مناشفة الضخمة الخاصة، أبعدها وبحث ثانية في الحقيبة وحين لم يجد ما يناسب عاد لها هامسا باستياء
*لا تستحق أن أخسر منشفتي لأجلها.
نظر نحو الشاطئ حيث هي بكره مكشرا
*بعض التضحية يا مهيار..
وحمل المنشفة عائدا لها بسرعة قبل أن تأتي إليها إحدى المزعجات فهن لا يتركنها أبدا إلا حينما تذهب للبيت !
وصل ليجدها واقفة تحاول نفض الرمال عن ملابسها علّ الشمس تجففها قليلا فباغتها من الخلف ورمى المنشفة على كتفيها ، لتجفل قافزة وتلتفت له بغضب
*أخفتني..
كانت تقريبا تصرخ عليه رغم أنه قصد مساعدتها .. فارتفع حاجبه بغيظ ومنع نفسه بصعوبة عن الرد الذي يريده، مذكرا نفسه أن الحساب قادم ..
ابتسم مرغما نفسه على رسم ضحكة بلهاء على صغيرة جعلتها تنظر له بانبهار ..
فاتسعت ابتسامته داخليا هامسا لنفسه
(نعم ليعجبك ... يجب أن تقعي في الحب إنها الحياة ، الفريسة دائما تحب الصياد )
واقترب خطوة فقط ليعدل المنشفة ليلفها على جسدها قائلا بصوت أجش خافت
*حافظي عليها هكذا ملابسك بدأت تشف بعد أن تبللت..
احمرت بخجل ، مبعدة عينيها عنه لتعبس متذكرة
*كيف جئت لهنا!
ارتبك ولكنه أخفى الأمر بسرعة ، لم يتوقع منها سؤالا كهذا
*لدي بيت هنا على الشاطئ..
وأشار بالفعل لمنزل منعزل قليلاً ، يقع على اللسان البحري
*ذاك هو..
شكر حظه الذي جعله يشتري هذا البيت منذ عامين رغم أنه لم يستخدمه قط..
نظرت إلى حيث أشار لتتسع عينيها بفرح
*كم هو رائع ، احسدك حقاً لامتلاكك مكاناً كهذا...
رسم ابتسامته السحرية على شفتيه وقال بلهجته التي تجعل نظراتها تهيم به
*البيت وصاحبه طوع بنانك جميلتي...
أطرقت خجلا و قبل أن يقول أحدهما كلمة إضافية ، اقتحمت ريوان خلوتهما هاتفة بها
*أنت هنا و نحن نبحث عنك !.
وانتبهت أن زيان ليست وحدها , فاحمرت خجلا معتذرة مبتعدة خطوة للخلف لتقول لها قبل أن تفر هاربة
*سننتظرك لا تتأخري .
أومأت زيان برأسها ونظرت له لترفع المنشفة عن جسدها وتعيدها له
*شكرا لك لست بحاجتها بعد الآن ..
لكنه رفض أن يأخذها
*دعيها على كتفيك ثيابك مبللة ..
أرادت أن تجادله
*لكني حقا ..
قاطع كلامها مصرا أن تبقيها معها ..
فابتسمت مستسلمة لإرادته , وعادت تنظر نحو بيته وانتبه لنظراتها فتساءل
*هل تحبين العيش في بيت مثله ..
نظرت له بعنين متسعتين
*ومن لا يحب ذلك إنه كالحلم ..
كان ينظر لها بدقيق من شعرها المرفوع كذيل حصان وقد تبلل بالكامل إلى كنزتها القطنية والتي دون أكمام والتي دون أكمام , فأعادت وضع المنشفة على كتفيها تخفي جسدها عن نظراته واعتذرت منه
*عذرا تأخرت على أصدقائي ..
وابتعدت بسرعة بينما قلبها ينبض بجنون سمعت ذات الصوت يناديها
*زيان ..
إنه ذات الصوت .. ذات الصوت الذي كانت تسمعه , هل كانت إشارة من القدر أنها ستلتقي به ..
وقفت ونظرت للخلف لكنه لم يكن ينظر لها , كان قد ابتعد بدوره يعطيها ظهره , راقبته لعدة لحظات قبل أن تكمل طريقها وقد أصبح لهذه الرحلة نكهة ولون آخر ..
وقضت الباقي من اليوم تضاحك ريوان على الشاطئ وتجمعان الأصداف ..
بينما روجين مع خطيبها يلعبان على الشاطئ وكأنهما طفلين صغيرين وكم ضحكت هي وريوان عليهما وعلى تصرفاتهما ..
هل حقا يبدو العشاق كالحمقى إلى هذا الحد !
وسرحت عينيها نحو ذاك البيت .. ترى ما الذي يفعله الآن ..
آخر ما توقعه عابد هو اتصال زيان ظهرا تخبره بعودتهم ..
كل اعتراضاته ذهبت سدى وضحكا دون أن يعلم أحدهم بأي نار أشعلوا في قلبه ..
.........................
*أبي حقا لا أعلم سبب اعتراضك على رؤيتي لمهيار !
صرخ عابد بغضب
*لا أريدك أن تقتربي منه حتى أنا لا أحبه ..
رفعت رأسها بكبرياء ونظرت له
*ولكني تعرفت عليه عندك في المكتب وقال أنكم معرفة قديمة لمَ لم تعترض حينها؟
*زيان قلت لا وكفا ..
هدر بها رغما عنه فها هي تخطو نحو الجحيم بقدميها بينما هو عاجز عن فعل أي شيء , لا يعرف ما الذي قد يفعله ذاك المجنون .. إنه يسحر صغيرته ببساطة يجذبها نحوه , منذ تلك الرحلة المشؤومة وعلاقتها به تزداد قوة ..
كان من الغباء بحيث ظن أن مهيار قد اختفى فلم يعد يظهر ولا يفعل أي شيء , فتوقف عن سؤال زيان عنه ولكنه لم يتوقع أبدا أنه في تلك اللحظات ابتعد عنه ليرمي شباكه على ابنته .. وقد نجح ..
نجح مهيار في جذب ابنته كالفراشة نحو النار ..
ما الذي عليه فعله الآن ..
*زياااان ..
صرخ يناديها فخرجت من غرفتها عابسة تكتف يديها على صدرها
*ستذهبين لأخوالك اليوم لا بل الآن في هذه اللحظة ..
لكن زيان التي ملت من أفعال والده الغريبة والتي تعجز عن تفسيرها هدرت بدورها
*لست صغيرة ولن أذهب للريف ولن أبارح هذه المدينة كف عن معاملتي كطفلة ..
واتجهت إلى الباب لتخرج مسرعة تصفق الباب خلفها بكل قوتها متجاهلة نداء والدها لها ...
تبعها عابد بسرعة ولكنه لم يسر بضع خطوات خلفها حين ظهر له مهيار من العدم ليقول بابتسامة سمجة
*مرحبا عمي ...
فاجأه الصوت فلم يكن أبدا يتوقع وجوده هنا , هنا .. قرب بيته !
التفت له بجنون واندفع نحوه بكره ينوي ضربه
*أي شيطان أنت .. أي شيطان على ماذا تنوي ...
لكن مهيار الفتني والأقوى عودا منه تمكن من إيقافه ليهمس بقسوة صلبة بينما مساعده قربه يستعد للتدخل إن اقتضى الأمر
*لا اعتقد أنك تريد أن نناقش موضوع ابنتك في الشارع حيث من الممكن لأي شخص أن يسمعنا ..
ابتعد عنه عابد مرغما ينظر حوله متأكدا أن زيان لم تعد لترى هذا المنظر ..
سبقه مهيار بخطواته نحو البيت قائلا بسخرية لاذعة
*البيت بيتي عمي أعلم ذلك هيا تعال ..
تبعه ملهم ليدخلا بيته دون إذن حتى , فلم يجد بدا من اللحاق بهما ..
تجول مهيار في البيت بحرية و كأنه ملكه بينما عابد ينظر له بريبة ويراقبه بحذر حتى مل من تصرفاته وقال غاضبا
*أرحني ما الذي يبعدك عنا ..
رفع مهيار كتفيه وادعى التفكير للحظات وقال ببساطة
*لا شيء !
وجلس على أقرب أريكة منه مشيرا لعابد
*تعال .. تعال اجلس قربي لنتفق على الزواج..
صرخ به عابد يكاد ينفجر من بروده
*لن تتزوج زيان , وليكن بعلمك اليوم سأرسلها إلى أخوالها .. وافعل ما شئت لا أهتم ..
ارتفع حاجب مهيار بدهشة كاذبة
*ألا تهتم لسمعتك لو نشرت صور زوجتك !
طوح عابد بكفيه
*تبا لك لها ولمَ أهتم لقد ماتت , أتفهم ماتت منذ سنوات ما يهمني الآن هو صغيرتي زيان و لن أسمح لك بأذيتها ..
زم هيار شفتيه لتشع عينيه بالرضا عما سمعه
*كم أنت أب مثالي ... أعجبتني حقا ! لا تبالي بشيء في سبيل ابنتك ..
رفع عابد إصبعه في وجهه
*وسأفعل المستحيل لأبعدها عنك ..
صفق مهيار بكفيه بإعجاب
*برافو برافو ...
ووقف لينحني له بطريقة مسرحية , شد ملهم لجواره لينحني مثله بينما عابد ينظر له بقلق , غير مرتاح وبالفعل عاد مهيار ليرمي جسده على الأريكة فتحركت من مكانها قائلا بلهجة عملية بحتة بعيدة تماما عن السخرية ..
*لنفكر قليلا بعقلانية , ستسلها لأخوالها نعم ستنجيها مني لا أنكر حسنا لنبعد الفكرة الجيدة ونعود للتفكير العقلاني ..
أشار بكفه لعابد
*اجلس اجلس لا داعي للصدمة الآن كنت قويا حتى الآن دعك قويا للقادم ..
وبالفعل جلس عابد على كرسي قريب منه , ينظر له بقوة لا يبعد عينيه عنه , وكأنه سيتحول لشبح يخطف زيان ويهرب ..
اتكأ مهيار للخلف قائلا
*بما أنك مصر على وصفي بالشيطان .. سأقول لك بما يفكر الشيطان الآن ..
حمل صورة زيان القريبة منه على الطاولة الصغيرة , وابتسم ليديرها له
*أرسلها للريف , وأنا سأنشر الصور فعلا ما النتيجة برأيك ؟
عبس عابد فلبه يرتجف بريبة
*ما الذي تعنيه ...
وضع مهيار الصورة على وجهها وشبك كفيه أمامه
*الشبهة ستلحق ابنتك , أخوالها سيجنون خاصة أني سأحرص على علمهم , أنت ستصبح مثار الشفقة والأهم ..
اتسعت ابتسامته ينظر له سعيدا بانتصاره
*أخوالها سيعتقدون أنك أرسلتها لأنها شبيهة أمها , وسيزوجونها بأول شاب يظهر في وجههم من العائلة وستعيش طول حياتها معهم وهي ابنة الزانية تهان من زوجها الذي لن يثق بها وسينتظر أن تفعل أقل خطأ كي يذلها ويضربها ..
ادعى البؤس متجاهلا عيني عابد المتسعتين
*كم هي مسكينة زيان ينظرها الجحيم من كل مكان ..
ضيق عينيه ليقف ويتجه نحو عابد المصدوم ليضع يده على كتفه بابتسامة جانبية
*صدقني معي ستكون أفضل , على الأقل ربما أمل منها بعد شهر وعلى الأكثر عام , ولكن لو تزوجها رجل ريف فالعذاب الذي ينتظرها أبدي ...
ازدرد عابد ريقه بصعوبة ورفع عينيه له برجاء رجل يائس لحماية ابنته مما يحضر لها
*ابتعد عن زيان لا تؤذيها لا ذنب لها .. لا ذنب ..
نظر له مهيار مطولا وتنهد بصوت مسموع
*وأمي لم يكن لها ذنب ...
أمسك عابد كفه برجاء
*زيان لا تستحق إنها...
قاطعه مهيار بقوة غير متسامح
*إنها ابنتها ... ولكن لأجل رجائك هذا سأعتبره شفيعا لها لاحقا ...
وتركه ليبتعد نحو الباب ليفتحه ويخرج ملهم قبله , نظر له ليقول بأمر
*وافق على زواجي وأعدك ألا أؤذيها جسديا ... لو استطعت ...
وتركه وحده وغادر بينما الأهوال تقع على رأسه أكوام أكوام ....
لم يتحمل ما يجري , يشعر بأن قلبه على وشك أن يقف عليه أن يجد زيان ويهرب بها , لأي مكان لا يهم الوجهة ولا يهم أي شيء فقط ليهرب بها ..
حمل حقيبته الجلدية الصغيرة التي تحوي كل أوراقه وكل ما يحتاجه وعلى التسريحة في غرفة زيان وجد محفظتها الصغيرة التي تضع فيها ما يهمها والتقط مفاتيحه مغلقا الباب خلفه بقوة ..
ركب سيارته وانطلق بها . . تقريبا هو يعلم المكان الذي تتواجد فيه زيان عندما تسعى للخلوة , فغالبا ستتوجه نحو المتنزه الموجود في نهاية الحي ..
وبالفعل قبل أن يصل إليه رآها تسير مطرقة الرأس وعائدة للبيت كما يبدو ..
رفع يده من نافذته ونظر لها .. يناديها ..
*زيااان ...
لكن ندائه لم يكتمل , فقدَ سيطرته على السيارة التي كانت مسرعة وانحرفت به لتخرج عن الطريق نحو الرصيف قبل أن تنقلب عن الرصيف وقد اصطدمت بقوة بعامود الإنارة الضخم ...
كل شيء بدا أمامها وكأنه فيلم سينمائي يعرض على التصوير البطيء ..
سمعت صوت والدها يناديها نظرت لترى يده تشير لها قبل أن يتجه نحو الرصيف وقد نسي أمر المنعطف كما يبدو والناس تركض هاربة من أمامه .. والسيارة تكمل طريقها ليوقفها عمود الإنارة الضخم فانقلبت على جانبها ويد والدها كان لها النصيب الأكبر من الحادثة ...
وقفت مكانها مبهوتة لا تعي ما تراه , حتى فطنت أن ما حدث هو حادث سير ...
والدها هو من يقود ...
لكن الجمود تلبسها , وكأنها بجمودها تنكر ما حصل وأن ما تراه ما هو إلا مزيدا من التهيؤات التي ترافقها مؤخرا ...
أغمضت عينيها مقنعة نفسها بذلك وحين فتحتهما كان كل شيء على حاله ..
الناس تركض نحو السيارة يحاولون جاهدين إخراج الرجل العالق فيها ...
والتجمع يكبر ويكبر .. لتفر دمعة من عينيها صارخة تركض نحوه
*أبـــــــــــــــــــــي ..
أما ما جرى بعدها فقد كان كالحلم ...
امرأتين أمسكتا بها يمنعانها من الاقتراب , صوت رجل يحذر من وجود تسرب من خزان الوقود ووجوب إخراج الرجل بسرعة .. وهي تناديه بقهر بينما رجال الشرطة وصلوا وبعدهم بدقيقة وصلت الإسعاف لينهوا مسألة إخراجه على خير ..
بينما تولت إحدى الكراجات القريبة مسألة إبعاد السيارة من هنا ..
أما الوقت الذي مر بطيئا جارحا فقد كان الانتظار في المشفى حيث قبع والدها في غرفة مع الأطباء لوقت طويل ..
وصل فيه إليها روجين وزين وريوان , ليكونوا معها ...
لا تفهم كيف حصل ذلك ... عقلها لا يستوعب الأمر , لقد كان كل شيء عاديا كيف انقلب نحو الخطر بهذه السرعة .. كيف ...
قضت الوقت تتنقل بين الردهة وباب الغرفة لا تسمع ما تقوله البنات ولم ترد على محاولة زين في جعلها تشرب القليل من العصير لتهدأ من أعصابها ...
كل ما يعنيها هو والدها , أن يخرج من تلك الغرفة بخير .. أن لا تخسره كما خسرت أمها ..
اسندت جبينها على الجدار الأبيض البارد .. واستسلمت لدموعها .. هي السبب لو لم تخرج بهذا الشكل من البيت لما تبعها قلقا عليها هي السبب بما حدث معه ...
علت شهقتها وجسدها ينهار لتنزل ببطء جالسة على الأرض تضم جسدها منتحبة ..
سارعت روجين نحوها لترفعها وتضمها
*اهدئي بالله عليك سيكون بخير ..
اقتربت ريوان بدورها لتشد من أزرها في هذا الظرف ..
لكن دموعها لم تتوقف حتى وقت ليس بقصير حين خرج أحد الأطباء من الغرفة , فنفضت يدي روجين من حولها مسرعة نحوه تمسك كفه
*أرجوك كيف حاله قل لي أنه بخير أرجوك ..
رسم الطبيب ابتسامة عملية على شفتيه ليجيب بوقار
*خلع في الكتف يحتاج وقتا لكي يشفى والقليل من الجروح الحمد لله الحالة ليست سيئة , لكنه سيكون مضطرا لاستخدام الكرسي المتحرك لفترة فلديه كسر بالساق ..
الحمد لله على سلامته ..
لم تهتم لكل تلك الجروح طالما أنه حي وليس بوضع خطر فترجته
*هل يمكنني رؤيته ...
أعطاها ورقة طويلة من الأدوية المطلوبة
*بعد ساعة من الآن فلا زالت الممرضات ينظفن الجروح ..
رسمت ابتسامة مرتجفة على شفتيها ووقفت قرب الباب تنتظر اللحظة التي تخرج فيها الممرضات لتدخل له بينما زين أخذ الورقة ليحضر ما يلزم ..
جلست روجين على أحد المقاعد المنتشرة لتستريح قليلا وجلست قربها ريوان هامسة
*الحمد لله أنه بخير ..
همست روجين بدورها
*أجل الحمد لله لو لا ذلك لجنت زيان بالتأكيد ...
أما تلك فقد كانت غافلة عن المراقب عن بعد ... يرفع ساقه على مقعد موجها نحوها عينيه لا يتوه عن حركة واحدة من حركاتها ..
اقترب منه ملهم ليعطيه التقرير الذي حصل عليه عن تفاصيل الحادث المفاجئ ..
لم يهتم مهيار بالتقرير المروري بقدر اهتمامه بالتقرير الطبي ..
ابتسم لملهم قائلا بتفكه
*يبدو أن الحظ حليفنا وقد حان وقت التدخل ..
رد ملهم الابتسامة ولم يقل شيئا , بينما مهيار عدل ياقة قميصه متجها نحوها تحت أنظار روجين وريوان المستغربة وجود هذا الشخص معها , ليقول بقلق ما أن وصل لها
*زيان , أنا آسف لما حصل ما أن سمعت حتى جئت بسرعة ..
التفتت له شبه مستغربة وجوده , وتمكنت من رسم ابتسامة مرتجفة على شفتيها تشكره على تلك اللفتة الطيبة منه ..
سألها
*ألم تريه بعد ؟
هزت رأسها نافية لتهمس بحزن
*لم يسمحوا لي بعد بالدخول ..
هز رأسه متفهما لينظر حوله للحظات
*سأتكفل بكل شيء لا تقلقي والدك غالٍ عندي جدا ..
رفع إصبعيه بتحية وهو يغادر مسرعا قبل أن تعترض
*الحمد لله على سلامته سأعود على الفور ...
همست روجين مرة أخرى وهي ترى نظرة زيان المشتتة بين تتبع الشاب وبين باب غرفة والدها ..
*هل رأيت هذا ..
كانت ريوان بدورها تنظر مشدوهة لما يحصل
*نعم رأيت إنها زيان مع الشاب الوسيم ذاته ...
التفتت لها روجين بسرعة بنظرة متهمة
*لم تخبريني أنه وسيم لهذا الحد ..
قطبت ريوان للاتهام
*بل قلت لك أنه وسيم ولو كنت مكانك لاحتفظت برأيي به لنفسي فلن يسعد زين بهذا الحديث ..
قطبت روجين مستاءة وهي ترى زيان تدخل غرفة والدها أخيرا متسائلة
*ما مدى علاقتها به ..
هزت ريوان كتفيها بلامبالاة دون أن ترد فلا أحد حتى زيان يعرف ما العلاقة !
................................................
أنت تقرأ
نذر الشيطان
Short Storyالمقدمة تلفتت حولها بخوف... لقد خسرت الكثير، لم يبق شيء آخر لتخسره... انكسر داخلها ذاك القنديل... انطفئ واحرق كل الجمال داخلها... باتت لعبة مشوهة... نظرة أخرى حولها... أين هي الآن!! كيف رمت نفسها هنا... سمعت أصوات ضحكات عالية... لم تر شيئاً...