3

3K 75 2
                                    

*لا أعرف كيف أجازيه أبي ، لم يتركني مطلقاً وحدي طوال الفترة الماضية..
أغمض عابد عينيه بأسى مرجعاً رأسه للخلف لا يعلم بما يرد عليها وهي لا تكف عن مدح مهيار و مواقفه معها منذ الحادث و حتى الآن ...
كيف سيقنعها الآن أن هذا الرجل ذئب متخفي بثوب حمل...
لم يرد عليها و ابتسم يقرب الكرسي نحوها بيده السليمة بينما هي منشغلة بتحضير الطعام ..
*بقائك معي يعطلك عن عملك..
نظرت له بحب لترسل قبلة هوائية لوجنته
*إذا كنت أنت في إجازة ، كيف تريدني أن أعمل !  روجين و ريوان يقومان بكل ما هو مطلوب ، و الطلبات الصعبة يرسلونها لي بالبريد...
أنهت ما كانت تصنعه و وضعته على الطاولة
*تعال الآن لنأكل فقد حان موعد الدواء ..
اقترب من الطاولة سعيدا بتغير مجرى الحديث
*تعاملينني كطفل مدلل ..
مدت قطعة خبز لفمه تطعمه ضاحكة
*وأنت طفلي المدلل بالفعل ..
وقالت وهي تضع لقمة مماثلة في فمها
*أفكر أن ندعو مهيار للغداء غدا نحن لم نقم بشيء لنشكره كما يجب ..
كاد عابد أن يغص باللقمة , شاتما في سره , فها هي ابنته فعلا تخطو نحو النار بقدميها و قال مدعيا عدم الاهتمام
*سأشكره بشكل لائق عندما أشفى جيدا ..
*أممممم ..
لم تعلق لسبب ما والدها ربما يكره أن يشعر بجميل أحدهم عليه ....
قضت معه بعض الوقت لتتركه متجهة نحو حاسبها , فلديها بطاقة جديدة للمجهول ذاته , يبدو أن تصميماتها أعجبته , فها هو يطلب ذات البطاقة ولكن فقط اختلفت الجملة , فكانت هذه المرة
( نعم سيري بهدوء نحوي كي أجد ما يشفع لك )
استغربت فعلا وكم رغبت أن تعلم قصة هذه البطاقات , فلسبب ما تبدو أنها مثيرة للعجب , ما الذي يقصده بهذه البطاقات ..
ولكنه حقا لا يعنيها , فلتحمد الله فقط أن والدها نجا من الحادث فهو كل ما يهمها الآن .. و ... حسنا لتكن صادقة مع نفسها .. مهيار كذلك يهمها ..
لا تعرف السبب ولكن ربما كان قربه منها حين احتاجته .. دون أن تطلب كان يعلم كيف يجعلها يبتسم ..
تماما كما ابتسمت الآن لمجرد أنها تذكرته ..
أنهت عمل البطاقة وأرسلتها بالبريد لريوان وعادت لوالدها ..
ولكن حين خرجت من غرفتها لم تكن تتوقع أبدا وجود مصدر أفكارها هنا يقف  قرب الباب وكأنه على وشك المغادرة !
متى جاء لم تسمع صوت الجرس يرن .. لا بد وأنها غارقة في أفكارها !
*مهيار ! أهلا بك تفضل , لطف منك أن تأتي ..
هتفت بذلك متجهة نحو والدها لتتحرك كرسيه  نحو الصالة بدعوة صريحة منها لمهيار كي يدخل , والذي لم يكن يمانع بل جاءت لصالحه فقد كان عابد تقريبا يطرده بصوت هامس من بيته ..
أغمض عابد عينيه بيأس , بعد أن رأى نظرة المنتصر في عينيه ..
لم يعد بيده حيلة ..
نفذت كل حججه , كلما نوى إبعاده اقترب أكثر ..
نظر لابنته بحسرة وكأنه يعلم أن ما ينتظرها .. لن يسرها وأن هذه الابتسامة الرائقة على شفتيها ... لن يطول عمرها حتى تزول ..
وكم يتمنى ألا تزول ...
لكن الأحداث تتسارع .. تخرج عن سيطرته ..
زيان تساق نحو المذبح سعيدة , ومهيار يعده بالشفاعة لها عن كل تنازل جديد يقدمه وكم تمنى أن تكثر الشفاعات لها حتى يزول الحقد .. تمنى حقا ...
ضحكت على البطاقة الجديدة التي طلب منها تنفيذها فقد كانت الجملة هذه المرة
( أنت على الطريق الصحيح )
نظرت لها روجين بطرف عينها لتغمزها
*بما أنك اليوم تركت والدك لوحده هات واحكي لنا من هذا الشاب مهيار ..؟
عضت زيان شفتها بخجل
*ماذا عنه ..
اقتربت ريوان بكرسيها منهما غامزة لروجين
*أجل ماذا عنه ؟ لا شيء هو فقط لا يفارقها وهي فقط تبتسم ببلاهة كلما جاء ذكره.
قطبت زيان باستياء لتشيح بوجهها عنهما
*أنا لست بلهاء ..
طقطقت روجين بلسانها
*لستِ بلهاء وأكملي عملك الغريب هذا ..
نفخت متذكرة ما بيدها
*ما هذا الرجل ألا يمل من هذه البطاقات وهل حقا تستلمهم تلك الفتاة التي يقصدها !
حكت ريوان رأسها لتعود بكرسيها لمكانها
*ربما فلو أنها لا تصل لما طلب المزيد ..
تأملت زيان البطاقة
*إذا كنت أنا من مجرد تصميم أشعر بالخوف ماذا عنها !
ضحكت روجين لترد
*ربما كان غزل مصاصي دماء ...
شاركتها زيان التي وقفت بسرعة مقلدة حركات الأموات الأحياء
*نعم ويأتي نحوها هكذا ليشرب دمها ..
صرخت روجين ضاحكة تركض في الأرجاء وخلفها زيان
*لا لا يا مصاصة الدماء الطيبة اتركيني ..
*سوف أشرب دمائك كلها ...
لتركض خلفها في الأرجاء تعلو ضحكاتهما وريوان تضحك عليهما من كل قلبها حتى انفتح الباب فجأة ليدخل آخر من توقعته زيان أن يأتي محلها يوما !
صفر بإعجاب لما يراه من جنون طفولي وعلق مبتسما
*لا يليق بك الدور الشرير زيان ..
انتفضت زيان على صوته بينما لم تكن أحدهن منتبهة أنه دخل في خضم الجنون الغارقات فيه ..
نظرت له زيان تحاول استيعاب وجوده هنا في هذا المكان ..
*آه !
كان هذا ما قالته بينما روجين شهقت خجلا وركضت تختبئ في الغرفة الداخلية , وريوان بدورها نهضت من مكانها لتتبع روجين , لكنها همست حينما اقتربت من زيان
*ماذا عنه الآن ؟
حاولت زيان أن تقرصها ولكنها هربت منها مختفية مع روجين لتتركها وحدها معه , مدت يدها لشعرها المبعثر تحاول ترتيبه مشيرة له
*تفضل .. تفضل ..
واقتربت من مكتبها بسرعة محاولة لملمة الفوضى عليه معتذرة بتعثر
*أسفة حقا لهذه الفوضى ..
اتخذ لنفسه كرسيا جلس عليه مريحا ساقا على الأخرى يفكر
( ربما لن تكون الحياة معها بهذا السوء , سأحظى ببعض المرح ..)
رسم على شفتيه الابتسامة الساحرة التي يعرف تماما تأثيرها على الفتيات , فكيف على فتاة برقة زيان رغم كل الصلابة التي تبدو بها ..
وشبك كفيه أمامه على مكتبها هامسا بصوت خافت
*زيان , أعتقد أنك تعرفينني الآن بشكل جيد ..
أعادت خصلة من شعرها خلف أذنها مرتبكة , عيناها بعينيه لا تحيد عنهما ليكمل
*أنا أرغب بالزواج منك ما قولك ..
فتحت فمها ببلاهة , لتشيح بوجهها أخيرا عنه بخجل , بينما ابتسامته انحنت قليلا بقسوة ينتظر ردة فعلها التي طالت بينما تجاهد لتقول شيئا وقد أخذها على حين غرة , غير متوقعة أبدا طلبه بهذه السرعة ..
فاستغل الوضع بسرعة ليكمل بهمسه
*يقولون السكوت علامة الرضا ..
جلت حنجرتها لتقول أخيرا بصوت خرج مبحوحا
*أنا .. حقا لا أعرف ماذا أقول ...
اتسعت ابتسامته يشجعها
*قولي نعم ..
صدرت عنها ضحكة خافتة لتهز رأسها قائلة
*نعم ..
وكانت هذه الكلمة هي كل ما يحتاجه , لينهض بسرعة منتصرا
*سأبدأ بالتحضير على الفور ..
لم تستوعب ما قاله لكنها لم تملك وقتا للاعتراض خاصة حينما التفت لها
*وأنا من سيخبر عمي سأذهب له الآن على الفور ..
اتسعت عينيها غير مصدقة ...
هذا حقا مهيار الشوماني ... العابث المعروف الذي جمعت عنه الكثير من المعلومات , يتقدم للزواج منها بل ومستعجل له أيضا ..
انتفضت على صوت ريوان المستغربة
*هل حقا سمعته يطلبك للزواج قبل لحظات ..
قطبت زيان ولم ترد عليها , لتجيب عنها روجين
*نعم طلبها .. ومستعجل جدا على ما أظن !
ازدادت تقطيبة  زيان وكانت على وشك قول شيئا حين هتفت ريوان باعتراض
*هذا ظلم سأصبح الوحيدة الغير مرتبطة بينكما ..
نظرت لها كل من زيان و روجين متعجبات فهذه المرة الأولى التي تشكو فيها ريوان من عدم وجود رجل في حياتها !
بل لطالما تغنت بعدم رغبتها بالارتباط فما الذي جرى الآن ..
في تلك الأثناء فتح الباب مصدرا رنينا موسيقيا جميلا من الاسطوانات الزجاجية المعلقة عليه والتي لم ينتبهن لها حين دخل مهيار قبل لحظات ..
كان الداخل شاب صغير في العمر قال بصوت جهوري
*معي طرد للآنسة زيان ..
استغربت زيان وصول طرد لها ونهضت من مكانها متجهة له لتأخذ العلبة الكرتونية المربعة الشكل منه , فخرج بعد أن سلمها مبتعدا عن المكان وهي تتبادل نظرات الاستغراب مع ريوان وروجين التي همست
*أيعقل أنها من مهيار ؟
هزت زيان كتفيها كونها لا تعلم ووضعتها على المكتب لتفك التغليف الجيد المحيط بها ..
رفعت الغطاء بفضول لتعرف محتواها أيعقل حقا أن مهيار قد أرسل لها شيئا ..
لكنها صرخت مبتعدة حين طار من العلبة ما أن فتحت غطائها مجموعة من الحشرات السوداء البشعة , ليتعالى صراخها مع ريوان التي سارعت نحو الباب تفتحه بينما روجين خلعت سترتها تلوح بها في المكان لتطرد الحشرات وتخرجها من المكان وزيان فعلت مثلها متسائلة بخوف
*ما هذا , ما الذي يحصل ..
لم ترد روجين التي تابعت طرد الحشرة حتى نجحت بإخراجها لتقف تلهث من الخوف تنظر كل منهما للأخرى ..
تساءلت ريوان بنفس مقطوع
*هل هناك المزيد ..
ابتعلت زيان ريقها بصعوبة ولهاثها يعلو
*لا أعلم ..
ونظرت نحو العلبة بريبة وكأنها وحش مرعب , كانت روجين من تشجعت لتقترب ببطء منه ترفع نفسها على أطراف قدميها لترى عن بعد إن كان هناك أي شيء بعد , لتزفر براحة تريح جسدها المتشنج
*لا مزيد ..
حينها اقتربت زيان بخوف من العلبة هامسة
*يا لهذه السخافة من فعلها ..
وفي أسفل العلبة وجدت بطاقة لم تكن غريبة عليها .. رفعتها ببطء لتراها كل من ريوان و روجين  اللتان شهقتا بصدمة ..
فالبطاقة لم تكن سوى ما صنعته زيان نفسها ..
والبطاقة كانت ( احذري الشيطان )
*هذه .. هذه .. أشارت روجين لها بتلعثم
*بطاقتك !
وافقتها زيان تقرأ ما كتب عليها , فتقدمت ريوان لتأخذها من يدها مدعية الشجاعة
*وماذا الآن إنها مجرد بطاقة أتعتقدين أن أحدا سيجرؤ على الاقتراب منك بوجود رجل كمهيار حولك ؟
ابتسمت روجين ابتسامة مهتزة تطمئن زيان الشاحبة
*نعم لا داعي للقلق  , هي مجرد بطاقة ومهيار معك لن يحصل شيء ..
هزت رأسها توافقهما , بينما قلبها يشدو برعب دقاته المتسارعة ..
.........................................
*ماذا !
همس عابد مستغربا مما يسمعه من مهيار الذي اقترب ووضع كفيه على الكرسي يحيطه من جانبيه يرد عليه مبتسما
*ما سمعته لقد طلبتها ووافقت على الزواج بي .. هل لديك اعتراض ..
همس عابد من بين أسنانه
*لدي ألف اعتراض ..
اتسعت ابتسامة مهيار بشر ليقول بصوت خطر
*وأنا لدي ألف وسيلة , لو كنت مكانك لما اعترضت على الأقل كن موجودا قربها حينما تحتاجك , ذلك أفضل .. فربما لو استمررت على عنادك جهزت لك مكيدة ما تؤدي بك للسجن وحينها لن تجد لها ملاذا مني سواي ..
لم يرد عابد بل استمر يوجه نظرات الكره نحوه متمنيا قتله من كل قلبه ..
لكنه عاجز بكل معنى الكلمة حتى عن الحركة ..
تهدلت كتفاه بيأس هامسا برجاء
*ابتعد عنها لا ذنب لها ..
نفخ مهيار بملل ليستقيم بوقفته
*لقد انتهى هذا الحديث حقا , سأبدأ اجراءات الزواج على الفور ..
أحنى عابد رأسه فلم يعد بيده حيلة , عاجز من كل النواحي ..
لا يعلم حقا أين الخطأ , لكنه همس برجاء أخير قبل أن يخرج مهيار
*أنت ... لن .. لن تؤذيها .. أرجوك ..
توقفت خطوات مهيار قرب الباب ونظر للرجل المحني الرأس ونفخ بتعب ..
لكنه قال بصوت بالكاد سمعه عابد
*أعدك ألا أكون قاسيا جدا ..
وخرج مغلقا الباب خلفه , وما أن خرج حتى اقترب منه ملهم
*الأنسة حوراء سيدي ..
اتسعت ابتسامته ليتناول هاتفه الذي نسيه في السيارة حينما عاد من عند زيان مباشرة لعابد
*حوراء القلب , كيف حالك يا جميلة ؟
جاءه الصوت الهامس الناعم كصاحبته
*وكأنك تسأل لا أعرف بما أنت مشغول ..
رق صوته أكثر هامسا بحب
*لا شيء يشغلني عنك ..
*إذن تعال اليوم ..
ضحك ضحكة خافتة
*سأكون عندك خلال نصف ساعة فقط ..
وأغلق الخط ليضع الهاتف في جيب بنطاله
*سنذهب لحوراء ..
قالها لملهم واتجه للسيارة لينطلقا على الفور ..
سيترك كل ما في يده لأجل حوراء , فهي الوحيدة التي تجعله قادرا على الابتسام عندما تلازمه تلك الذكريات القاتلة التي رافقته طوال الفترة التي قضتها أمه في المركز الصحي , بينما صحتها تذوي وتذوي حتى لم تعد لها للحياة قوة ففارقتها ..
وحدها حوراء من كانت قربه في تلك الفترة , رسمت البسمة على شفتيه , سمحت له بمساعدتها وقضاء الوقت معها ..
لذلك نعم ..
كل شيء يتوقف إذا ما طلبت حوراء ذلك ..
ووحدها فقط من لديه الحق في تغيير جدول أعماله ..
حوراء ...
دخلت زيان البيت بابتسامة غير مصدقة , تسأل نفسها ترى هل حقا تكلم مهيار مع والدها أم لا فهو لم يتصل بها إطلاقا بعد تلك الزيارة , ولم يخبرها بما جرى لا هو ولا والدها , فهل كان يخدعها وفعل ذلك ليتسلى بها ؟
كيف يمكنها أن تعرف ذلك !
*أبي ؟
نادته بصوت خافت تستشف ما خلف الصمت حين خرج لها من غرفته بسرعة لينظر لها بتدقيق و رأى تلك اللمعة في عينيها فعرف أن مهيار لم يكن يكذب ابنته حقا موافقة على الزواج منه ..
قالت بارتباك علمه من حركات يديها وابتسامتها القلقة
*كيف حالك في غيابي ..
تنهد وابتسم لها مخفيا الحسرة في قلبه
*مشتاق لك جدا ..
اقتربت بسرعة لتقبل جبينه وتضمه بشوق
*وأنا أكثر وأكثر ..
وأخفت كذلك خوفها من تلك البطاقة , لن تشغل باله معها ربما كانت مجرد مزحة غبية من أحد معارفها , فلتحتفظ بها لنفسها ..
عضت شفتها واتجهت به نحو المطبخ
*هل أكلت شيئا ؟
هز رأسه بنعم , ليوقف الكرسي بيده موجها نظراته لها
*لقد جاء مهيار اليوم ..
عضت شفتها مبتعدة خطوة , تعيد خصلة من شعرها خلف أذنها
*أعلم .. قال .. قال أنه سيأتي ويتحدث معك ...
أغمض عينيه بصبر وقال
*زيان أنا ..
قاطعته زيان بسعادة
*إذن لقد حدثك حقا .. أوه أبي أنا حقا سعيدة ..
ارتفع حاجبيه بعجب من السعادة الظاهرة فعلا عليها وسأل باستغراب
*كل هذه السعادة من أجله أنا أرى أن تفكري جيدا زيان ..
لكنها قفزت بفرح تتجه نحو الثلاجة لتخرج شرابا منها وبعض الطعام لتسخنه
*ولكني حقا أحبه أبي ..
قالتها بسرعة دون أن تشعر , لتنظر له بخجل وتطرق رأسها هامسة
*حسنا , لن أنكر أنا معجبة به وطالما هو كذلك لا أجد داعيا للتفكير ..
ضحكت متلعثمة لتكمل اعترافها لوالدها الذي طالما اعتادت أن تقول له كل اعترافاتها
*كنت أنتظر منه هذا الخطوة وما أن فعلها حتى كنت كالبلهاء كما تقول روجين ..
وضحكت أكثر بينما تصب عصير التوت لها ولوالدها الذي ينظر لها بعيون محتقنة بالدموع التي لم تنزل وهو يراها تنجرف نحو المجهول الذي لا يعرفه ولا تعرفه ..
ابتسم لها وأخذ كأسه من العصير قائلا بصوت خافت
*سأرتاح في غرفتي قليلا ..
وضعت طبق السمك المعد سلفا داخل الفرن ليسخن واتجهت نحوه مسرعة تجر كرسيه نحو غرفته
*نعم ارتح قليلا بينما أعد طبق السلطة ..
هز رأسه موافقا , يغلق الباب خلفه وهي عادت للمطبخ ..
وحرك كرسيه بسرعة يبحث عن هاتفه و وما أن وجده حتى اتصل بسرعة على رقم مهيار الذي رد على الفور
*أهلا عمي ..
تنهد بقلة حيلة يسأل للمرة الأخيرة
*ما الذي تنوي فعله بزيان ؟
وصلته ضحكة مهيار الذي أكد له للمرة التي لا يعرفها
*ليس أذى جسديا صدقني ..
وبسرعة قبل أن يقول عابد أي شيء سارع بقطع المكالمة
*والآن دعني لأعمالي واستعدوا للزفاف المرتقب .. كل شيء سيكون في الوقت المحدد وغدا سآتي لأتفق معك ومع زيان على التفاصيل ..
وانتهى الاتصال بينما عابد ينظر للهاتف بعدم تصديق ما هي الخيارات المتاحة أمامه .. هل يغامر بكشف حقيقة المرأة التي حافظ على صورتها في ذاكرة زيان بأبهى الأشكال ..
هل يغامر بمد اليد لأخوالها , هل سيقدر على منعهم من محاصرتها كي لا تجلب العار كأمها , هل يغامر بمعرفتهم ...
مهيار محق بشأن هذا الأمر , فلو علموا ذاك يعني أن عذابها معهم أبدي فأهل الريف لا يتهاونون أبدا .
وبقليل من الحظ ربما كان على حق .. ربما سيتركها حينما يمل بعد مدة قصيرة حين يعلم أن لا انتقام حقيقيا في زواجه منها ..
زيان ستغير تفكيره , ستجعله يعلم أن الحياة بسيطة أكثر من انتقام ..
أسقط بيده حقا ..
كل السبل لإخراجها في وجهه مغلقة ..
مهيار على حق , فليحتفظ لنفسه بأفكاره , ويبقى على الأقل بالقرب منها حين تحتاجه , ذلك أفضل بكثير من اختفائه وتركها تواجه ما يجري لوحدها ..
سمع صوتها تناديه لتناول الغداء ...
وضع هاتفه بعد أن مل النظر له جانبا وأدار كرسيه ليخرج لها ..
وخرج لها حيث كانت تنتظره ..
وكل نظرة فرح من عينيها كان يقابلها دمعة قهر خرساء من عينيه ..
*زيان ..
همس اسمها بأسى بصوت غير مسموع ..
لكن وكأن قلبها سمع صوته فرفعت نظرها عن عملها لتبتسم له وتعود مرة ثانية تنغمس فيه .....
ولم تكن تصدق أن يأتي الغد ..
وأتى ..
أتى معه الكثير من الخطط والأفكار والكثير مما يجب فعله ..
لتشعر وكأن الوقت يتسربل هاربا من بين أصابعها ..
لم تكن تتوقع أن يتعجل مهيار بالزواج بهذا الشكل , لم يكن يريد حفلا صاخبا وهي لم تعترض فلم تكن من محبي الصخب , رغم أنها وللغرور أرادت حفلا يراه الكل .
ولكن فقط وجهة نظره أقنعتها ...
غرقت معها روجين وريوان في دوامة العمل ..
فقرب موعد العمل يعني إنجاز المهام المطلوبة منها بسرعة قبله , خاصة وأن مهيار أكد لها أنه سيخطفها بعد الزفاف نحو بيت الشاطئ ولكنه طلب منها أن تبقي الأمر سرا ..
وهي بالفعل أبقته سرا حتى عن والدها ..
بينما قام والدها بإحضار ممرض ليلازمه بعد انشغالها عنه ...
تمتمت روجين مقطبة الجبين حينما جاء شاب فجأة ودخل المحل ليقدم طردا آخر للأنسة زيان ..
نظرت كلا منهن للأخرى , حتى تشجعت زيان أخيرا ونهضت لتستلم الطرد ولكنه و للاحتياط , لم تدخله للمحل , بل خرجت به تتبعها الفتاتان ووضعته على الأرض وبخوف انحنت وسحبت الشريط المحيط به وتراجعت للخلف ..
لعجبها فلت تخرج أي مفاجآت هذه المرة ..
إنما ما كان مجرد زهرة حمراء قانية اللون .. تقدمت بتوجس لتتأكد , وبالفعل كانت مجرد وردة حمراء !
انحنت روجين تلتقطها
*الحمدلله لم تكن مفاجأة رهيبة ..
همست ريوان وقد رأت بطاقة في أسفل العلبة
*هناك بطاقة زيان ..
هذه المرة انحنت زيان تلتقطها و وما أن رأتها حتى مزقتها بكل غل هامسة بسخط غاضب مما يحصل
*تبا إنها إحدى بطاقاتي التي صممتها ..
وسحبت الوردة من روجين لترميها أرضا تدوسها بحذائها رامية فوقها بقايا البطاقة الممزقة
*فلتذهب أنت للجحيم أيها الغبي ..
نظرت لريوان متسائلة
*ألا يمكنك أن تحظريه كي يمتنع عن التواصل معنا ..
هزت ريوان كتفيها
*سأحاول ..
وافقتها روجين وهن يدخلن
*سيكون هذا أفضل وإن تكرر الأمر أرى أن تخبري مهيار ..
لوت زيان شفتيها
*بماذا سأخبره أن هناك مهووسا يهددني ببطاقات أنا صنعتها لا انسي الأمر ..
هزت روجين كتفيها تغلق الباب خلفها بعد أن بدأت ريوان فعلا محاولة حظره عن مواقع التواصل ..
لم تر إحداهن القابع في سيارته يراقب ما حصل ..
حتى أنه همس بملل حينما داست الوردة
*عدوة الورد ما ذنبها , كنت أعلم أنها خسارة بك ..
ونظر للوردة على الأرض مبتسما لها
*لا تقلقي لن أشفع لها يوما كاملا لأجلك ...
راقب دخولها الغاضب لمحلها ..
مد يده لصندوق السيارة يسحب منه صورة أمه , يمرر كفه عليها
*اقتربت الأيام أمي , كيف لذرية تلك المرأة أن تكون ..
أعاد الصورة لمكانها ليخرج هاتفه متصلا بزيان التي ردت وكأنها تنتظره
*أهلا مهيار ..
همس بصوت ناعم أجش
*هل أسمح انفسي أن أدعوك على الغداء قبل الزفاف ..
ابتسمت ببله لتخفي كل من روجين وريوان ضحكتيهما
*بالطبع يمكنك ذلك ..
*انتظرك في الخارج ...
أغلقت بسرعة , غير مصدقة لتلتقط حقيبتها وتخرج له ..
وبالفعل كان ينتظرها في الخارج ...
لتقضي معه ما تبقى من اليوم , بين السوق والمقاهي ..
تعيش كل لحظة معه ضاحكة ..
بينما أغدق عليها بكل ما يسعدها , لا يبخل بشيء ويزيد من رصيده في قلبها ...
صياد يعرف تماما كيف يغري فريسته للدخول في القفص ..
وفريسة أكثر من غافلة عن الخطر المحدق بها ...
بينما عابد يعد الأيام راجيا أن يحصل ما يجعل كل هذا مجرد كابوس ..
مجرد حلم مزعج ..
لكنه لم يكن سوى واقعا ..
والزفاف يعلن قدومه حاملا معه ما لا تعلمه زيان ..
وما لا يعرف كيف يتعامل معه مهيار ...
.....................

نذر الشيطانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن