الفصل الثاني

8.2K 146 3
                                    


هو من يقرر!

دخلت مارغريت غرفتها لتعيد حزم حقائبها ، مع انها لم تخرج ثيابها اصلاً، فهي لم تكن تتصور ان بإمكانها البقاء لأن جولييت التي كانت تقوم بعمل البيت قد غادرت الآن، وتبدو الشقة وكأنها لم تكن مسكونة، فالستائر مغلقة، والغرف فارغة بشكل غريب.
لقد كانت تشك في ان فرنسوا سيطلب منها العودة الى انكلترا عندما تصبح وحيدة معه، وسألت نفسها لماذا يجب ان تعود؟ لقد مرت بمتاعب كثيرة كي تأتي الى هنا، ناوية ان تعيد وصل ماانقطع بينها وبين عائلتها، وتكلفت ببعض المصاريف، فقد اشترت لنفسها كمية لا يستهان بها من الثياب، ومع ان امها سافرت فسيبق لها سوزان ، واللعنة على فرنسوا دوفال، سترى شقيقتها حتى ولو ذهبت الى ( هوشيه ليزانج)، ولن يكون فرنسوا من الفظاظة بحيث يرفض ان يأخذها الى هناك

ولكن الن يفعل؟ وسمعت نفسها تضحك بسخرية، انها تخدع نفسها اذا حاولت تصديق هذا، فهي تعلم رأي فرنسوا بها: مسببة المشاكل.
وسمعت دقاً عنيفاً على الباب..
- وهل انت هنا مارغريت؟
- اجل.. وأين سأكون؟
وفتح الباب ودخل، وقال وهو ينظر اليها ساخراً..
- لقد ظننت انك هربت لتتنزهي في المترو.
وقبل ان تجمع افكارها الغاضبة لتحتج على اشارته غير المنصفة الى شيء حدث في الماضي، تابع قوله:
- سنخرج معاً لنتناول الغداء، هناك مطعم صغير عند الزواية، كم يلزمك لتكوني مستعدة؟
- خمس دقائق
وغيرت ملابسها بسرعة، ووقفت وسط الغرفة ، ونظرت الى نفسها في المرآة معجبة بمنظر الفستان البسيط الأخضر الذي ترتديه والذي يبرز استدارة جسدها، ولم يكن فيها أي شيء من الاثارة والغموض اللذان يميزان المرأة الفرنسية
بعد اكثر من عشر دقائق خرجت من الغرفة لتجد فرنسوا في الصالون يقف عند النافذة وظهره للضوء، وقالت له بأدب:
- اخشى ان اكون تأخرت عليك اكثر مما توقعت
- لا تعتذري، لقد توقعت هذا، وليس منك فقط بل من اية امرأة تهتم بمظهرها..
وتجولت نظراته بها من رأسها الى اخمص قدميها، ولكن لم يعلق، مع انها توقعت منه ان يعلق مغازلاً..
- هيا بنا إذاً..
وسارت امامه خارجة من الشقة، ولم يتكلما وهما في المصعد حتى انه لم يمسك بذراعها وهما يقطعان الشارع المشمس نحو المطعم، وطلب فرنسوا نوعاً من الأسماك وسلطة وبعض الشراب..
- هذا يكفي كما اظن، لن يكون هذا سوى وجبة عادية، فنحن لا نحتفل بشيء، اليس كذلك؟.
ونظر اليها دون اهتمام ، وبطريقة ما اثرت غطرسته الفرنسة الأنيقة على اعصابها، وأحست بضعف في ساقيها حتى انها كانت مسرورة لأنها جالسة ، واحست فجأة انها لن تربح لو جرى بينهما اية مواجهة حول مافعله معها..
وتذكرت كيف انها فعلت بالضبط ماقاله لها ، وكرهت نفسها ومدت يدها تتناول كأس الشراب واحتست منه قليلاً، وقال لها:
- وهكذا هانحن وحيدان.. وترك لي ان اخطط لتحركاتك..
- صحيح؟.. لقد فهمت انك ستعتني بي
- تقريباً.. ولكن لدي افكار خاصة لما يجب ان اعمل، وما قد ترغبين به قد لا يكون من اولويات ماانويه..
- ولكن ماتريدني ان افعل له الأولوية.ريحانة
- طبعاً...
ووصل الساقي ومعه طلباتهما، وعندما اصبحا لوحدهما ثانية ، دفع السلطة اليها، واخذ الشوكة والسكين وتابع حديثه:
- اعلم تماماً انك تربيت على كره بلدي ، واعتقد انك راضية بأنك قمت بواجبك واتيت في هذه الزيارة..
- وكيف تجرؤ على هذا الاعتقاد، لقد خدعتني .. لقد دمرت الامر كله، انها ليست غلطتي انني لم استطع سوى تحية امي وتودعيها فقط، فكيف اكون راضية إذن بهذا بعد ان قطعت كل هذه المسافة ؟
- اهدأي و لا تبدأي بلومي، لقد شرحت لك ماحدث، واضيف عليه ان امك لم ترغب في ان ترفض زيارتك، وهي تعلم كم انت حساسة، ولم ترغب في جرح احساسك، والآن دورك لتقومي بأشياء جيدة، الاشياء صحيحة، وهذا بالضبط مااريدك ان تفعليه
- نعم؟ وماهو الشيء الصحيح في رأيك؟
- ستأتين معي معي الى ( هوشيه ليزانج) وتقومين بمجهود لتكوني لطيفة مع عائلة امك، الخالة انيتا هناك، وشقيقتك ايضاً وماري روز وليون وزوجته هنرييت وطفلاه وانا بالطبع.
- ماذا؟
وحدقت به ببلاهة، لمجرد التفكير بأنه يريدها ان تفعل تماماً ما خططت لأن تفعله! وكادت ان تضحك لولا انها شعرت بالغضب لأنه قام بالخطوة قبلها، وتصور بأنه يعلمها بعض الاخلاق!
- ألم اوضح مااقول؟
- لقد اوضحته تماماً، ولكني اكره بأن يقال لي ماذا عليّ ان افعل وكأنني لا تفكير سليم عندي.
- من السهل إقناع النفس بأن الإنسان يفعل ماهو صائب ، لقد اردت فقط أن اتأكد من تخليك عن أية فكرة بالهرب عائدة الى انكلترا ، ونسيان كل شيء عن عائلة دوفال مرة اخرى..
- أنا واثقة انني لا استطيع نسيانك ولكن دعني اؤكد لك ان ليس الفرنسيون وحدهم من يعرف الاصول، ولمعلوماتك ليس لدي اية نية بالهرب عائدة الى انكلترا مهما كنت تقصد من هذا الكلام..
- اوه هيا... آنسيتي انني جلست مع والدة خطيبك! واعلم ان لديك اسباباً للعودة سريعاً.
- حسناً، مهما يكن ماتعرفه، او تظن انك تعرفه ، فليس عندي النية ان اعود الى انكلترا بعد ، فأنا اريد رؤية شقيقتي ، وأنا ارحب بفرصتي لإثبات على الأقل لبعض عائلة دوفال الذين يظنون انني انكليزية... ومع انني تصرفت بشكل سيء عندما كنت في الرابعة عشر، فلست وحشاً واستطيع ان ارى انك لا تريد الاقتناع، لذا لن احاول ان اؤثر عليك ، ومؤسف ان تكون واحداً من العائلة، لأنني سأجد صعوبة في ان اعجب بك..
وتطلعا ببعضهما عبر الطاولة ، ولم يرف لمارغريت جفن ولا اشاحت بنظرها عنه، ثم لوى بشفتيه وقال:
- لسوء الحظ ، الشعور متبادل ..
واكملا طعامهما بصمت وتمنت مارغريت من كل قلبها ان لا تكون الخالة انيتا صعبة التعامل او انها قد حكمت عليها سلفاً لماحدث منذ سنوات، وأن تكون ماري روز متقبلة لها بشكل معقول، ولا يستطيع احد القول انها قد ترحب بها، جزء منها كان يتوق الى ترك الطاولة والمغادرة الآن، حتى لا ترى فرنسوا دوفال وعائلته ثانية، ولكن من ناحية اخرى السبب الوحيد الذي دفعها للمجيء الى فرنسا هو التعويض عن اخطاء الماضي، ولتكتشف اذا كانت لا تحب هؤلاء الفرنسسن كما كانت جدتها تماماً..
وقاطع فرنسوا افكارها قائلاً:
- هل نذهب؟.
ودون ان تجيب وقفت وتحركت نحو الباب.
كانت الرحلة الى (هوشيه ليزانج) ممتعة على الرغم من التوتر بينها وبين فرنسوا، لم تكن قد شاهدت الريف الفرنسي من قبل، وأدهشها اتساع الأراضي تماماً كما ادهشها الحركة الناشطة في العديد من البلدان الصغيرة والقرى التي مرا بها، ووجدت بورغاندي بلد زراعة الكرمة ساحرة تماماً، لم تكن قد شاهدت زراعة الكرمة من قبل ووجدتها كثيرة الخضرة رائعة المنظر ممتدة على مدى واسع من الاراضي، عبر الودية العريضة وعلى سفوح التلال المتوجة بالغابات..
وكانت ترغب في إلقاء الكثير من الأسئلة إلا انها كانت لا تزال كارهة للتحدث مع فرنسوا، فقد جرح مشاعرها وشعرت بأنه حكم عليها مسبقاً ، لذا بقيت صامتة، تجيل نظرها بما حولها من الخضرة الطبيعية..
واخيراً تركا الطريق الدولية الى طريق اصغر حيث اشارة الطريق تدل الى وجهة ( ارميت) وقال فرنسوا شارحاً:
- ارميت هي اقرب بلدة لنا والخالة انيتا تقوم بالكثير من التسوق هناك ، ممايذكرني .. ولكن هل أنت مصغية ام تفضلين ان تتجاهلينني؟
- انا مصغية لك.ريحانة.
- كنت اقول ، لملء اوقات فراغك في ( هوشيه) ، قد تكون فكرة جيدة لو انك وسوزان علمتما بعضكما شيئاً من لغة الآخر، سوزان تعلمت الانكليزية في المدرسة ولكنها كسولة وتعمل على تعلمها وبالنسبة لك ستجدين الحياة في فرنسا اسهل لو حاولتي فهم اللغة، هل كانت الفرنسية احد المواضيع التي درستيها في المدرسة؟
- اجل..
- حسن جداً، هذه بداية وارجو ان لا تكوني نسيتيها منذ تركك المدرسة..
- لا..
وبدا لها غريباً ان يصر على التحدث بالإنكليزية بدل امتحان مدى معرفتها بالفرنسية، ولكنها اعتقدت ان الامر راجع اما للأدب او لتفضيله هذه اللغة..
- وقد تجدين ايضاً الوقت لمساعدة الخالة انيتا برعاية الأطفال، لقد اصبحت كبيرة في السن و هرييت لن تترك الأولاد معها ابداً اذا لم يكن هناك من يساعدها..
- ولكن سوزان وماري روز هناك، اليستا كذلك؟ وكيف لها ان تعتمد عليّ؟ ولكنني بالطبع سأساعدها..
بعدما عبر ارميت، اصبحا داخل الريف، وسارا في طريق ضيق يمر عبر بعض التلال، وإضافة الى مزراع الكرمة كان هناك حقول محروثة ومراعي وبعض نبتات الخشخاش ذات اللون الأحمر اللامع، على جانبي الطريق، ثم وبعد منعطف قوي وجدا وادياً عريضاً ممتداً امامهما، وفي نهايته البعيدة، مابين اشجار الكرمة، بدت قرية ببيوتها ذات السقوف الرمادية، والبرج المستدير لكنيسة القرية..
- هذه هي ( هوشيه)
- هوشيه ليزانج؟ لماذا دعيت بهذا الاسم يافرنسوا؟
- الاسم مأخوذ من اكبر مزراع الكرمة في المنطقة ( كلوديزانج).
- وهل هي لك؟
- لا.. ليست لي ( فكلو ديزانج) قسمت الآن الى عدة اقسام ولها الكثير من الملاك، ( لي فلورنس) اسم مملكاتي ، وهي اصغر بكثير، ولكن مركزها ممتاز عند السفوح لزراعة الكرمة الجيدة..
وقررت مارغريت ، وهما يسيران في الطريق المنبسط عبر الوادي، والأشعة الذهبية وهي على وشك المغيب تعطي ظلالاً على التلال، وتزيد اشجار الكرمة اخضراراً ، ان هذا المكان احد اجمل الأماكن التي شاهدتها في حياتها والكثر رومانسية، وعلى مشارف القرية، مرا ببيت كبير عتيق، بيت صاحب الملاك، والكرمة تمتد من خلفه بمنظرها المؤثر، الذي يعطي انطباعاً انها هناك منذ قرون طويلة
- هل هذه هي حمى (كلو ديزانج)؟
- لا.. إنها املاك مدام هوبرت بنوا.
القرية كانت صغيرة والشوراع ضيقة، وعندما غادرا ساحة القرية المحتوية على كاراج وفندق صغير ومحال صغيرة مع طاولات في الخارج، وجدارنها الحجرية وابوابها الحديدية، ومن خلف هذه الجدران استطاعت ان تلاحظ بيوتاً كبيرة احياناً واحياناً بيوتاً صغيرة .
وعند طرف القرية البعيدة دخل فرنسوا عبر بوابة ضخمة ادت بهما الى باحة ملئية بالزهور، يحجبها عن الطريق جدار مرتفع من احد الجوانب وكارجات حجرية منخفضة من الجانب الآخر، وشعرت مرغريت شعوراً فارغاً بخيبة الأمل، فقد توقعت ان يكون منزله وسط كروم العنب مثل المنزل الذي مرا به، ومع ذلك فقد كان منزلاً مهيباً، من طابقين له سقف من القرميد المصقول بطراز بورغاندي تقليدي..
الجدران الحجرية فيه كانت بلون دافئ، مصاريع النوافذ الخارجية بالأزرق الرمادي، يفصل مابين الباحة والتراس المرصوف النوافذ الخارجية بالأزرق الرمادي، يفصل مابين الباحة والتراس المرصوف بالعشب حاجز حديدي، حيث هناك مساكب من الزهور تلتمع بالورد والبيوتيا والجيرانيوم الاحمر، وهناك بعض الاثاث المستخدم خارج المنزل منتشر في الظل، ومن فوقها تمتد اغصان شجرة كستناء كبيرة الاوراق عالية في السماء وقد لونها الوان السماء المشمشية..
بدا كل شيء مرحباً، ولكن لم يخرج احد لاستقبالهما، ووقفت مارغريت قرب السيارة، وفرنسوا يفرغ الحقائب منها، وسألت بعصبية:
- ألسنا .. اليس وصولي متوقعاً؟
- اجل.. وصولك متوقع، لقد ابليت نيتي في ان اتي بك معي.. ولست معتاداً على مفاجأة الخالة انيتا بالضيوف، لقد كانت مدبرة منزلي منذ زمن بعيد ومن قبلي لجدي، وهي تستحق بعض الاعتبار..
وأشار ناحية المنزل وقال:
- تفضلي .. اتسمحين ؟ وانسي امر الحقائب.. سأهتم بها..
ودفع فرنسوا الباب الذي ينمو الى جانبه غرسة عنب بأوراقها الخضراء وخصلات العنب الصغيرة، ودخلا الى ردهة مربعة تؤدي الى عدة غرف..
- لابد ان الخالة انيتا تهتم بالأطفال..
وفي تلك اللحظة جاء صوت جميل عالي النبرات يقول بشوق بالفرنسية:
- أهذا انت يافرنسوا؟
وخرجت فتاة شابة من احدى الغرف..
وحدقت بها مارغريت بذهول وانتبهت فقط عندما قال لها فرنسوا ان هذه سوزان ، في غير هذا الظرف لم تكن قادرة على التعرف الى شقيقتها الصغرى بجمالها الأخاذ هذا، صغيرة الجسم، بشرتها بلون الذرة تتماوج اطرافهما فوق كتفيها، اللذان تكتشف عنهما ياقة فستان ازرق فاتح..
- مرحباً مارغريت!
وتلقت مارغريت قبلة سريعة على كلا خديها، ويبدو ان سوزان كان لديها اشياء اخرى في ذهنها عدا وصول شقيقتها الانكليزية، لأنها استدارت فوراً لتقول لفرنسوا بالفرنسية:
- انا احضر الحلويات يافرنسوا، لقد اعطتني فيوليت الوصفة ستكون حلوى لذيذة لك، يجب ان تدخل المطبخ لترى..
- انسي الحلوى الآن، وخذي مارغريت الى غرفتها التي حضرت لها فوق، ومن الافضل ان تبدأي منذ الآن بالتمرن على الإنكليزية ، اين ماري روز؟
- لقد ذهبت لزيارة لويز، والخالة انيتا اخذت الأطفال في نزهة ولكني كنت ارغب في ان اكون هنا عندما تحضر ..
واستدارت الى مارغريت :
- تعالي ! سأخذك الى غرفتك..
وارسلت الى فرنسوا ابتسامة سريعة، واسرعت تصعد الدرج، ولحقت بها مارغريت على مهل، وقد شعرت بالحبور، ولحقت بسوزان عند نهاية الدرج العريضة المفروشة بمقاعد جميلة، واريكة صغيرة وطاولة عليها بعض الكتب، واشارت سوزان الى الكتب وقالت بالفرنسية:
- ماري روز كانت تدرس الانكليزية ، هل تفهمين ما اقول؟
واجابتها مارغريت بالفرنسية ايضاً ( افهمك تماماً!.) وبدت لها اشارة جيدة ان تكون ماري روز تحاول تحسين لغتها الانكليزية، وتمنت ان يكون هذا اكراماً لها، واذا كان الأمر كذلك ، فسيبدو من الممكن ان تكون ماري روز ايضاً تريد ان تعوض عما حدث بينهما في الماضي..
- اذاً انت تتكلمين الفرنسية ، لقد قال فرنسوا انك لا تتكلمينها..
- حسناً انا اتكلمها ولكن ليس جيداً
ودفعت سوزان احد الأبواب ووقفت جانباً لتدخل مارغريت الى غرفة الضيوف، كانت غرفة صغيرة مزينة كلها تقريباً بالون الازرق، وسجادة بلون العاج على الارضية الخشبية اللماعة، السقف كان بلون ازرق افتح والجدران بيضاء، وتطل النافذة على شارع ضيق كانا قد دخلا عبره الى القرية، وجلست سوزان على السرير المنخفض، ولاحظت مارغريت انه جهز بأحد الوسائد الكبيرة المربعة وجدتها غريبة وغير مقبولة عند زيارتها السابقة ، ولكن الأمر لن يقلقها الآن..
في الواقع كل شيء مختلف قد تجد مثيراً للاهتمام واقتربت نحو النافذة ونظرت الى الخارج، وكانت التلال ترتفع وراء المنازل التي في الشارع مغطاة بالكرمة ولونها الأخضر في الضوء بدأ يتلاشى..
- فرنسا لا تشبه إنكلترا ابداً.. هل تذكرين انكلترا ياسوزان؟
- لا.. ابداً.
- وهل تحبين ان تعودي الى هناك؟
- ولماذا اعود؟ هذه بلدي..
- اجل.. هذه امر غريب، اليس كذلك؟ انت فرنسية وانا انكليزية، ومع ذلك فنحن شقيقتان.
- انا لم اعتد على هذا، هل تنوين البقاء طويلاً يامارغريت؟
- اود البقاء هنا الى ان تعود امي من سويسرا، لقد شاهدتها لفترة قصيرة الليلة الماضية، لم تكن لدي فكرة انها مريضة هكذا..
- لا اعتقد ان الأمر يهمك لهذه الدرجة، فأنت لست جزءاً من العائلة، لم تأتي ابداً لتقيمي معنا، وانا اعلم ان امي ماكانت تدعوك لقضاء العطل معنا.
- لقد كانت جدتي تظن ان هذا مزعج لي وانا لا ازال في المدرسة وبعد ان تركت المدرسة لم تكن صحتها جيدة، وكانت بحاجة اليّ، ولكنني بالطبع احب رؤية امي.. وانت وهي جزء من عائلتي.
- ابي كان الجزء الخاص بك من العائلة.. الجزء الانكليزي، فأنت انكليزية كما يقول فرنسوا، وأنا فرنسية، اما انا فلا احب الانكليز..
واجفلت مارغريت ، فصراحة سوزان كانت فظة، ولكنها اخذت تفكر ، ففي سوزان، كان من الممكن ان تفعل هي نفس الشيء..
الأمر الواقع ان كلاهما تربتا على احكام مسبقة، هي اثرت عليها جدتها، فمن ياترى اثر على سوزان؟ هل عائلة دوفال بشكل عام؟
وحاولت ان تكون منصفة وان لا تضع الوم كله على فرنسوا مع انها في قرارة قلبها كانت تعرف تماماً انه هو السبب، وقالت محاولة تغيير الموضوع:
- اظن من الأفضل ان انزل واحضر حقائبي، وأظن ان الخالة انيتا قد عادت ، اليس هذه صوت طفل؟.
- اجل انها انطوانيت، انها في الثالثة الآن ولا تستقر ابداً، يعم الهدوء عندما يكونون في الخارج، وبما انك الآن هنا ستأخذين دورك برعاية اطفال هنرييت، هكذا قال فرنسوا.
ونظرت اليها مارغريت بتوتر ، ليس لأنها لم تكن راغبة في اخذ دورها في رعاية الاطفال، بل لأن سوزان للمرة الثالثة استشهدت بكلام فرنسوا ، ولم تظهر سوزان اي دليل على انها ستغادر طرف السرير، وعندما وصلت مارغريت الى الباب سألتها:
- الن تأتي معي الى تحت لتقديمي للخالة انيتا؟
- لقد قال فرنسوا ان لا نعاملك كضيفة .. تستطيعين تقديم نفسك .. إنك شقيقتي وهي تعرف كل شيء عنك ، لو نزلت الآن سأضطر الى تحضير رضاعة جاك، او فعل شيء مضجر مماثل..
- اعدك ان اساعدك..إذا قلت لي ماذا افعل؟.
- اوه.. حسن جداً، واريدك ان تلقي نظرة على الحلوى التي احضرها، اشعر بالتسلية لصنع مثل هذه الاشياء، ولكن فرنسوا يقول ان النتيجة دائماً تكون كارثة..
- هل يقول هذا؟ ومن هي فيوليت التي اعطتك الوصفة.
- انها تأتي كل يوم لمساعدة الخالة انيتا في عمل المنزل، انها تعيش في مزرعة وراء القرية، سأخذك الى هناك يوماً ما..
- سأحب هذا
وابتسمت ، لقد كان لديها شعور ما ان سوزان ترغب في ان تكون ودودة معها، فهي لا تذكر الكثير من زيارة شقيقتها السابقة لأنها في ذلك الوقت كانت صحتها سيئة وتتطلب العناية الدائمة من امها ، كم تغيرت! إنها الآن مليئة بالصحة والثقة بالنفس..
عندما بلغتا الطابق الأرضي وجدتا الخالة انيتا مع الطفلين ، كانت امرأة مسنة نحيلة ترتدي الأسود، شعرها يميل الى السواد ، وجهها مليء بالمستحضرات ، وتنهدت وهي ترفع جاك من العربة بينما كانت انطوانيت تحتضن لعبة تحت ذراعها، وهي تكرر بأنها جائعة.
وقدمتهما سوزان لبعضهما دون اكتراث، وبينما كن يتجهن نحو المطبخ، لاحظت مارغريت ان خالة فرنسوا تحتاج فعلاً الى المساعدة، اذ يحتاج الطفلين الى الإطعام، والإيواء في الفراش ثم تحضير العشاء لباقي من في المنزل، كما اكتشفت ان الخالة انيتا منظمة تماماً، إضافة الى انها طباخة ماهرة، وتقوم بعمل كثير بالنسبة لعمرها..
- حضري زجاجة رضاعة جاك ارجوك ياسوزان..
ونظرت اليها سوزان وقالت لشقيقتها:
- تعالي يامارغريت وسأريك ماذا يجب ان تفعلي..
ونظرت الخالة الى مارغريت نظرة حادة..
- هل تتكلمين الفرنسية يامارغريت؟
- اجل.. ولكن ليس جيداً، افهم عليك اذا لم تتكلمي بسرعة.ريحانة
- جيد، لن يكون هناك اذاً اي سوء تفاهم، هل ترغبين في حمل جاك، بينما اتعامل مع انطوانيت، سيكون خجولاً منك في البداية ومزعج قليلاً.
وحملت مارغريت الطفل بين ذراعيها واخذت تراقب سوزان تحضر الرضاعة ، ودخل فرنسوا الى الغرفة وبرفقته فتاة سوداء الشعر والعينين، انيقة جداً تبدو فرنسية دون شك.
وظنت مارغريت انها صديقته ثم ادركت انها ماري روز، الفتاة التي ساعدت في جعل حياتها تعيسة منذ سنوات مضت والتي كرهتها كثيراً..
وتطلب منها مجهوداً كي تجيب على تساؤل فرنسوا:
- اجل.. بالطبع اتذكر ماري روز.
واستدارت اليها وابتسمت ، وابتسمت ماري روز بدورها
وحيت مارغريت الفتاة باللغة الفرنسية متعمدة، ولاحظت برضى كيف ان عيني الفتاة اتسعتا بالدهشة للهجتها الخالية من العيوب التي بذلت الكثير من الجهد لاتقانها..
ولاحظت نظرة فرنسوا لها، متفحصة وبقليل من العدائية، وتساءلت ماذا فعلت ياترى؟ وعرفت ماذا فعلت بعد ان اخذت الطفل جاك الى الغرفة لإطعامه حسب طلب الخالة انيتا، كانت غرفة جلوس عائلية تقريباً، كبيرة ومريحة، ومع انها قد اعيد فرشها من جديد إلا انها ماتزال محافظة طرازها القديم..
واختارت مارغريت مقعداً مريحاً وبدأت تطعم جاك، وبعد قليل دخل فرنسوا ووقف ينظر اليها..
- اذاً انت تتكلمين الفرنسية هذه الأيام اليس كذلك يامارغريت؟ ما هي الفكرة وراء خداعي؟
- انا لم اخدعك، ولكنك اعتقدت انني لا اتكلم الفرنسية، كما تعتقد تماماً انني لا زلت تلك الفتاة عينها التي اتت الى فرنسا منذ سبع سنوات.
- لا هذا غير صحيح، فأنا مدرك تماماً لعدد من التغييرات بك، فأنت فتاة جميلة الآن ، واصبحت نحيلة، وتعرفين كيف تختارين ثيابك، لقد شككت بالامر في انكلترا ولكنني ارى هذا بوضوح الآن، وتعلمتي التحرك برشاقة ، ومن معرفتي بك اقول ان هذا بوادر هدنة بيننا..
- ومن معرفتي بك، استطيع التخمين انك مستعد لإطلاق بضع طلقات امام اذني لمجرد تذكيري بأنني لا زلت في معسكر الاعداء. لقد سمعت ازيز رصاصة لتوي تمر قرب اذني.
- صحيح؟ ولكنك عبرت عن نفسك جيداً بالفرنسية..
- طبعاً ولكن ( كفتاة انكليزية) كما قلت.ريحانة
- حسناً.. لم اقصد شيئاً بهذه الملاحظة ، ولكن اذا احببت ان يكون الأمر هكذا، فأجل لقد عبرت عن نفسك جيداً بالنسبة لفتاة تتكلم لغة غريبة... على كل لا اظن ان طلقاتي قد ارعبتك، اليس كذلك؟
- لا لم تخيفني.
ونظرت اليه مباشرة، بعينان واسعتان فضحك قليلاً وقال:
- عندما تنظرين اليّ هكذا يامارغريت توشكين ان تقنعيني برمي كل سلاحي!
ولكنني قابلت الكثير من الفتيات ذوات العيون الجريئة، وتعلمت منذ زمن ان لا اصدقهن ، وفري لغة عيونك لخطيبك الإنكليزي. وتأكدي انني سألزم حذري واستخدم اسلحتي اذا كان الأمر ضرورياً..
- وهل هذا تهديد؟ ولكنني لا اعرف لماذا، هل تخطط لأن تجعل حياتي تعيسة لسبب ما؟.
- هذا يتوقف على كيفية تصرفك، وكوني واثقة من شيء واحد ، لن تغادري هنا قبل ان اسمح لك، خطيب او لاخطيب، وانت تعرفين لماذا ، فعندما سأكتب الى والدتنا في سويسرا ، اريد ان اكون قادراً على القول انك بين اسرتك وان الروابط العائلية ثابتة، وعندها سيكون بال امك مرتاحاً..
واحست مارغريت بالامتعاض، لقد كان وكأنه يقول لها إنه لا يصدق ان لديها النية ان تتفاهم مع اقاربها الفرنسيين، فقالت له بجفاء:
- سأقرر مااظنه الأفضل حول البقاء هنا، ولا تزعج نفسك بالقول انني لا احسن التصرف بتحدثي مع مضيفي بهذه اللهجة، وتذكر انك انت من اخترت معاملتي وكأنني اسير من الاعداء..
- انت تريدين تحويل الأمر الى مأساة ، اليس كذلك؟

- ولكنك فعلت هذا.
وحدقا ببعضهما لبرهة بتحدي، ثم استدار وخرج..
واخرجت مارغريت الرضاعة من فم جاك بلطف وحملته والى صدرها واخذت تربت ظهره ليتجشأ ، كان ذهنها مشغولاً بالحديث الذي انتهى لتوه، وشعرت بأنها كانت متحفزة زيادة عن اللزوم للدفاع عن نفسها، اضافة الى الهجوم ، من المؤسف انه لم يستطع نسيان الماضي ومحاولة الثقة بنواياها الطيبة، واعتقدت بأن كونها انكليزية هو اساس كل هذا، على كل يستطيع ان يظن ما يريد، فهي غير مهتمة...
في المطبخ كانت الصغيرة انطوانيت تتناول عشاءها على مضض على الطاولة صغيرة، وقالت الخالة انيتا لمارغريت:
- انها تأكل مع والديها في منزلهما في ديجون، ولكن الامور هنا تجري حسب رغبتي ياانطوانيت، عشاؤنا سيتأخر ، وستكونين تعبة حتى ذلك الوقت لتتمتعي بوجبة جيدة، وها أنت تتثائبين .. اين سوزان؟ يجب ان تغير للصغير وتضعه في الفراش، لا ان تترك كل شيء لك منذ اول يوم لك معنا، ماري روز ستعتني بانطوانيت، وقد ذهبت الى الحديقة لتحضر لي قليلاً من البقدونس ، سأحضر العجة هذه الليلة..
وتملصت مارغريت منها لتذهب وتفتش عن سوزان التي وجدتها في غرفتها تعيد تصفيف شعرها، ولم يعجبها تدخل مارغريت فانتزعت الصبي وحملته الى غرفة نومه، وهي تقول بغضب:
- لن افعل هذا كل ليلة وانت هنا الآن..
لم يقدم العشاء حتى ساعة متأخرة ، وكان اجتماعاً صاخباً، لأن الخالة انيتا وسوزان كانتا كثيرتا الكلام، وتعبت مارغريت وهي تلاحق الحوار، وتخلت عن الاستماع قبل وقت طويل من انتهاء الوجبة..
وقالت الخالة انيتا آمرة :
- ارجوا ان تحضري القهوة ياسوزان..
ودفعت سوزان شعرها الى الوراء محتجة:
- انا لا اصنع القهوة الجيدة كما تصنعها ماري روز..
واجابتها الخالة انيتا بجفاء :
- هيا، هيا.. افعلي ماقلت لك..
وتبعت مارغريت شقيقتها الى المطبخ وساعدتها ، وفيما بعد سألتها وهما على الطاولة بصوت منخفض:
- ها اساعدك بالصحون؟
ولكن الخالة انيتا قالت :
- فيوليت ستنظفها صباحاً..
قالت سوزان:
- شكراً لله، وإلا لكنت انا من سأنظفها ، مع انه يوم اجازتي وماري روز تعمل متى تشاء...
وصاحت بها الخالة انيتا:
- ... اصمتي، يجب ان تتعلمي لعب دورك الطبيعي في حياة العائلة، فلم تأتي من باريس الى هنا لتلعبي طوال النهار، غداً ستذهبين للتسوق وانا احضر الغداء، لقد طلبت من فيوليت ان تحضر لنا دجاجة من المزرعة ، مارأيك يافرانسوا..
- رائع.. يجب ان نقيم احتفالاً لوصول مارغريت ، وعندما ينتهي التسوق ستبدأين مع شقيقتك بتعليمها الانكليزية عليك ان تمضي ساعة في الدرس على الاقل، والتحدث طوال الصباح بالانكليزية طالما مارغريت هنا، وهذا سيبقيكما بعيدتين عن الضجر..
وأطرقت سوزان ، بينما شعرت مارغريت بالدماء ترتفع الى وجنتيها، وتاقت لأن تقوم باعتراض ملتهب، فهي لا تحب ان تؤمر هكذا، كما لاتحب ان يتحدث اليها احد وكأنها طفلة، فقد كانت اكبر سناً من ان تتقبل هذا، ولم تتمكن من السيطرة على الكلام فصاحت بغضب:
- انا وسوزان نستطيع التحدث بالانكليزية في اي وقت من النهار والخالة انيتا بحاجة لمساعدتنا في الصباح..
وقالت الخالة انيتا محاولة تلطيف الاجواء:
- لا ابداً.. عندي فيوليت لتساعدني في الصباح، وهذا ترتيب جيد..
ووقف فرنسوا عن الطاولة وارسل الى مارغريت نظرة ساخرة منتصرة :
- اذاً لقد تقرر الأمر..
ثم غادر الغرفة.

صيف بلا ورود.  روايات  احلام.                             للكاتبة : اماند ستيلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن