بَـــلاهةُ الأبــطالِ

815 49 11
                                    

كآخرِ نسمةِ ربيعٍ في الحي المُـسالم قَبل الحَرب، كآخرِ ثانيةٍ قبل ذبول زهرة العبّاد، و كآخرِ غُروبٍ للشمسَ قُبيل ليلٍ سِرمدي، هكذا هي ألحانُ "آدم"، عازفُ الكمانِ الأبكم. قَد لا يلفظُ الكِلمات لكنَّ مُوسيقاه تِقولُ الكَثير. لِم يُعره أحدٌ إهتماماً في ذلكَ المطعم المُهترئ ، فقد كانِ مملوءاً بالمسنين المخمورين على أيةِ حال ،إلا أنَّ الأمرَ لم يهمه، فيَتناسى مُحيطهُ و يَنصهر معَ كُل وترٍ كما لو أن العالمَ بأكمله يَستمعُ إليهِ.
عِندما بدأ الزبائنُ بالإختفاءِ تدريجياً و تلاشت مَعهم ثرثرتهم، عمَّ ذلك السُكون الذي لا يُسمع فيهِ سِوى
ضجيجُ قطراتِ المَطر. توقفَ فجأةً عن العزفِ ليفتحَ عيناهُ بِهدوءٍ كمَن أستيقظَ للتو مِن حلمٍ جميلٍ لا مكانَ لهُ في الواقع. تنهد بثقل...كانَ يوماً مُرهقاً كالعادة؛كالأيامِ السْابقةِ و اللاحِقة.
أخَذَ يُحدقُّ بكَمانهِ بهدوءٍ، لا أحدَ يعلمُ ما أهميةُ و قربِ هذهِ الآلةِ المُميزة  لقَلبِ عازِفها؛ لَم يكُن شَكلها أو لونُها مألَوفاً لأيِ أحدٍ وضَعَ عينَهُ عَليها...لَقد كانَ كماناً فَريداً مِن نوعهِ بحقّ.
ما إن فَرغَ مِن توضيبِ أشيائهِ حَتى وقفَ مُتسائِلاً، لَقد كانَ مِن الغريبِ أن لا يَرى " إلينور " في الجِوار، حيثِ أنّها تسكُن هُنا. النادلةُ صَغيرةُ السِنِّ الهادئةُ، "غريبةِ الأطوارِ" كَما يدعونَها. لطالما أصغْت إلينور إلى عزفِ آدم في هكَذا أوقاتٍ مِن الليل،  رغمَ ما بَدا عليها من جُمود لكنَّ مُوسيقى آدم تَروقها بشدّة.
نثرَ خُصلات شعره الأصهبِ ليتخلصَ من أفكارهِ عديمةُ الفائدةُ.
لطالما ازعجتهُ طاولات المطعم المُتسخةالمزيتة، و خشبُ الأرضيةُ المهترئُ كذلك، أخذَ يَمشي إلـىٰ  غُرفتهِ الضَئيلةِ مُحدثاً صَريراً مُزعجاً مع كل خطوَةَ يَخطوها، إلـىٰ  حَيثُ يسكنُ في المخزنِ المُعتِم، خالٍ من النوافذِ، ممتلئ بالمواردُ  الفائضةَ،  كل ما تَبَقىٰ له مِنْهُ هي كنبة قاسيةُ للنومِ عليها، أما الجدرانُ فقد مَلئَت الحشراتُ تشققاتها.
"هٰذا المَطعمُ قَد نالَ الزمنُ مِنهُ بالفِعل." تَذمرَت أفكارُ آدم كَالعادة بشأنِ قذارةِ هٰذا المَكان.
أمّا المالكُ فَهو مُهترئٌ كَما مَطعِمه، الجَزّارُ البَغيض، لا يَنّفك يَتفوه بالشَتائمِ القبيحةِ لكلِ مَن يُقابله. مِنَ الغَريبِ معرفةُ أنَّ رَجلاً عَكِرُ المِزاجِ كهذا يَملكِ صِلةَ قَرابةٍ بإلينور الهادئةُ الفاتنة، حتى أنّهُ لا يُشبهها على الأطلاقِ رغمَ كونهِ عمَّها، يَبدو كالخنازير التي يُقطّع لُحومها، بَل و اسوأ.
مِن الجَديرِ ذكرُ أنّه أصبحَ مِن الروتيني سَماعُ صُراخِ الجزّارِ كلَ ليلةٍ، خِلال مسيره إلى مَخزنهِ الضَئيل. "أودُّ لو أُخرسهُ لثانيةٍ واحدةٍ فَحسب!" لكنّهُ رجلٌ غريبٌ جداً، لا يصمتُ أبداً و إن تفوهَ بشيءٍ فلن يحملَ أي نوعٍ من الخيرِ. ها هو ذا يصرخُ كعادتهِ، "أيصرخُ على إلينور؟" تساءلَ آدم محاولاً إستراقَ السمعِ. "أكلُ ما تجيدينهُ هو إغضابي أكثرَ فحسب؟ ألا أبدو غاضباً بِما فيه الكفاية؟" صَرخ الرجلُ بعنفٍ على إلينور المسكينة. لم يَكن بوسعِ آدم فعلُ شيء، فجسدهُ الهَزيل رغمَ طول قامتهِ كانَ هشاً جداً ينهشهُ الجوع، و سيكونُ من السهلِ لرجلٍ مثلَ الجزّار أنّ يكسرَ ذراعهُ كما يكسرُ قَشةً.
أستمرَ الصراخُ لوقتً وَجيز و أستمرَ آدم بإستراقِ السَمعِ حَتىٰ لَم يَعٌدْ يَسمَعُ شَيئاً سوىٰ صُراخ إلينور ، " إلينور تَصرُخ؟ ألينور لا تَتحدثُ إلا نادِراً لكنها تَصرُخ الآن؟ ما هَذا الذي يَحصُل ليخرج من  ألينورِ صوت عالياً هكذا؟ " فكرَ آدمُ و قَد إعتراهُ الفَزَعَ. و لم يَتمالك نفسهِ ففَتَحَ البابَ عَـلىٰ  إِتساعُها مُحدِثاً ضَجة كبيرة، " الجَزارُ البغيضُ ، ذَلِك الخنزير! " وَدَّ آدم لو يَصرخُ بِهذا كُلِه لكن بُكمِه وَقَفَ حاجزاً كالعادة.
فَلم يَكن لديهِ خيارٌ سِوى أنّ يَضَعَ جسدهُ الهَزيل في مواجهةِ الجزّار غليظِ الهَيئة، بَدا وَ كأن عينيه ِستخرجانِ مِن حجريهُما كَما و قَد إحمرَ وجههُ غَضباً، كانا كاحليِّ آدم يرتجِفان كورقةٍ في ريحٍ عاتيةٍ. تسلَلت يداهُ خلفَ جسدهِ الخائرِ باحثاً عمّا يخرجهُ مِن المأزق، فإذا بهِ يُلامسُ جرّةً فُخاريةً قديمةَ الطرازِ، حتى استجمَع شِتات نفسهِ ليُلقي بها بكلِ ما أوتي بهِ من ضعفٍ، نَعم مِن ضَعف. كُل فزعهِ و ارهاقُ ايامهِ، و نظراتُ إلينور أيضاً، تلكَ النظراتُ الوديعةُ، كل هذا قَد تراكمَ في رأسه فإذا به ينقل إلى ذراعه و بالتالي إلى الجرة، فأطلقَ عنانها كي تُحققَ المُبتغى. غيرُ أنّها قد تشظت و تهشَمت ملامسةً إتساخَ الأرضِ، فلَم ُتحقق شيئاً.
حِينَها عَلِمَ آدمُ انهُ  لا مهربَ امامهِ, في حينَ قد استيقظَ مِن أحلامِ يَقظتهُ، أدرَكَ أنَ الموتَ سَيكون حليفهُ بالدقائقِ القليلةَ القادمةُ، سَيُصاحِب وترَّهُ ألمَقطوعَ ذاك الذي أشتَاقَ لَهُ كَثيرا.
أقترب الجزار بهالةٍ مرعبة هادئاً و بخطى ثقيلة ليَتراجعِ جَسَدَ آدمِ المُرتَعش لا أرادياً تَماماً كما  تَهرُب الفريسةُ من مفترسِها ، فَظن لوهلةٍ أن قدرهِ هو الأتعسُ في العالمِ، لكن ما هي إلا ثوانٍ حتَىٰ كُسِرت ظَنه  تِلْكَ الشَظيةُ الصغيرةِ فانزلقتِ قدمهُ بها و إذا بِجَسَدهِ يسقطُ مُرتطماً بالأرضِ بجوارِ الشَظايا المتناثرةُ ، انتفظَ آدمُ محاولاً النجاةُ بحياتهِ بَعدما أدرَكَ حماقةُ  فِعلهُ " البُطولي " الذي سيجرهُ إلـىٰ  يوَم مماتِه، أعتَلت كُتلةُ الجزارَ الضخمِ جَسَد آدمُ الهزيل لتشل حركته ، فحاوطت يداه عُنقَ آدم الضئيلة محاولاً استهلاكَ آخر نَّفْسٍ  بحوزته ، قابضاً عَـلىٰ روحهِ المُرهَقةُ بِتلك الاصابع الخشنة.
أخذَ آدم بالسُعال و التَلوي هارباً من حُكمِ المَوت، لتَتباطئ حركاتُ جسدهِ ثُم أغمضَ عيناهُ مُفكراً بحماقتهِ التي قادتهُ إلى هُنا! أي أبلهٍ قَد يسمحُ لغضبهِ أن يُعمي بصيرتهُ قائداً إياه نحو هٰكذا تَهور؟
فتأملَ لوهلةٍ "إنّ كنتُ ميتاً لا مُحالة اليومَ، فمِن حُسنِ حَظي أنّني أموتُ دفاعاً عَن أحدهم." ردد في راسه مغمضاً عيناه، فإذا بيدِه المرتجفة تُمسكُ بشظيةٍ مُنفلتة عَن شبيهاتها ليَغرِزها في عُنقِ الجزّار الغليظةِ، فيقطع شريانهُ السباتي ناشراً الدماء في جميعِ أنحاء الغرفة. الجزّارُ البغيض ذو الأنفاس الثقيلةِ بدا فجأةً كشيءٍ أشبهَ بالجمادِ، بدا ككتلةِ دماءٍ و لحمٍ و شحمٍ و عِظام.
تَراجَعَ آدمُ  للوراءِ ثُم تَعثرَ بوجهٍ مُصفَرٍ تماماً، يَعتريهُ فَزَعٌ شَديد، مُلتَفتاً إلـىٰ  إلينورِ ، بعيناها الجاحظتين ، رأسُها المحشورِ بين رُكبَتيها ، يَدَّاها أللتان تَلُفان رَأسها ، بَدَت كشبحٍ من شدةِ خوفِها.
و الدِماء الدافئةُ، الدِماءُ ألدَافئةُ تُقطِرَ من يديِ الأبكَمُ عازِفُ الكَمانُ، يَداهُ أللتانِ سَخرهُما ليعزِف ألحان المطر ، أمسَتُ يَدي ذابِحُ الجزارِ. وجه إلينور الشاحِبُ الرقيق ، جُدران الغُرفة البيضاءَ ، قميصُ آدم ُ العتيق ، كل شيءٍ دافئٌ و قرمزي الآن.

أَبْكَم بريستول  - Bristol's voicelessحيث تعيش القصص. اكتشف الآن