إستوقف خطوات مارلين المتثاقلة ذلكَ الملصق القديم المُهترئ لمطربة جميلة كانت لها شهرتها في عقدها، مُعلق على إحدى جدران الأزقة المُعتمة، أطرافه قد تمزقت بِفعل الزمن... تـماماً كما مُزقت احلامها مارلين قطعاً متناثرة.
تِلْك الصورة لهي مألوفة لها، و كيف لها أن لا تتذكر؟ فكل شيء بدأ حينها.
أغمضت عينيها بِهدوءٍ مستغرقةً في ذكرياتها البعيدة، ذكرياتها التي لطالما تناستها على مر الزمن .. لكن لسبب ما ، تِلْك الاشياء التي فضلت عدم تذكرها ، بدأت بسحبها نحو أعماقها المظلمة كما تغوص صخرة في المحيط.***
" أيتها الفتاة!أتصغين إليّ؟ يا إلهي هل أنجبت فتاة صماء؟" صَـرخت روز في إبنتها الشاردة ،إبنة التسع سنين، لتلتفت لها مارلين بفزع
" ماذا؟! آسفة لم أكن أصغي.."
تنهدت روز و هي تطفئ سيجارتها مع كومة السجائر و التبغ المنتشر بكل مكان تَقريباً في تلك الشقة الشبه فارغة، لا تحوي على أي أثاث سوى على سرير واحد قديم ، و بعض الملابس القذرة المبعثرة في الأرجاء، ولا شيء ينير المكان سوى مصابيح خافتة تُشعل ليلاً فقط ، أما في النهار فكان نور الشمس يكاد يتواجد لينير هذا الجحر. روز امرأة مهملة لعوبة ذات طباعٍ وقحة كل الوقاحة، و كانت تنفق جميع نقودها التي تجنيها من العُهر و ما إلى ذلك على السجائر و الكحول. فتفوح منها رائحة الكحول قوية و قد إصفرت أسنانها و تمكن منها السعال من فرط التدخين.
" خذي تِلْك النقود التي على الطاولة الى البقالة ، هيا هيا ابتاعي شيئاً و لا تتذمري جوعاً! أخرجي من هنا بسرعة! مالذي تنظرين إليه؟ "
قالت لأبنتها بصوتٍ جامد ذو بحة عميقة يخلو من أي نوع من التعاطف أو الحنان تجاه ابنتها، لم يكن ذنب مارلين بأنها ولدت ابنة لأمرأة متبجحة لا تنفك عن قضاء الوقت مع الرجال و ترك أبنتها بأهمال في الشوارع لامبالية بما يحل بها، في كل يوم حين تغرب الشمس، تعود مارلين الى منزلها لتستقبلها والدتها بالأنهيال عليها بالضرب لإدخارها مما يتبقى من النقود مبلغاً ضئيلاً لها قد تبتاع به ما تحبه، موبخه أياها على عودتها و عدم موتها بالبرد القارص في تِلْك الشوارع العفنة، متفوهة بكلمات لا يحتملها إنسان من شدة قسوتها.
-"آه يا للأطفال، كيف تكون جريمة أن تقتل هذا القدر من الأزعاج؟"
تناولت تِلْك النقود بعد سماعها تنهدات والدتها و تذمرها،لتخرج من الشقة كريهة الرائحة الى شوارع لندن فتقابلها بعض من الرياح المنعشة، كان كل من الثلوج و الصقيع يغطون الأرصفة المتدرجة و سطوح المباني بكثافة.
مرت ببعض الأطفال من ذوي سنها يلهون بالثلج بصخب ، فتمنت دوماً اللعب بهذا الصخب و الجنون مع اصدقاء حقيقيين، لكنها لم تفعل قط.. حيث شَعرت بأنها منبوذة من طرف العالم.
أستوقفها أحد الأطفال مقهقهاً ساخراً:
" انظروا انظروا! هذه مارلين روز؟ "
فتقهقه فتاة أخرى :
- " الفتاة من الحي المجاور؟"
جَفلت و أكملت مسيرها متعاميةً، فقد توقعت ان يبدؤا بالسخرية منها، فتقدمت فتاة تبدو لطيفة المحيى و المظهر امام مارلين و قالت بأبتسامة واسعة مصطنعة:
-"لما لا تلعبين برفقتنا؟"
صمتت مارلين للحظات مستغربة ببلاهة، هل سيُصبِح لي أصدقاء؟ كان هذا هو اول ما خطر لها ، فرسمت أبـتِسـامة واسعة لأول مَـرّه منذ مدة "بالطبـ-"! لكنها لم تكمل جملتها حتى أخذوا يرمونها بالثلج بعنف ضاحكين عليها مستهزئين بها
-" من سيود اللعب مع إبنة روز العاهرة!"
أردفت الفتاة بأشمئزاز شديد و هي تحملق بمارلين و تضحك ضحكاً شديداً، كان جسدها قد شق طريقه بسقوطه بين الثلوج مغطيةً ثيابها و شَعرها.
رفعت رأسها بعد ان اشاحت الثلج عن وجهها محدقة بهم و هم يقهقهون بِـصوت مرتفع سخرية ًمنها، مبتعدين عنها ثم حل الهدوء في المكان، جمعت مارلين شتات نفسها و وَقفت بِصعوبة متظاهرة بالقوة...كالعادة. اخذت تمشي بِصعوبة و هي تغرس قدمها في الثلوج شديدة البرودة ، و قد آلمتها أصابعها المتجمدة مع كل خطوة تخطوها .. حتى مرت بذلك الزقاق المعتم، ليلفت نظرها ذلك الملصق المعلق على الجدار الحجري العتيق، ملصق فنانة جميلة ذات صوت عذب، لم تعرف اسمها قط رغم شهرتها، فوقفت تنظر الى الملصق و تشققاته و تسرح في خيالها...
أنت تقرأ
أَبْكَم بريستول - Bristol's voiceless
عاطفيةو بين الحانك الصامتة احببت الوقوع بين طياتها، و كأنها تحمل الكثير من صفحاتٍ لـكتابٍ حمل بين طياتهِ الصمت كقصة. - "بماذا يجدر بي ان ادعوك؟" خطهُ الذي مزج الحروف بشكلٍ مهندم، و لم تفهم منهُ حرفاً "أنا...لا اُجيد القراءة" اجابت بصوت خافت. - ربما كانَ ا...