الفصل الاول

10.6K 127 3
                                    

1- لا يسعني ألا أن أذكر تلك الأشياء كانت الأشياء الأثيرة ألى نفسي
شكسبير ( ماكيت )

كان الجميع يحبون شارلوت مارتن وفقا لأعمارهم , ذكورا أو أناثا , مفتونين بسلوكها المعصوم من الخطأ , أو بقوامها المشوق , أو بأستعدادها لأن تعير ثيابها الثمينة لكن من بحاجة ألى ثوب خاص لموعد خاص .
كان أصدقاؤها يتفاوتون ما بين صبية صغار ومتقاعدين وحيدين , والجميع وضعوا ثقتهم في شارلوت , فساعي البريد يحدثها عن أصابته بمرض الدوالي والمسؤول عن نظاف المكتب تصف لها بتفصيل مرهق ولاداتها السبع , أما البقال الأرمل فكان يطلب نصيحتها بشأن أبنته العنيدة المراهقة , بل كان الغرباء أحيانا يسكبون مشكلاتهم في أذنها المتعاطفة !
لكن يا ترى هل لدى شارلوت مشكلات خاصة بها , لو كان الرد بالأيجاب فهي لم تذكرها لأحد فأفترض معظم الناس أن الطريق مفروش بالورود أمام فتاة جميلة مثلها في الحادية والعشرين من عمرها تشغل وظيفة مرموقة وتقتني مفكرة مزدحمة بالمواعيد.
الذين عرفوها لفترة طويلة أدركوا تدريجيا أنهم يكادون لا يعرفونها , وأنهم برغم ما تبدو عليه من روح أجتماعية منشرحة , متحفظ للغاية , فحتى أنيتا موراي , صديقتها الحميمة لم تكن تطلع على مشاعر شارلوت الدفين - أو على سبب علاقاتها المحيّرة مع الرجال الذين تعرفت بهم .
كانت أنيتا وشارلوت تتقاسمان شقة في لندن ,وقد عاشتا معا حتى الليلة التي كشفت فيها شارلوت عن ذاتها.
كانتا في غرفة نومها تتبادلان أطراف الحديث وشارلوت تحزم حقيبتيها , الوقت شتاء غير أن الملابس التي تناثرت على فراشها الآن كانت ملابس صيفية كلها جديدة - فيها عدد من السراويل القصيرة - الشورتات - وأثواب األأستحمام , وأثواب الشاطىء وأخرى بلا أكمام بينما وضعت فوق خرانتعا جواز سفر ونظارة شمسية وأنبوب ضخم من الكريم الذي يضفي على البشرة سمرة حقيقية تحميها من أشعة الشمس , وكانت أنيتا مسترخية أمامها على الفراش الآخر , ترقبها وهي تلف صنادلها في ورق شفاف , فبادرتها قائلة :
" يا لك من فتاة هادئة ورصينة , لو كنت مكانك لكنت الآن في شدة الأنفعال , فكري في الأمر ! غدا في مثل هذا الوقت ستكونين هناك ".
مرّت لحظة ولم تجب شارلوت , ثم قالت في صوت خفيض:
"أنا لا أشعر بالهدوء ..... بل أشعر ...... بالفزع".
هبت أنيتا جالسة مرددة كلمة شارلوت :
" فزع !".
لم تكن شارلوت من النوع الذي ينزع ألى المبالغة , فهي لم تكن لتستخدم هذه الكلمة في وصف حالة بسيطة من الأضطراب العصبي الذي يحدث في الدقائق الأخيرة قبل السفر .
قضمت شارلوت شفتيها لدى رؤية التعبير على وجه أنيتا ,وهي تتأرجح ما بين أحساس بالندم على أعترافها التلقائي , وأحساس بالراحة لأنها أقدمت على هذا الأعتراف , فلأسابيع منذ أن حجزت تذكرة سفرها وهي في حال من القلق والتردد المتصاعدين , ومّرات أحست بالرغبة في أن تشرك رفيقتها في ورطتها , لكنها تراجعت في كل مرة , أما الآن وليلتها الأخيرة في أنكلترا ولم يبق على سفرها سوى ساعات تواجه بعدها ألتزامها النهائي , أحست برغبة جارفة لتصرح بما في نفسها ألى شخص تثق به.
" ماذا تعنين يا شارلوت !".
" حسنا ...... هذه ليست عطلة عادية".
" لماذا تقولين ذلك؟".
في فتر أعياد رأس السنة , عندما ذكرت شارلوت أنها ستأخذ أجازتها في شهر شباط ( فبراير) وتسافر ألى جزر الكاريبي فكرت أنيتا أنها تمزح , فقضاء العطلات الشتوية في جزر الهند الغربية أمر قاصر على الأغنياء فقط , وليس أمرا متاحا للفتيات العاديات - حتى لو كن مثل شارلوت شققن طريقهن في العمل من موظفة آلة كاتبة ألى سكرتيرة خاصة ذات كفاءة عالي تتقاضى راتبا مجزيا .
عندما أدركت أنيتا أن تلك لم تكن دعابة جاء رد فعلها الثاني بصورة شك في أن صديقتها ربما لن تتحمل بنفسها نفقات عطلتها هذه.
فشارلوت تستطيع أذا أرادت أن تتناول عشاءها في المطاعم الفاخرة غير مرة في الأسبوع الواحد , فألى جانب شكلها الجميل الذي يؤكده ذوقها الرفيع في الملبس , كان هناك شيء من الغموض يكتنفها , الأمر الذي يثير فضول الرجال , وكانت وظيفتها تجعلها على صلة بالعديد من رجال الأعمال الموسرين , كان معظمهم متزوجين , ولكن ذلك لم يمنعهم بالضرورة من أن يطلبوا منها أن تلتقي بهم خارج العمل , كان البعض الذي ستفزه سبر أغوارها العميقة , والذي لا يثنيه رفضها المهذب يمضي ألى أبعد الحدود في محاولة لسحق مقاومتها.
وهكذا فكرت أنيتا بشيء من الأستياء أنه ليس مستحيلا أن يكون قد نجح في النهاي رجل جذاب مثابر في أن يقنع شارلوت بأن تترك لنفسها العنان , ولكنها لم تفصح عن هذا الظن لصديقتها خشية أن تجرح أحساسها , وكان هناك أحتمال آخر - وأن بدا بعيدا - وهو أن صديقتها نجحت في أن توفر نفقات تلك العطلة فهي لم تكن مبذرة مثل أنيتا أثناء الأسبوع الذي تدير فيه شارلوت المنزل , كان يتبقى من المال ما تشتريان به مشروباتهما المحببة أو شريط تسجيل لأغنياتهما المفضلة , كانت حذرة جدا عند أختيار أصناف جديدة من أدوات التجميل , صحيح أنها تشتري الثياب الجيدة ولكن أذا كانت فقط بحاجة ألى أستبدال ثوب جديد بآخر أستغنت عنه من المجموعة المنتقاة بعناي في خزانتها , ونظرا لجود خامتها وعنايتها الفائق بها , كانت ثيابها تبقى صالحة للأستعمال أضعاف أضعاف المدة التتي تتحملها ثياب أنيتا الرخيصة التي كانت تشتريها بشكل عشوائي تأسف عليه دائما فيما بعد .
" حسنا- أستمري في الحديث".
أستحثتها أنيتا قائل وهي لا يسعها ألا أن تسأل نفسها أذا كانت شكوكها على وشك أن تتأكد بأن شارلوت كما خمنت من قبل , أن تكون بمفردها في هذه الرحل الباهظ التكاليف ".
" كان يجب أن أخبرك من قبل - فهي قصة طويلة معقدة ".
" أوه , يا ألهي , لقد كنت محقة ".
هكذا حدثت أنيتا نفسها - فمنذ سنوات عندما كانتا تتحدثان عن فتاة أخرى أتعستها علاقة عاطفية طائشة , أتفقتا على أنه من الغباء التورط مع الرجال المتزوجين , أو حتى أقامة علاقات مع العازبين منهم , فرغم أنه من المفروض أن فتيات من وطنهما قد تحرن تماما هذه الأيام , ألا أن مثل هذه العلاقات تنتهي دائما بشكل سيء للفتيات أن لم يكن للرجال أيضا .
قالت أنيتا بصوت مسموع :
" ليس من الضروري أن تذهبي أذا كنت قد عدلت عن رأيك , فمن الأفضل أن تتراجعي الآن في اللحظة الأخيرة من أن تستمري في شيء لست واثق منه".
نظرت أليها شارلوت بعينين متكدرتين قائلة :
" هذا هو ما يجعل الأمر أكثر صعوبة , فقد كنت واثقة من الأمر , لم يكن لدي أدنى شك , كان يجب أن أقدم على ذلك , مهما بدا جنونا للآخرين , ولكن بمجرد أن أنتهيت من كل الترتيبات بدأت أقلق .... أتساءل ما أذا كنت قد أخطأت ".
كتمت أنيتا أنينا في داخلها وقالت :
" لماذا لا تفصحين عن الأمر لي ؟ فالحديث عن مشكلة يساعدك أحيانا على رؤيتها في ضوء جديد , أتريدين فنجانا من القهوة؟".
وبعد القهو قدمت أنيتا سيكارة لصديقتها , ولم تكن شارلوت تدخن ولكنها أخذت السيكارة , كانت يداها ترتعشان وهي تضعها بين شفتيها .
حدثت أنيتا نفسها قائل وهي تشعل لها السيكارة :
" يا ألهي , أنها في حالة غريبة , فرغم أنهما في السن نفسها , ألا أن أنيتا كانت دائما تعتبر صديقتها أكثر منها نضوجا وأتزانا , ولكن , في تلك اللحظة لم تكن شارلوت تبدو الموظفة المتزنة الثابتة , كانت قد غسلت وجهها من المساحيق , فبدا شاحبا للغاية , وكان شعرها الأشقر الطويل الذي أعتادت أن تشبكه فوق رأسها بالدبابيس وقت العمل مسترسلا الآن على كتفيها , وبدت وهي تنفث السيكارة بلا خبرة , صغيرة , ضعيفة للغاية هشة الشخصية .
بدأت حديثها قائلة :
" لن تكون هذه هي المرة الأولى التي أذهب فيها ألى جزر الهند الغربية , فقد نشأت هناك في الواقع".
" ماذا؟ ولكنني كنت أعتقد أنك ولدت في أنكلترا , لقد قلت لي .....".
" نعم , ولدت في لندن , ولكن والدي سافرا ألى الخارج وأنا في الرابعة من عمري , وعدت عندما كنت في الثامن عشرة , لم أقل لك ذلك لأنني لم أكن أود الحديث عن هذه الفترة من حياتي".
ظلت شارلوت تغدو وتروح في الغرفة في قلق وقالت :
" عندما جئت ألى لندن كنت أحس بادىء الأمر أنني تعيس وحيدة , زهدت الحيا , فلندن تصبح مكانا مرعبا أذا كنت تعيشين وحدك ولست معتادة على العيش في مدينة كبيرة , المرة الأولى ضاق صدري في قطار تحت الأرض , وشعرت بذعر حقيقي , كنت أشعر أحيانا أنني لو سقطت ميتة في أحد الشوارع , سيدوسني الناس بأقدامهم ولن يهتم أحد بي , فجميعهم مشغولون بالتزاحم بالمناكب لقضاء مصالحهم الخاصة ".
" أعرف ماذا تعنين ".
قالت أنيتا بمرارة , فقد كانت هي يوما وافدة جديدة على لندن , وتذكر جيدا أنها أحتاجت ألى بعض الوقت لتتلمس الطريق.
وأستطردت شارلوت قائل :
" وأخيرا أدركت أن عليّ أن أستجمع نفسي , فعزمت على ألا أفكر فيما مضى وأن أركز على حياتي الحديدة , وهكذا لم أعد أتحدث عن الماضي مطلقا , محاولة ألا أفكر فيه كثيرا , ولكنني عزمت أن أعود ألى هناك يوما ,وبمجرد أن حصلت على زظيفة مناسبة بدأت أوفر جزءا من راتبي كل أسبوع , كنت أعلم أن عليّ أنتظار وقت طويل قبل أن أوفر المال اللازم لتلك الرحل , أعطيت لنفسي أربع سنوات ... ليس فقط لأوفر المال اللازم ولكن أنضج وأغيّر نفسي ".
توقفت عن الحديث , رأتها أنيت ترتجف , ثم أستطردت قائلة :
" عندما تكونين في الثامن عشرة , فأن أربع سنوات تبدو كأنها حكم بالسجن المؤبد, في بادىء الأمر أعتدت أن أشطب من أيام الرزنامة كل يوم يمر , فالأسبوع بدا كأنه شهر , وبعدئذ وبعد أن أنهيت تدريبي على أعمال السكرتارية , لم تصبح الأمور بهذا السوء , كنت أعمل بجد في وظيفتي الأولى , وبدأت أنشىء صداقات , وبعد أن أمضيت عاما أدركت أنني لم أكن تعيسة ولكنني لم أكن سعيدة , جاء وقت قبل أن ألتقي بك , ظننت فيه أن بوسعي أن أكون سعيدة , ظننت أنني وقعت في حب شخص ما , ولكن هذا الحب لم يدم - كما أنه لا يدوم في سائر التجارب , فبصورة ما , وبعد فترة أجدني دائما أبتعد عن الناس - أقصد الرجل وكأنه....... كأنه ليس بوسعي أن أبدأ من جديد قبل أن أتأكد أن ما حدث من قبل قد أنتهى - أنتهى تماما ".
" أسمعي يا عزيزتي , كل هذا يبدو محيرا لي , أليس من الأفضل أن تعودي ألى البداية ".
" البداية؟".
رددت شارلوت تلك الكلمة بشكل غامض , ثم تنهدت وجلست وكأنها أحست بالتعب .
" أعتقد أن الأمر بدأ عندما ذهبت ألى الجزيرة للمرة الأولى , ليتني لم أذهب ألى هناك ".
قاطعتها أنيتا قائلة :
" ما هي تلك الجزيرة , وأين هي؟".
" أنها جزيرة سوليفان , كنت معتادة أن أذهب ألى هناك كثيرا .........".

شاطىء العناق - آن ويل - روايات عبير  منقولة من منتديات ليلاسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن