ماغي على حق .. فالرجل وغد غير انساني , وقاومت جودي ليندساي اندفاع الغضب والاحتقار , وهي تواجه العينين الرماديتين اللتان تتفحصانها من الجانب الآخر للطاولة الكبيرة , مع ان ماغي لم تستخدم تلك الكلمات بالضبط, فقد وصفته بأن وحش غير إنساني , فجيل جودي ليس معتاداً على استخدام كلمات اعتاد عليها جيل شقيقتها الصغرى جودي.
وتحركت كتفا هال دايفدسون بنفاذ صبر وقال:
- أترين يا آنسة...
وحدق في ورقة امامه كان قد سجل عليها اسم جودي عندما دخلت الى مكتبه منذ خمس دقائق.. وتابع:
- آنسة ليندساي, اخشى ان تكوني تضيعين وقتك ووقتي.
عينا جودي الزرقاوين العميقتين كالمحيط كانت باردتان.ريحانة
- اتعني انك مستعد لرمي شقيقتي الى الخارج هكذا , رغم انها عملت للمؤسسة لسبعة عشر سنة, منذ ان كانت في السابعة عشر ؟ ورغم انها كانت سكرتيرة والدك الموثوقة خلال عشر من هذه السنوات؟
وتأملت عيناه الرماديتان السقف وكأنه يبحث عن الصبر وقال :
- هذه هي الفكرة بالضبط آنسة ليندساي, فشقيقتك عملت في نفس الوظيفة لفترة طويلة جداً, حتى انها اصبحت اسيرة روتين لا تستطيع الخروج منه والأشياء في تغير دائم , كما تعرفين , وقريباً ستصبح هذه المؤسسة مختلفة ايضاً عما كانت تحت إدارة والدي.
وادارة نظرة في المكتب العتيق الطراز بنفور, من خزانة الملفات الحديدية الى السقف المتشقق بنقوش الجفصين الأصفر .
- كان يناسبه هذا كما هو .. ولكنه لا يناسبني ابداً, وانا انوي جعل هذه المؤسسة جاهزة لتشق طريقها الى القرن الواحد و العشرين.
ونظرت جودي بكراهية الى الوجه الاسمر النحيل, والعينين الرماديتين العميقتين برموشهما الغريبة السوداء , والفم القاسي , اجل , لتشق طريقها , هذه هي الكلمة المناسبة , كل شيء قد يفعله هذا الرجل سيكون عنيفاً , حتى اسمه , هال دايفدسون , يبدو وحشياً وقالت:
- على الاقل تستطيع منح ماغي وقتاً كي تتكيف .. فهي لم ....
- وقتاً! وكم يلزمها من وقت بعد؟ لقد حصلت على خمس دورات تدريب على الاختزال , وهذا يعتبر اكثر ضروري لسكرتيرة مؤهلة, وقد اشتكت وتأوهت من هذه الدورات , ولم تركز ابداً عليها , ويوم امس كان لديها الجرأة لتقول لي بأنها تنوي الاستمرار باستخدام آلة الطباعة القديمة التي كان يجب ان تلغي من الاستعمال منذ سنوات طويلة, وبأنها ليست مستعدة لتعلم التقنيات الجديدة .. لا.. من الواضح جداً ان شقيقتك لم تعد ملائمة لهذه الوظيفة, وأي إنسان لا يريد ان يتطور لن يبقى في هذه الشركة بعد ان توليت إداراتها بنفسي الآن , فليس لدي مكان لعابري السبيل .. والآن آنسة ليندساي, انا مشغول جداً.. لقد سمحت لك بالدخول عليّ دون موعد, وقاطعتي عملي , ونظراً الى ان شقيقتك كانت سكرتيرة والدي فقد اعطيتك من وقتي لأشرح لك الأمور بالتفصيل , ولكن وقتي ثمين ولا استطيع الاستغناء عنه أكثر , وعليّ ان اطلب منك الرحيل.
- لا .. ليس بعد .
- ماذا قلت ؟
- لقد قلت لا, لقد استمعت الى كلامك التافه , ولن اخرج قبل ان أُسمعك ما سأقوله.
ووقفت , فمن السهل اكثر عليها ان تقول ماتريد قوله وهي واقفة .. ونظر اليها هال دايفدسون بغضب وقال:
- ليس عندي النية لأن...
ولكنها قاطعته كما كان يقاطعها منذ لحظات.
- سوف تستمع إليّ سيد هال دايفدسون , إلا إذا كنت مستعداً لأن تجعل موظيفك يرمونني الى الخارج, وأشك في ان دوان العجوز سيرغب في هذا حتى ولو أمرته بذلك, إنه صديق قديم لي, وأنا اعرفه منذ كنت طفلة صغيرة .
واستوى هال دايفدسون في كرسيه , وتجولت عيناه ببطء من شعرها الأشقر الناعم , المربوط برباط اسود , إلى جسدها الذي يرتجف قليلاً من التوتر والغضب , واحست جودي بالدم يعلو الى وجهها , إنها معتادة تماماً على تحديق الرجال بها , فهي شابة وجميلة ومرغوبة, ولكن كان هناك شيء ما في هذا الرجل ارسل موجات من الرعدة في جسدها , واخيراً قال لها:
- حسناً .. قولي ماترغبين في قوله , ولكن باختصار .ليليان بيك
- سأفعل .. فأنا متلهفة تماماً للخلاص من وجودك كما انت متلهف للخلاص من وجودي معك , وما اريد معك , وما أريد قوله , إن شقيقتي قد تجاوزت لتوها نوبة انفلونزا , ولم يكن من المفروض ان تعود الى روتين العمل بسرعة , وقد لاحظت انت هذا .. أليس كذلك ؟ لقد جعلتها تعمل لساعات متأخرة , وبعد كل يوم عمل كانت تصل الى المنزل مرهقة .. تعبة لدرجة لا تستطيع معها النوم, ولم تكن في حالة تمكنها من استيعاب اي شيء جديد عليها, ولكن , هل اعطيتها اية علاوة على هذا العمل الاضافي ؟ لا.. بل حشرت رأسها في نظام العمل الجديد, وعندما لم تستوعبه بسرعة قمت.. كما اعتقد .. بالاستغاء عن خدماتها كما عبرت عن الأمر سيد دايفدسون؟
كانت جودي قد أتت إلى هنا على أمل ان تجعل هذا الرجل يغّر رأيه ، ولكنها بعد أن شاهدته ، أدركت دون أي شك بأنه لن يفعل . وأدركت أيضا أن العزيزة ماغي لن تستعد بالعمل معه . فماغي دافئة ومحبة وحساسة . وكانت بمثابة ابنة للسيد دايفدسون العجوز . و لم تتغلب بعد على حزنها لوفاته ، منذ شهرين ، وهي بالتأكيد ليست في حالة تستطيع فيها أن تكون على مستوى العمل مع رجل مثل ابنه ، هال دايفدسون ، الرجل الذي بإمكانه أن يهزّ ثقة أية فتاة بنفسها بتلك النظرة المزدرية .وقررت جودي عندها أن شقيقتها يجب أن لا تعود إلى هنا للعمل في فترة شهر الإنذار .
وسوف تقوم جودي بتدبير وظيفة لها كي تحصل ماغي على فترة راحة ، ولا تتحمل وحدها عبء مصاريف الحياة لكليهما .
وقال هال دايفدسون ببرود :
- أجل .. هذا ما عنيته ، كما أذكر أنني دبّرت أمر تسليم وظيفتها بكل احترام وبتعويض أكثر مما هو مطلوب.
- المال ؟ المال لن يعوض لها عن الطريقة المهينة التي صرفتها بها ! لو كان والدك يعلم ..
- أظن انني تحملت الكثير منك آنسة ليندساي ، ولست أعلم سبب مجيئك إلى هنا أساسا ، وبالطبع لم تتمكني من تغيير رايي . وإذا كان هذا يرضيك ، فباستطاعتك أن تقولي لشقيقتك إنني آسف لأنها تشعر بأنني عاملتها بقليل من الإنصاف . ولكنني لا أستطيع إعادة النظر في قراري ..وهذه المسألة لم تكن من ضمن خططي ، فأنا ذاهب إلى لندن لبضعة أيام في الأسبوع المقبل ، وكنت آمل ان تكون شقيقتك قد أصبحت مستعدة لتبني طريقتي في العمل ، كي أترك لها أمر إدارة المكتب أثناء غيابي. وبدلا عن هذا أثبتت بنفسها أنها غير قادرة على القيام بهذا العمل إطلاقا.
وضحك بسخرية وتابع :
- أنتم النساء . كلكن سواء ! تقلن إنكن ترغبن في المساواة ، ثم عندما تواجهكن التحديات تصبن بالانهيار .
ولم تستطع جودي أن تترك هذا الكلام يمر ، وتغلب الغضب على التوتر الذي شعرت به عندما قابلت هذا الشخص الذي يقبض على مستقبل شقيقتها بين يديه . فصاحت به :
- كيف تجرؤ على هذا القول ! إذا لم يكن هناك من يستطيع الوقوف في وجه التحدي ، فستفعل شقيقتي هذا . لا أعتقد بأنك تفهم كيف يكون الأمر عندما تكون لوحدك وأنت في السابعة عشر من عمرك ، دون مال ، ولديك طفلة شقيقة لرعايتها ؟ أنت لا تعرف هذا ، اليس كذلك سيد دايفدسون ؟ كان لديك المال دائما . والمركز ... حسنا.. هذا هو التحدي لو أردت أن تعلم .. إنه رهيب بشكل مضاعف ، بالنسبة لتعلم العلم على آلة حديثة سخيفة . كان يمكن لماغي أن تفعل غير هذا ، وأن تضعني في ميتم أو منزل آخر ، ولكنها لم تفعل ، وربتني برغم التحدي . وتعلمت ليلا الاختزال والطباعة . وحصلت على وظيفة في هذه الشركة ،وتقدمت خلال السنوات لتصبح سكرتيرة والدك الموثوقة . لقد كانت رائعة معي ، طوال حياتي ، إنها شخص عظيم ، ولكنك لا تستطيع تقدير أمثالها ، أليس كذلك سيد دايفدسون ؟ إنك تريد فتاة متفوقة لها رأس أكثر مما لها قلب ، تستطيع أن تقوم بالعمل حسب تقنيتك الجديدة . حسنا .. آمل أن تجد مثل هذه الفتاة ، وحظا سعيدا لك معها ! وأنا بالطبع لن أحسد أية فتاة ستعمل معك .
واستدارت نحو الباب وهي تقول :
- شكرا لاستماعك لي .. صباحك سعيد ، سيد دايفدسون !
كانت ساقاها ترتجفان ، وكل ما ترغب فيه أن تخرج بأقصى سرعة ممكنة .. ولكنه صاح بها :
- إنتظري لحظة ...
ووقف على قدميه . وسار ببطء حول طاولته ووقف أمامها ، وأحسّت بالرعدة لتأثير شخصيته ، لقد قالت ماغي عنه إنه فاتن " الفتيات يحمن حوله دائما وأنا أكره العمل لرجل من هذا النوع . مع أنه لم ينظر إلي مرتين "
وقال لها :
- عودي إلى هنا واجلسي .. هناك شيء آخر يجب ان يقال .
- ليس عندي شيء أقوله .
كانت ساقاها ترتجفان ، وكل ما ترغب فيه أن تخرج بأقصى سرعة ممكنة .. العودة إلى ماغي ، التي تركتها في حالة سيئة في المنزل هذا الصباح .. وقال لها بصوت خافت :
- لا .. انا من سيتكلم .. تقدمي .. لا تكوني حساسة هكذا لمجرد أنني قلت لك الحقيقة حول بعض الأمور .
وأمسك بمعصمها ، ووجدت نفسها تنقاد دون إرادة إلى المقعد الذي تركته لتوها . وجلست هناك تغلي بالغضب ، بينما عاد إلى مكانه وجلس في مقابلها ثانية .. كيف يجرؤ .. كيف يجرؤ أن يضع يده عليها ! يجب عليها أن تقف وتركض خارجة من مكتبه ، ولكنها كانت خائفة أن لا تساعدها ساقاها .
واستند إلى مقعده الجلدي ، وتفحصها بصمت لفترة طويلة حتى شعرت بأنها على وشك الصراخ .. ثم قال بهدوء :
- ماذا تعملين لكسب معيشتك ، آنسة ليندساي ؟
- وهل هذا يهمك حقا ؟
- لا أعلم بعد ، ولكن ربما سأهتم ، هل لديك مانع بإخباري ؟
- حسنا ، بما أنك مهتم .. أنا أعمل في الطباعة على الآلة الكاتبة .
- هه .. وليس بالسكرتاريا ؟ معظم الطابعات يسمين أنفسهن سكرتيرات في هذه الأيام ، كما أعتقد .
- أنا طابعة .
في الواقع إنها ليست طابعة ، فلم تنه دروسها بعد في كلية السكرتاريا ، ولكنها لن تقول له هذا .
- وهل لديك وظيفة ؟
- أنا دون عمل حاليا ، لديّ عرض أو عرضين ، ولكنني لم أقرر أيهما سأقبل .. والآن .. لو سمحت لي سيد دايفدسون ..
ووضعت يدها على الطاولة لتساعد نفسها على الوقوف .
- أوه . لأجل الله يا فتاة .. إجلسي ولا تقفزي وكأنك بهلوان يقف على الحبل ! لهذا ما أريد أن اتحدث به معك . فإذا كانت شقيقتك غير قادرة على العمل ، كما تقولين . ولن تأتي للعمل خلال فترة الإنذار ، فأنا محتاج للتعاقد مع شخص غيرها . وقد لاحظت أنك فتاة ذكية بشكل معقول . وقد تناسبين لملء الفراغ ، وتوفرين عليّ مقابلات مع متقدمات لا فائدة منهن على الأرجح .. وفي لندن لن أواجه مشاكل . وكما قد تكونين لاحظتي آنسة ليندساي ، أنا لست رجلا يسهل العمل معه . فأنا لا أتسامح مع الأغبياء . وقد أكون مخطئا ، ولكنني لا أظن أنك غبية ، على الأقل تستطيعين أن تبدأي دون أفكار خاطئة عني .
واتسعت عينا جودي الزرقاوين من الرعب . العمل لهذا الشخص الكريه ، الذي لا يحتمل والذي بدون مشاعر ؟ الأفضل أن تقف في الصف أمام مكتب الاستخدام ! وهذا ما ستفعله بالتأكيد عندما ستنهي دراستها في شهر تموز . فالوظائف صعبة المنال في هذه الأيام ، وهي تعلم هذا ، وخاصة إذا لم يكن للمتقدم أية خبرة سابقة .. وبرزت أمام عينيها صورة ، دفعة الإيجار ، وفاتورة الغاز ، وفاتورة الكهرباء ، أجر ماغي الإضافي سوف يغطي هذا ، بالطبع ، ولكن كم سيكون أفضل لو تحتفظ بمالها ، وتريح نفسها بعمل تتمتع به .
وكان هال دايفدسون ما زال ينظر إليها .
- عملك الأخير .. هل كان الاختزال والطباعة ؟
- الطباعة المسجلة .. معظم الرجال ، كما أعتقد ، يفضلون استخدام التسجيلات هذه الأيام ، إنها طريقة أسرع وأكثر ملائمة .
معظم الفتيات يتلقين دراسة في الاختزال ، ولكن جودي أرادت أن تنهي تأهيلها بأقصر وقت ممكن ، وفضلت أن تركز على الطباعة ، وبدا هال دايفدسون موافقا على هذا :
- لا مشكلة إذن . وأنا أفضل استخدام التسجيلات . فليس لديّ الوقت الكافي لأبدي إعجابي بساقي فتاة وهي تسجل كلماتي بطريقة الاختزال .حسنا إذا آنسة ليندساي ، ما رأيك ؟ هل نجرّب ، لنقل لمدة شهر ؟
كل شيء في جودي أراد الصراخ أن لا ... لا .. لن أعمل لك ولو بعد مليون سنة ! وهذا أعقل ما يمكن أن تفعله . ومع ذلك ، كان هناك شيء في الرجل الجالس إلى الجهة الأخرى من الطاولة ، يراقبها بهاتين العينين الرماديتين الغريبتين ، لعلها تريد أن تقبل التحدي . إنها تريد أن .. أن تريه . ولكن تريه ماذا إنها لا تدري .
ربما السبب هو الدافع السخيف الدائم لديها لقبول التحدي . وهذا الدافع سبب لها المشاكل من قبل .. حتى في المدرسة ، من المعروف بشكل عام أن جودي ليندساي يعتمد عليها دائما في قبول التحديات .
وسمعت نفسها تقول :
- ولكنك لا تعرف شيئا عني يا سيدي دايفدسون . ألا ترغب في التوصيات ؟
هذا بالتأكيد سينهي الأمر ، لأنها لا تملك أية توصيات . فهي لم تحصل على أية وظيفة .. وهي في الواقع لم تقل له سوى الأكاذيب . وهز راسه وقال بصوت سريع وحازم :
- أنا لا أعتمد على آراء الناس . فأنا أقرر رأيي بنفسي ، ولكن لمجرد المعلومات ، هل تخبريني لماذا تركت وظيفتك الأخيرة ؟
الأمر مريع .. فكذبة تقود لأكاذيب بشكل محتم :
- أردت .. ان أحسن وضعي .. اردت أن أكون حرة في البحث عن وظيفة مثيرة أكثر .
ونظر إليها بحدة طويلا حتى أحسّت بالفراغ في داخلها . كان وكأنه يقرأ أفكارها ، ولكنه عندما تكلم قال فقط :
- وهل تعتبرين نفسك طموحة ؟
- أوه .. أجل .
وهذه حقيقة أخيرا . إنها فعلا طموحة .. جزئيا لمصلحتها ، ولكن الأكثر لأجل ماغي . لانها تريد أن تكون قادرة على رد جميل ماغي لمنحها لها كل شيء ، طوال أيام طفولتها ودراستها ، كل شيء ، والحب أيضا .
وربما أساسا الحب . وسرى الدفء في جسدها وهي تفكر بماغي وما فعلته لأجلها ، والآن ، ولأول مرة ، ماغي بحاجة لمساعدتها ، وستفعل أي شيء ... أي شيء ، كي تخفف الحمل عن شقيقتها .
- وماذا ستدفع لي ؟
- هذا ما أحب سماعه .. فتاة لا تخاف أن تسأل من المؤكد أنك لن ترضى بالأجر الذي كانت تتقاضاه شقيقتك .. ولكن .. أستطيع أن أقول .. دعيني أرى أولا ...
ونظر إلى الخارج عبر النافذة ، ثم إليها ثانية ، وذكر مبلغا جعل جودي ترفرف بعينيها غير مصدقة ، بينما كانت تحاول أن لا تخفي دهشتها . وتابع كلامه :
- هذا على ما أعتقد ، عرض جيد آنسة ليندساي ، وكلما زادت ثقتي بك ، سيرتفع الأجر بالطبع بالتدريج ، إذا أنت أثبتي جدارتك ، وأظن أنك لا تشاركين شقيقتك الخوف من التكنولوجيا وسوف تتقبلين بكل إرادتك التدريب ؟
وابتلعت جودي ريقها . كل شيء يتحرك بسرعة . وشعرت وكانها بدأت السير في رحلة . ثم قالت :
- أنا .. أجل .. سوف أكون مهتمة بالتعلّم .
وبدأت معنوياتها ترتفع . فهناك آلات طباعة الكترونية في المعهد ، ولكن لا شيء أكثر . وإذا استطاعت الحصول على تديب هنا ، وإذا استطاعت ان تبدأ حياتها العملية وبالتدرب على أكثر الآلات تقدما ، فلن يكون هناك حدود لنوع الوظيفة التي ستحصل عليها في النهاية ، وربما تستطيع ان تتولى كل المسؤولية عن مصاريف المنزل وتريح ماغي أخيرا لتنصرف إلى فنها الذي تحبه .
يجب أن تكون شجاعة حتى تستغل هذه الفرصة وتتحمل العمل لفترة قصيرة مع هال دايفدسون . ويجب أن تكون فترة التدريب قصيرة .. لأنها لا تظن بأنها تستطيع احتماله لفترة طويلة . وقال لها جازما :
- إذا لقد انتهى الأمر .. وتستطيعين البدء غدا عند التاسعة صباحا تماما .
ووجددت جودي نفسها بعد قليل في الشارع ، مؤسسة " دايفدسون المحدودة " تقع في بناية قديمة في شارع جانبي في وسط البلدة ، على مقربة من حديقة عامة جميلة . وذهبت جودي إليها وجلست على مقعد ، تحت ظل شجرة كرز مزهرة ، كي تستعيد توازنها .
منتديات ليلاس
ماذا فعلت ؟ منذ عشرين دقيقة دخلت مكتب دايفدسون وابتسمت لدان بونز الذي يعمل في الأرشيف في أسفل البناء ، حيث أكوام الأوراق مصطفة فوق الرفوف ، وخزائن الجوارير ترتفع حتى السقف مليئة بالملفات .
وابتسم لها دان ، كان دائما يسر لرؤيتها ، إنه الآن في الستين من عمره وقد عمل لدايفدسون منذ أن كان شابا ، ومنذ أن عملت ماغي في المؤسسة ، كانت تأتي بجودي معها وتتركها في المخزن ، كان يراقبها وهي تكبر من طفلة جميلة إلى طالبة مدرسة طويلة الساقين ، إلى شابة جميلة .. كما هي الآن ، نحيلة مستقيمة القوام ، عينان زرقاوان تغطيهما أهداب طويلة ، في وجه صغير فاتن ، يمكن أن تتغير ملامحه بسرعة حسب مشاعرها من المرح والطيش إلى الحنان والود .
وتذكّرت جودي كيف سارع دان لتحيتها عندما وصلت هذا الصباح .
- صباح الخير آنسة جودي .. هل تبحثين عن شقيقتك ؟ إنها لم تأتِ اليوم .
- أعلم يا دان .. لقد تركتها في المنزل ، إنها في الواقع لم تتغلب بعد على آثار الانفلونزا .
وتذكرت وهي تبتسم لدان ، كيف كانت ماغي مرتمية على الفراش ، وكم بدت شاحبة عندما قالت لها إنها لن تذهب اليوم إلى العمل .
- لا أستطيع .. لا أستطيع .
وبدأت بالبكاء الصامت ، لم تقل لها أكثر من أن السيد دايفدسون يريدها أن تعمل على المعدات الالكترونية الجديدة ، والتي تكره مجرد النظر إليها .. وكانت على وشك ان تصاب بانهيار عصبي ..
- لا تهتمي يا حبيبتي ، سأبلغهم الخبر بنفسي ، خذي قرصي اسبرين الآن ونامي ، ولا تقلقي سأهتم بكل شيء .
وهكذا أصبح الأمر بين يديها الآن . كل هذه السنوات كانت ماغي تأخذ كل شيء على مسؤوليتها وها قد بلغت الآن النهاية فخسارة وظيفتها أصابتها بالهزيمة .
وجلست على المقعد ، في الحديقة ، وعادت تتذكر كيف ورطت نفسها في هذا الموقف ، ولكن كل ما استطاعت التفكير به كان عينا هال دايفدسون الرماديتين ورموشه السوداء حولهما ، وارتجفت قليلا مع أن طقس نهاية الربيع كان دافئا .
لماذا عرض عليها الوظيفة ؟ هنا يكمن السؤال . وقلبت جودي الأمر في ذهنها ، وأخيرا فرض احتمالان نفسيهما عليها : الأول إنها شابة راغبة بالتقدم وتعلم كل التقنيات الجديدة التي كدرت ماغي . وهو يتكلم على تدريبها ، ودفعها ، نحو تعلم طرقه الخاصة في العمل . والثاني إنه قد يكون يسعى لإرضاء ضميره بتوظيف الشقيقة الصغيرة للموظفة القديمة الكبيرة . ويمكن أن يكون هنك احتمال ثالث لم يبرز لها فورا ، ربما يكون هناك شيء فيها قد أثّر فيه . وبين كل الاحتمالات فضلت الأول ، فهال دايفدسون لم يظهر أنه يزعجه الضمير . فالعمل يأتي عنده بالدرجة الأولى ، والبشر يأتون بعد مسافة بعيدة جدا ، وهذه تماما خطته بالعمل .
حسنا ، إذا كان يفكر بان يستفيد منها فلن تتردد هي في أن تستفيد منه ، وستقبل الوظيفة وتقبض الأجر المرتفع الممتاز الذي عرضه عليها لشهر واحد ، وتتعلم كل شيء تستطيع إستيعابه في أقصر وقت ممكن ، ثم تقدّم له استقالتها . وإذا استطاعت حتى ذلك الوقت أن تنجح في جعله لا يستغني عنها أبدا ، فسيكون هذا أفضل . وسيتلقى الرد على ما فعله بنفس عملته ، وعليها الآن أن تتحمل طريقة عمله المزعجة لأجل اكتساب الخبرة في العمل ، وتستطيع دفع إيجار المنزل دون استخدام مال ماغي .
وما إن توصلت إلى هذه النتيجة ، حتى أحست بتحسن كبير في نظرتها إلى كل شيء .. ولكن الأسوأ قد يكون قادما ، وأحست بشعور غريب في معدتها عندما فكرت بالامر ! عليها أن تعود الآن إلى المنزل لتواجه ماغي بالخبر .
- جودي حبيبتي ، لن تستطيعي ! بكل بساطة لن تستطيعي . ولن أدعك تفعلين .
وجلست ماغي في المقعد القديم وأخذت تحدّق بشقيقتها بفزع .
- سأستطيع وسأفعل .
وابتسمت لها جودي . كانت قد سرّت بأن ترى ماغي غير مستقلية على الفراش تعاني من توتر أعصابها ، وتتعامل مع كل ما جرى بين هال دايفدسون وجودي وكأنه مزحة سوداء ، وبدت ماغي شاحبة ودوائر سوداءتحيط بعينيها البنيتين . ومالت نحوها ووضعت يدها على ذراعها وقالت :
- أنا آسفة لقد كنت متوترة هذا الصباح يا جودي ، ولا أعلم ماذا دهاني . وسأعود لأعمل خلال شهر الإنذار . سأعود غدا . وفي نفس الوقت سأفتش عن وظيفة أخرى ، وهذا ـ الكذا والكذا ، هال دايفدسون لن يرفض أن يعطيني خطاب توصية ، وعندها ستواصلين دراستك وتتقدمين للامتحان ، ثم تبحثين عن عمل .. عمل جيد ترتاحين له . يا إلهي كيف أسمح لك بالدخول إلى ميدان العمل في مثل هذه الوظيفة المستبعدة لك . . لا .. لن أسمح بحصول هذا .
- لن تستطيعي منعي يا أختي .. أنا في الثامنة عشر الآن ، أتذكرين ؟ وإذا كنت راغبة في أن أبيع حريتي لسيد يستعبدني ، فسأفعل ؟والآن كفي عن القلق عليّ ، فأنا قوية ولن يرعبني مثل هال دايفدسون . ولعلمك ، أنا لن أمانع في تعلم هذه التقنية الجديدة التي تكرهينها . فأنا ممتازة في الحساب ، ولقد اعترفت مدرسة الحساب بأن لي عقلا منطقيا ،فكري بهذا ! وافضل ان أتعلم وأتقدم لوظيفة أعلى ، وأجر يناسبنا . والآن لنبحث ماذا ستفعلين بتعويض صرفك من الخدمة . أعتقد أن عليك الذهاب إلى مدرسة فنون . تستطيعين أن تدخلي صفوف الكبار ، هذا أمر سخيف .. أنت لست كبيرة ، لا زلت صغيرة يا أختي ..
- لن أستطيع العودة إلى الدراسة يا حبي ، الأمر سخيف .
- ليس سخيفا أبدا . على كل ، فكري بالأمر . فقد تحصلين على درجة وهذا سيساعدك ، وإذا كنت أنا أكسب جيدا ، سنتدبر أمرنا بشكل رائع .
وكادت أن تقول لها ، أن بإمكانها أخيرا ان تتزوج من إيدي . ولكنها ضبطت لسانها ، مع أنها متأكدة أن إيدي اريكسون يحب ماغي ، وقد مضى على حبهما الآن أكثر من سنتين ، ولكن ماغي لم تعترف بالأمر أبدا . إنه فنان يعيش في شقة صغيرة عند طرف البلد الآخر . وبالنسبة لماغي كان رائعا جدا أن تتعرف إلى فنان حقيقي ، وأن تلتقيه ليتحدثا عن الفن . وكان ايدي قد اعتاد أن يأتي لتناول العشاء معها كل ليلة سبت ، ولم تستطع جودي إلا أن تلاحظ كيف يشع وجه ماغي عندما تراه .
أنت تقرأ
من بعدك لا احد _كارول روم
Romanceمن روايات احلام القديمة الملخص كيف يمكن لأي إنسان ان يكون دون قلب مثل هال دايفدسون ويطرد شقيقة جودي من العمل كسكرتيرة له , بعد خدمة سنوات من الإخلاص ! صحيح ان ماغي تتفهم الأمر جيداً.. إذا ربما تكون الوظيفة قد اصبحت فوق طاقتها .. ولكن جودي غضبت لأجل...