-" دكتور "جويرية", لقد أمر المدير أن تستلمى أنتِ الحالة رقم 36, تحت اسم "مالك الريحاني"".
ابتسمت "جويرية" بثقتها المعهودة وتفانيها فى العمل, اعتادت أن ترتدي ماهو عملى وبسيط, تضع كحلًا بسيطًا على عينيها البنية متوسطة الاتساع, وأعادت خصيلات شعرها للوراء فى شكل منظم ومرتب يليق بالعملية والمهنية, اعتادت إدخال بعض العبارات الفصيحة فى كلماتها, حادة النظرة, تمتلك ذكاءً لغويًا, أومأت برأسها موافقة قائلة:
-" ما سبب اختلال الحالة النفسية؟ "
-" توفى كلًا من والديه فى حادث جوي مأساوي, لم ينبس بكلمة, لم يصدر أى استجابة, لم يبدِ أى ردة فعل تجاه أى فعل يوجه إليه"
حركت "جويرية" رأسها فى شفقة, زمّت شفتيها فى حزن, ثم قالت:
-" لا حول ولا قوة إلا بالله, لعله خير إن شاء الله, لكن.., ما سبب انفراده بلاهم فى تلك الرحلة؟"
صمت الرجل برهة ولم يبدِ أي رد فعل, فضحكت "جويرية" قائلة:
-" هه.. لقد فهمت الآن, هل يمكنني أن استلمه الآن؟"
-" حالًا سيدتي, سوف آتي به"
-" حسن, أنا فى الانتظار"
دخل "مالك" فى تلك الغرفة, رأسه إلى الأسفل, يرتجف, بدا الخوف على محيّاه الصغير, ما أن جلس على المقعد حتى ابتسمت له "جويرية" فى رحمة ثم قالت:
-" كيف الحال يا "مالك"؟"
ابتسم "مالك" تدريجيًا واتسعت نواجذه, ورفع حاجبيه فى عفوية, ولكن رأسه مازال منخفضًا.
******
إلى منزل "جميلة" البسيط المظلم بما فيه من ذكرى مشؤومة, دخل "على" إليه ضمن اتفاقه على الإجراء القانونى مع والدتها, جلست "جميلة" صامتة, تحت عينيها هالات سوداء قاتلة, تدل على ما عانته من شقاء وعناء رغم صغر السن, استندت على ذراع الممرضة فى غرفتها, وبدا ملفتًا جسدها المتهدج, أطرق "على" في هذه الفتاة, كالدمية, جمالها البسيط والغني بكل معاني الجمال معًا, كيف ذلك؟, حسنًا لا يأخذ كلٌ منّا كل ما يشاء, ننتقص بعض الأشياء لنجدها فى شركائنا, أصدقائنا, أزواجنا, خلقنا لنكتمل, لنتعارف, لذلك خلقنا الله ناقصين, استعاد "على" نظرته الجدية عندما جلست والدة "جميلة" أمامه, لتفيده بما يريد ليحقق العدل, قرأ "على" في عينيها التساؤل, أعطاها الفرصة فى التحدث, وأخذ يكتب ما تمليه عليه والدتها من اعترافات, وما كانت تعرفه عنها تلك الفترة.
******
كثرت اللقاءات بين "جويرية" والرقم 36, "مالك", بدا لها أنه جد عفوي, متهدج الطباع, فاقدًا لأطماع بنى سنه, كان يصغرها بعامين, فقيد الأب والأم, كانت هي بالطبع أمه الواثقة, الثابتة, وجدها كالمعدن الصلب الأصيل فلم يتردد لحظة فى إبداء ضعفه واحتياجه إلى كمال استقلالها الفذ, استجابته معها كانت جد سريعة, بدأ يبتسم, يحيي, يُظهر الرفض, والقبول, خمس لقاءات كانت كفيلة بذلك, قص لها ما بطن داخله وكتمه, بكى, ضحك, هرول بروحه الطفولية إليها, حفظت ملامحه وميوله عن ظهر قلب, وكأنها أحبته دون سائر المرضى الذين كانت تتعامل معهم يوميًا, تلك الحسناء العملية عندما خرجت لتتنفس الصعداء خارج غرفة تحقيقاتها النفسية, وجدت مالكًا يندفع إليها فى عفوية وسعادة, يلوح لها فى خطى طفولية, قال اسمها بلهجة الأطفال حديثى النطق.. " جو .. واي.. ري.. يا!", نعم, لم تطلب منه إلا أن يناديها باسمها دون لقبها الروتيني " دكتور", حتى أنها رفضت تمامًا أن يتم نداؤها بالـ"دكتورة", بل ساوت نفسها بالرجال, وأصرت على منح نفسها تلك الأحقية بأن تساويهم النجاح والطموح فى مجتمعها الذكورى, "جويرية النقيب" والتى توفى أخوها الصغير إثر حالة الاكتئاب التى بلغت الاضطراب عنده, وسببت له حبًا لإيذاء ذاته وتشويه جسده وتربيته على كرهه لذاته, أو الذى رباه عليه المجتمع الخائن, أصبحت تقدم العطف, رشحت نفسها لتكون طبيبة نفسية, بلسمًا لكل داء, لكيلا يتعرض أحدهم لتينك الظروف, كانت تراه طفلها المدلل, رأت فيه عيني أخيها المتوفى, ربما لذلك أحبته حبًا جمًا, وما أن اندفع إليها حتى انصتت إلى مصدر الصوت مبتسمة, وكانت عينيها تختبئ تحت جدار النظارات الشمسية السوداء, وجدته يبتسم حتى اقترب منها ولاحظت أن ابتسامته تتلاشى وهو ينظر إليها, لوح إليها مطولًا قائلًا: " كيف حالك يا "مالك"؟" ومن ثم أشار عليها كأنه يذكرها بذلك الترحاب الروتيني بينهما, ابتسمت ودعته إلى الجلوس, وجدته يقترب منها عندما جلست أمامه, وضع أنامله على ذراعي نظارتها خالعًا إياها فى ثبات, ووضعها على الطاولة التى تفرق بين مقعديهما, ومن ثم قال لها:
-" هكذا أفضل! "
ضحكت "جويرية" ولم تتمالك عاطفتها الجياشة ما حدث, قطعت ابتسامتها بحديث أرفقته بضحكتها الرقيقة:
-" أظن أنك فى حالٍ أفضل اليوم "
ابتسم "مالك" , وقرأت الأفكار فى عينيه, حاول إخبارها أن تكمل كلماتها لأنه يجد فى نفسها كلمات تريد أن تخبره بها, استقام ظهرها, وقالت له:
-" قبل أن أخبرك أن قدرتك على فهم ما يجول بخاطرى يعجبنى بشدة, من حسن الحظ أنك جئت من تلقاء نفسك لأنني أود طرح عليك بعض الأشياء "
انحنت قامة "جويرية" إلى ناحية "مالك" متابعة:
-" مازلت أشعر بحزنك على وفاة والديك, خوفك المستمر, صمتك الكبير, ودقات قلبك المتسارعة, ولكن لا ينبغى على الحياة أن تقف عند نقطة أعطيناها اسم النهاية, ولكن طالما نحن نتنفس فلنا القدرة على منح أنفسنا البداية, وكل ساعة هي بداية, نحن – البشر - فقط لا نجيد صنع البدايات بأنفسنا"
عقد "مالك" حاجبيه, متسائلًا:
-" سأسألك كـ"جويرية", كيف يمكن للإنسان أن يقفز إلى بداية نهايته دون الحاجة إلى أحد ليعبر معه؟"
قالت "جويرية" وفى عينيها ابتسامة, واثقة كعادتها, مشيرةً بأصابعها لقلبها:
-" إذا امتلكت هذا, بالحب, ستستطيع أن تمتلك أى شيء تريد, بشرط واحد, وهو أن تستخدمه بما لا يقلل نقاءه, وطهر نواياه الودية"
******
أنت تقرأ
تحت مسمى الحب
Romanceهنالك دافع من الجريمة يسمى " الحب" ما يجعلنا أحيانًا هواة التدافع إليها.. فى تحقيق المحامي الشهير "على الشريف " لثلاثٍ من القضايا المثيرة للجدل.. ما دافع الحب لإجرائها؟ فى سبعة فصول .. سنعرف ذلك ^_^