احيانا تصبح الحياة نفسها سجن كبير ملئ بالقيود والقضبان .. الكل فيها يلعب دور السجين والسجان ... لكنها برغم قسوتها لا تهيئك ابداً للسجن الحقيقي .. هذا العالم الغريب الغامض .. اصعب شئ في سجن النساء ان تكون المسجونة صغيرة السن .. وتزداد الصعوبة اذا اقترن صغر السن مع الجمال ... ويصبح الوضع مستحيلاً اذا كانت التهمة هي القتل ... نعم انا قاتلة ... لقد قتلت اقرب الناس لي ... قتلت زوجي ... قتلته في لحظة خوف وغضب وبلا سابق تصميم .. قتلته كي احمي من هم اعزّ منه ..
ربما يجب ان اقص عليكم قصتي من البداية حتى تتفهموا دوافعي وتجدوا لي العذر فيما فعلت .. فنحن ابناء ماضينا الذي نرثه من ماضي من سبقونا .. ليصبح حاضرنا في النهاية سلسلة متصلة لا نستطيع ان نفرق بين اولها وآخرها ... انها بداية بعيدة .. قبل وجودي بزمن طويل .. سابدا من ابي الصول مامون .. هذا الرجل المربوع الذي يحمل لون الليل مع شعر اجعد وانف افطس .. وبرغم شكله البعيد عن الوسامة الا انه كان محبوبا لظرفه ولطافة حديثه .. خفة دمه واجادته القاء النكات .. مما جعل كبار الضباط يستدعونه في مكاتبهم عندما تكون حركة القسم هادئة لسماع آخر الاخبار والطرائف .. بصفة عامة كان مقبولا من الجميع الا عندما ياتي الى العمل صباحا وهو ما زال يحمل آثار الخمر الذي احتساه طيلة ليل امس .. وبرغم ذلك تقبل الجميع عذره بانها سلوته الوحيدة في وحدته خصوصا بعد وصوله سن الاربعين بلا زواج بسبب تحمله مسئولية امه واخواته البنات عقب وفاة ابيه .. بعد زواج البنات توفيت الام فبقى يساكن وحدته وخمره .. ويبحث عن زوجة ترضى بعيوبه وفقره.. عندما راى امي لاول مرة قال لاصدقائه في القسم " انا حاعرس البت دي " وضحك الجميع على طرفة الصول مامون وظنه البعض ما زال يعاني من آثار العرقي الذي احتساه بكميات كبيرة وبدت آثاره في رائحة انفاسه وطريقة مشيه وكلامه.. رد عليه عليه احدهم هازئاً " يا مامون انت لسة سكران ولا شنو ؟! .. يا راجل اخجل .. دي شافعة صغيرة ولو كنت عرست زمان كان بناتك اكبر منها " لم يهتم بتعليقاتهم وكرر جملته باصرار غريب " انا حاعرس البت دي ..
وبالفعل كانت امي طفلة صغيرة خرجت فجاة من عالمها البرئ لتدخل عالم الكبار المعقد .. في سن الثامنة عشرة كان كل ما فيها ناعماً وصغيراً .. شعرها البني الفاتح .. جسدها النحيل وبشرتها القمحية .. بائعة الشاي الجديدة التي اتخذت مكانها تحت شجرة النيم المواجهة للقسم الجنوبي بالخرطوم .. كانت تحمل كل ملامح العرب الذين نزحوا من مناطقهم بعد ان ضربها الجفاف وقتل الزرع والضرع والبشر بما فيهم والدتها التي لم تتحمل مشقة الطريق فماتت هي ورضيعها فتركوا جثثهم مع العشرات غيرها في الطريق ليدفنوا في بطون العقبان الرابضة بصبر تنتظر سكون حركة الاجساد الواهنة حتى تبدا انقضاضها ... حمل ابوها احدى شقيقتها على ظهره المحني بينما استندت الاخري عليها .. اما الولد المراهق فقد تحامل على نفسه وجر قدميه حتى وصل الجميع الى المعسكر الذي اقامته الحكومة على عجل ليؤوي الفارين من الموت جوعاً ... لم يكن الحال في المعسكر افضل بكثير من القرية .. وبعد شهرين قرر الولد الوحيد ان يتجه الى العاصمة بعد ان سمع بتوفر فرص العمل ونوعية الحياة هناك .. فتسلل الى احد اللواري التي تحمل مواد الاغاثة بعد ان ودع اسرته المتعبة ووعدهم بان يعود لاخذهم حالما يحصل على عمل ... مرّ عام كامل قبل ان يستطيع العودة ليجد ان الاب الضعيف قد فارق الحياة تبعته الابنة الصغرى .. ولم يبق من اسرته غير " الرضية " الاخت الكبرى وأم كلثوم التي تصغرها بسنتين .. بعد رحلة محفوفة بالخطر والجوع والتعب وصلوا الى اطراف العاصمة واستقروا في احدى البيوت العشوائية المبنية من الكرتون وبقايا صفيح وقش .. وبدات رحلة البحث عن عمل .. عوض الذي اصبح رجلاً قبل الاوان عمل بائع ماء في سوق السجانة .. كلتوم ابنة السادسة عشرة اصبحت خادمة باليومية في بيوت الخرطوم الكسولة .. بينما بقيت الرضية للاهتمام بالعشة ومحاولة تدبير حياتهم حسب ما ياتي به اشقاءها في نهاية اليوم .. أتت فكرة عمل الرضية اثناء نقاش دار بين عوض وحاجة التومة .. اكبر بائعات الشاي سناً في سوق السجانة .. كانت تشفق على الصغير النحيل الذي يسير بكتف مهدول من ثقل حمل صفيحة الماء وهو يدور في ازقة السوق بين البائعين والمشترين يعرض ماؤه البارد .. اعتادت ان تمنحه اكواب الشاي الحار مع قطعة خبز وترفض ان تاخذ مقابل ما تعطيه .. فاصبح مكانها في طرف السوق ملجا عوض المفضل كلما احس بالتعب او الجوع .. او حتى الرغبة في الحديث والحصول على جرعة حنان فقده بموت امه .. وفي نهاية احد ايام العمل بينما حاجة التومة تلملم اغراضها ويساعدها عوض .. سالته عن اهله .. فحكى لها القصة الحزينة .. امه وشقيقه الرضيع المدفونين في بطون العقبان .. والده العجوز واخته الصغيرة المدفونين في قبور لا يعرف مكانها .. كلتوم التي اصبحت خادمة بعد ان كانت سيدة .. الرضية التي اصاب الجوع روحها قبل جسدها .. بكت المراة الحنون كأنها تبكي اعز الناس اليها ...