الفصل الاول /٢

3.3K 44 2
                                    

بعد ساعتين، كانت مادلين في شقتها الصغيرة المؤلفة من غرفة واحدة وشرعت في تبديل حذائها وثيابها وانتعلت خفا ولبست فستانها الابيض المجعد . وازالت الاصباغ عن وجهها ثم وقفت امام المرآة في غرفة نومها وراحت تسرح شعرها ، الى ان اصبح شبيها بهالة متكسرة حول كتفيها وقد خبا لونها . توقفت وسط حركاتها النظامية المتكررة ، وضاقت حدقتاها وهي تتفحص رموشها الداكنة الكثيفة حول عينين كالأحجار الرمادية المثلجة . لم يكن يعيبها ان يكون شعرها وعيناها وبشرتها فاتحة اللون حتى الشفافية ، رغم ان رموشها الداكنة تبدوا كأنها تعود لشخص آخر .......
تنهدت وهي تتحول عن المرآة ، وقد آنست ارتياحا في شقتها بعيدا عن نظرات الغرباء .
لم تكد تخطو وسط فوضى اثاثها في الصالون وهي في طريقها للمطبخ ، حتى سمعت قرعا عنيفا على الباب. فتغيرت ملامحها . مشت الى الباب وفتحته قليلا بتردد ، والقت بنظرة خاطفة من جانب الباب .

"مبروك"
ارتفعت عينا مادلين قليلا الى أعلى لتطلا على قسمات رجل في الظلمة لم تره من قبل . فقالت وهي تنظر في الضوء الخافت في الرواق "استميحك عذرا؟"
قال"لقد قلت لك مبروك ، فهذا لك ."
كان ممسكا بمغلف أبيض لم تستطع تمييزه . وبحركة بسيطة من رأسه استطاعت مادلين ان تتبين عينيه وقد غمرها النور، فحدقت فيهما ، وقد سحرها لونهما الاخضر المفرط في بريقه ، لايمكن ان تجد له مثيلا إلا في خضرة البساتين في عز ربيعها .
أخذ تحديقها الصامت إليه بعض الوقت ، وهو على مايبدو قد آنس به . ثم احنى رأسه قليلا "يوجد شيك بقيمة كبيرة من المال داخل هذا المظرف ياأنسة شمبرز "
تنهدت مادلين وقد تقوس احد حاجبيها "حقا ؟حسنا ،إنه شيء بديع ، ولكنني لست بصدد بيع اي شيء شكرا ."
ظهرت على وجهه ضحكة فيما كانت تهم بأغلاق الباب . قال "انها الجائزة الكبرى لمسابقة العزف يا انسة شمبرز . انت فزت بها ."
توقفت انفاسها وضاقت حدقتاها وقد ارتابت للأمر. "هذا مستحيل؟لقد قيل ان النتيجة ستبلغني بواسطة البريد ."
"كل المتبارين الآخرين سيبلغون بواسطة البريد . اما الفائز الاول فيتسلم جائزته . ألا توافقينني الرأي ؟"
احست مادلين ان قواها قد بدأت تخونها وهي تحاول  استيعاب النبأ وتتذكر القيمة المالية للجائزة الأولى .
همست "احقا ربحت ؟"وتضايقت من تهدج صوتها ، لكنها لم تستطع التحكم بنبرته "هل انت متأكد؟"
"بالطبع. انا جازم في ذلك ."
اومأت برأسها ببطء، وقد تخدرت افكارها . فقد كانت تحلم بأحلام عادية جدا فيما مضى ولم يخطر ببالها فكرة ان يكون الياس شيبرد جعلها في المركز الاول ، هذا فضلا عن إرسال احدهم لتسليمها الجائزة في تلك الليله .
تنبهت فجأة الى أنه لايزال واقفا في الرواق ، ففتحت الباب على مصراعيه وقالت "ارجوك تفضل" وأشارت بيدها الى بعض الآرائك والكراسي التي كانت محتشدة في إحدى زوايا غرفة الجلوس وقد بدت هزيلة في حجمها امام البيانو الضخم الذي اقتصدت كثيرا كي تشتريه ."تفضل بالجلوس ، فقد كنت في صدد تحضير القهوة الايرلندية ...."
اختنقت العبارات في حنجرتها حين استدار فجأة ليواجهها ، فوقع نظرها عليه للمرة الأولى وقد غمره النور. وعلى الفور ، على الرغم من انها لم تلتقيه قبلا او ترنوا الى صورته، لقد عرفته، إنه الياس شيبرد .
أدهشتها سرعتها في التعرف عليه . فقد كانت متيمة بفكر الياس شيبرد وروحه اللذين كانا وراء موسيقاه خلال السنتين الماضيتين ، إلا انها لم تكن لتتوقع ان ترتسم تلك الروح على وجه الرجل .
تمتمت "انت الياس شيبرد" وهي تخشى ان ترف عينيها فتزل الرؤية من أمامها .
حملق بها الى ما بدا انه زمن طويل ، ثم هز برأسه .
بدا في تعابير وجهه الداكنة ، حزينا مثل موسيقاه ، بحاجبين كثيفين فوق عينيه الخضراوين الرائعتين وفم مشقوق وسط فكه المربع. إلا انها احست ان هناك شيئا ما وراء تلك الصورة القاتمة ، شيء نظيف وبراق وقاس جعلها تفكر بلمعان اشعة  الشمس فوق المحيط .
دهشت حين تكلم وتساءلت كم مضى عليها وهي واقفة هنا ، تحملق به، "تبدو القهوة في اوانها .شكرا."
اجابت بصوت خال من التعبير :"انت على الرحب والسعة ."
إلا انها بقيت ساكنة ، عاجزة عن رفع نظرها عنه. وأخيرا اجبرت نفسها على الذهاب الى المطبخ .
تحضير القهوة الايرلندية أمر سهل ، بتحضيرها مئات المرات قبل ذلك ، الا ان عملية تحضيرها تلك الليلة كانت معقدة ، ومتجاوزة قدراتها.
عندما عادت الى غرفة الطعام ، وجدته جالسا على الأريكة ، وهو يتابع بنظره اقترابها بارتباك حذر . وتلامست أناملهما للحظة وهو يتناول كوب القهوة من يدها . أما هي فغرقت في كرسيها مقابل الأريكة وقد اربكتها الحرارة التي سببتها ملامسته.
راحا يرشفان القهوة من كوبيهما حين قال "لقد اعجبني أداؤك اليوم."

ارتجفت لسماع صوته المتماوج في بحة . تجنبت عينيه ، وركزت على شعره الاسود المرفوع وراء أذنيه والملفوف على مستوى ياقة القميص الأبيض الذي، تراه للمرة الأولى ، ارخى ربطة العنق ليضعها جانبا .
"لم تشاركي في مباراة كهذه قبلا ، أليس كذلك "
"كلا ."بدأت تهز رأسها . ثم كان عليها تذكير نفسها بالتوقف . فسألته :"وهل كان ذلك واضحا"
قال وهو يحاول ان يبتسم "بالطبع لا . انا اتابع كل المبارايات ولكنت تذكرت عازفة مثلك ."
اخذت مادلين رشفة اخرى من قهوتها وشعرت بالدفء يسري في حنجرتها ." انا في الحقيقة مدرسة بيانو ولست بعازفة ."
ابتسم :"ولم يكن شكسبير بأكثر من كاتب ."
لم تتح لحدقتيها ان تتسعا بعد تلك المقارنة الصارخة في محتواها ، إذ عاد ليصدمها ثانية .
"اريد ان استخدمك يا آنسة شمبرز .اريدك ان تعملي معي دواما كاملا في مشروع مهم ، ان تعزفي موسيقاي ، او ربما تسجيلها ، إذا  اقتضى الأمر."
ترددت هنيهة :"حسنا."
"حسنا؟أهذا كل ماعندك لتقوليه ؟"

تجهمت لاتدري ماتفعل ، تتسائل لم ردها أدهشه.
"ألاتريدين ان تسألي عن الأجر ؟و شروط العمل ؟أي شيء آخر؟"
اومأت برأسها غير مكترثة . وقالت "انك الياس شيبرد ."كأن هذا يفسر كل شيء .
تفحصها بهدوء للحظة :"ماذا تعرفين عني ؟"
همست "كل شيء ." ثم قطبت جبينها وقد فقهت كم هو احمق ما تفوهت به :"لا شيء ."اردفت بأرتباك .
"ايهما الجواب الصحيح؟"
نظرت في كوبها وقد تغضن حاجبيها الشاحبتين ، وعضت على شفتها وقد تملكها الرعب . ماذا تعرف عن الياس شيبرد؟ فقد كان اطلاعها على موسيقاه خجولا :ألحانه الاستعراضية ، وأغانيه الشعبية ، وموسيقى الافلام التي كتبها على مدى العشر سنوات الماضية ، لم تؤثر عليها.
"اني على اطلاع فقط بالموسيقى التي كتبتها خلال السنتين الأخيرتين . هذا كل شيء."
قال بهدوء :"هذا كل شيء "
شعرت في اعماقها بشيء يخفق بقوة .
...................................
Zainab_alabody
الياس شيبرد قصد بقوله "هذا كل شيء" ان ماعرفته عنه في السنتين الماضيتين هو حقا كل شيء عنه لانه بدأ بتأليف الموسيقى التي  تعبر عنه في هذه الفترة

اغنية من القلب/ Abeer Novelحيث تعيش القصص. اكتشف الآن