الفصل السادس

2.2K 37 0
                                    

بحثت مادلين داخل خزانات المطبخ عما تحضر به إبريقا من القهوة، ثم جلست الى طاولة  وراحت تحملق في حديقة الورد، وهي تشعر بزوال خفقة الحياة فيها كتلك العيدان اليابسة السوداء التى كانت تشرئب بأعناقها من الأرض.
تشنجت وهي جالسة على الكرسي، حين رأته قادما باتجاه المنزل، وقد اخفض رأسه وكأنه مستغرق في أفكاره. كرهت ضعفها في مواجهة جاذبيته وكيف يمشي وأشعة الشمس تلمع على الخصلات الفاتحة من شعره الأسود .
دخل من الباب بهدوء، ونظر إليها ثم جلس على كرسى فى مواجهتها وناداها:«مادي. » فقطبت جبينها وهى مرتابة من نبرته الناعمة ومن مناداتها بكنيتها هذه التى أطلقها عليها ، فلم ينادها أحد بهذه الكنية قبلاً. وتابع قائلاً: «لا ألومك على ما فعلته، غير أنني لا اريد استخدام عازف آخر. فلا استطيع
استخدام عازف آخر... ليس مثلك.»
شعرت بخفقة قلبها اللاشعورية والغادرة في صدرها، وكأنها طائر صغير كان محبوسا هناك.
قال لها :«إني آسف لما حصل هناك. فلا أملك حجة واحدة للطريقة التى عاملتك بها ، انك تستحقين افضل من ذلك... » توقف فجاة وهو يفرك يده على فمه.
«هل انت تعتذر للطريقة التي عانقتني فيها، ام للطريقة التى صرخت فيها بعد ذلك؟» كانت الكلمات تنساب من فمها قبل ان تفقه انها ستتفوه بها، فبدت كلماتها وقحة وجريئة.
جمد في مكانه لدى سؤالها، وعيناه شاخصتان إليها، قال بهدوء: «للإثنين معا. ليس معي حق بالتصرف في أي من الطريقتين. »
آه، ولكنك فعلت، كانت تفكر. فقد أبحت لك ان تضمنى من خلال قلبي على الأقل. ..
بقي ساكنا من دون حراك، وهو ما يزال يحملق اليها .
قال وهو يبتسم بمرارة«لقد تورطت مع عازفتي مرة  قبل ذلك يا مادلين ثم تزوجتها .»
تساءلت لماذا لم يقل لها دافيد بان زوجة الياس السابقة كانت هى ايضا عازفته؟ تابع الياس حديثه بنبرة رتيبة مملة: «لقد أحب كلانا الموسيقى ، وقد كنت أحمق بما فيه الكفاية وأنا اظن ان هذا يعنى اننا كنا نحب بعضنا بعضا. ان جعل هذين الأمرين يختلطان قد نتج عنه كارثة بالفعل، ولست مستعدا لأن أرتكب الخطأ عينه مرة جديدة .»
رأت مادلين انعكاسا لذات الألم الذي كانت تراه من خلال مرآتها لسنوات، لذات الدفاع الهش الذي نصبته ضد أي إغواء بالسماح لأحد بالدخول.
لا غرو في ان يصبح الياس باردا لدى دخولهما الاستديو للعمل، ويعيش تجربة الألم هذا من جديد.
فجأة راح ينظر بعيدا عنها وكأنه لم يعد يتحمل رؤية وجهها لمدة طويلة باستمرار.
شرعت تذكره بنعومة «انا لست زوجتك السابقة.» نظر فى عينيها ، وارتخت أساريره لما رآه فيهما وقال:« لا لست كذلك.» وبعد برهة ابتسم وقال:«انت فاتنة يا مادلين، وأنت لا تدرين ، أليس كذلك؟ »
تذكرت ما قاله لها دافيد في اليوم الذي التقته فيه. فقد قال العبارة ذاتها، أم أن الياس قد ناداها بها اولا؟ وأحست بوخزة خلف عينيها ورفت أهدابها بصعوبة .
تابع الياس بنعومه : «لم اطلق زوجتي فقط، بل أظن أني طلقت العالم كله. وبقيت معزولا لوقت طويل  وأظن أني نسيت حينها كيف أهتم وكيف أشعر... ثم سمعتك تعزفين موسيقاي في ذلك اليوم، وسمعتك وأنت تعزفين قلبك عالياً على البيانو، و... كنت كأني سمعت أحاسيسي، وتذكرت ايضا بأنها موجودة.» كانت ابتسامته ناعمة حتى ليكاد القلب ينفطر لها .مد يديه عبر الطاولة وأمسك بيديها وقال:«كأنني
مستيقظ من نوم او سبات طويل. لقد أعدتني الى الحياة مجددا ، يا مادي. بكل بساطة.»
جلست مادلين ساكنة لا تبدي حراكا، وما تكاد تتنفس وقد راحت أناملها ترتعش على راحتيه.
«شىء ما يحدث عندما تعزفين الحاني، يا مادي .فهناك رابط روحي قوي يجعل من الموسيقى تحيا من جديد ايضا. إنه لشيء نادر، وثمين...» وتقوس حاجباه مثل جناحين أسودين يظللان عينيه وقال: «لن أسمح لهذا الأمر ان يهدم. » رفت عينيها بارتباك، فألقت أهدابها القاتمة بظلال فوق وجهها الشاحب.
«لا تدوم العلاقات طويلا، يا مادلين.»
اومأت برأسها ببطء. فلا أحد يعلم هذا الأمر، أحسن منها.
«إلا ان موسيقانا ستدوم الى الأبد. فتلك الموسيقى التي نحن بصدد تأليفها، قد تدوم إذا لم ندمرها باستسلامنا لأشياء قد لا تدوم مثلها.»
شعرت مادلين بان الزمن يتوقف للحظة،وفي تلك الاستراحة السريعة انتقل شيء ما قاتم ليحتل المسافة القائمة بينهما ، وأحست بأن اساريرها تتجمد في أي تعبير يصدف ان تغلف به وجهها.
«مادي.» شدد على أناملها وهو يناديها ثم اتكأ الى الطاولة باتجاهها، وهو يسيطر على انتباهها.وقال:«أعطيني فرصة اخرى.» كانت كلماته تنساب بنعومة حتى انها ما كادت تسمعها نظرت الى حيث كانت يداها مغلولتين كطائرين بلا
حياة، ثم نظرت إليه مجددا وقد ارتسمت حول فمها ابتسامة واهنة وحزينة وقالت بنبرة تعوزها الفخامة:« من أجل الموسيقى.»
«نعم، الموسيقى. فلا شيء أهم منها .»
كانت الساعة الصغيرة على الحائط تملأ السكون القائم في المطبخ بدقاتها فيما اغمضت مادلين عينيها وأخذت نفسا عميقاً وقالت بلطف:«الموسيقى مهمة لي ايضا»
هز برأسه آملا وهو يقول:«هل هذا يعنى انك باقية؟»
نظرت مادلين الى يديها، وهي تتنهد باستسلام وتتساءل ما إذا كانت تستطيع فعل ذلك... إذا كانت فعلا، تستطيع قضاء أيامها وهي تراقبه، تستمع الى موسيقاه، تشعر بوجوده، تقترب من عقله لتلامسه عبر مفاتيح البيانو تلك، إنها لا تهتم اكثر من اهتمامه هو. ألن يكون أسهل ان تغادر الآن؟
بالطبع، أجل. وسوف يكون ذلك مكانا آخر يضاف الى سلسلة اخرى من الأمكنة التي تركتها وراءها ،فلذة من قلبها، قالت بهدوء «يجب أن تكون الاشياء مختلفة، لن تصرخ في وجهي. اريدك ان تعاملني مثل صديق.»
ارتخت كتفاه فيما أخرج تنهيدة طويلة. ونظر إليها لبرهة ثم ببطء، ويحركة احتفالية مدّ يده عبر الطاولة وقال: «حسنا يا مادلين. اعدك بذلك. » . ترددت مادلين، ومع أنها علمت أنها كانت تعرض نفسها لمزيد من العذاب، صافحت يده الممدودة، وهي تمهر بذلك الاتفاق الجديد الذي قام بينهما.
وقف ببطء وقد بدا حزينا على الرغم من انه حصل على
مبتغاه، وقال: «لماذا لا تأخذين بقية النهار لتوضبي مكان اقامتك فيما أقوم ببعض العمل في الاستديو؟ . يوجد بيانو فى الردهة الأمامية إذا كنت ترغبين في العزف عليه.» امسك بمقبض الباب ثم استدار ونظر إليها :«لن تأسفي لذلك، يامادلين، أعدك بهذا.»
راقبته بصمت وهو يغادر، ثم تحولت الى النافذة لتتبعه بنظراتها فيما هو يعبر حديقة الورد ويختفي وراء الشجر، وهمست : « بلى، سوف أفعل.»
لم تدر كم مضى عليها وهي جالسة هناك، تحملق الى خارج النافذة، حين سمعت صوت سيارة على الطريق الأمامية مما جعلها تقف.
مشت عبر المنزل الى الباب الأمامي ففتحته ونظرت . الى قاطرة قديمة وقد تشقق زجاجها الأمامي على الجهة اليمنى. خرجت من خلف مقود السيارة، امرأة نحيلة،صغيرة الحجم، وكأنها قد سكبت داخل بنطال.
شعرها الكستنائي ينسكب فوق كتفيها فى تموجات لماعة كثيفة.
رأت مادلين عينيها الداكنتين، اضاءت وجهها المستدير ابتسامة. «مرحبا.» لوحت بذراعها السمراء ثم انحنت لتسحب أكياس البقالة من داخل السيارة. تقدمت مادلين نحوها للمساعدة وقد ادركت بأنها المرأة التي اخبرها الياس عنها وقد ادهشها جمالها الأخاذ غير الطبيعى وقالت: «مرحبا. انا مادلين شمبرز.» ناولتها المرأة كيسا من البقالة بابتسامة شاكرة وقالت:«لا يمكن ان تكوني احدا آخر، لا كما وصفك الياس لي. ألم يخبرك عني؟»
«بلى، انت بيكى، أليس كذلك؟ »
«بالضبط،فانا  ربة المنزل  ، والمتسوقة للبيت والطاهية.. وكل ما تحتاجان إليه.» هزت كتفيها بمرح وقالت:« بالمناسبة، أين إيلي؟»
ردت مادلين بابتسامة وقد اعجبتها هذه الكنية:«إنه في  الاستوديو.»
امسكت بيكي بالكيس الأخير وأغلقت باب السيارة ومشت متقدمة مادلين نحو البيت وقالت : «لن نفعل شيئا لإزعاجه إذا ، يا للهول، انظري الى هذا المكان.» توقفت وهزت برأسها وهي تقول :«يبدو اسوأ في وضح  النهارحتى لنكاد نشتم رائحة الغبار.»
«في وضح النِهار؟» راحت مادلين تمشي وراءها في الرواق مرورا بالسلالم حتى المطبخ. ومضت بيكي بابتسامة مألوفة من وراء كتفها. «لقد نظفت غرفتْك . بعد حلول الظلام مما بعثر حبيبات الغبار العالقة هنا وهناك.»
«لم يجب ان تفعلي هذا ...»
«بلى، فعلت. لقد اتصل الياس وأتيت مسرعة. هكذا تجري الأمور. ضعي الكيس على الرف إذا سمحت. ألم يسنح لك الوقت لكي ترتبي أمورك هنا؟» اجابت مادلين وهي لاهية عنها: «كلا، فأنا لم أفرغ حقائبي بعد. » وعضت على شفتها بحيرة ودهشة وهي تتذكر الملابس المنتشرة في غرفتها. «في الحقيقة لقد بدأت بتفريغ حقائبي،نوعا ما»
«نوعا ما؟»
هزت بكتفها وهى مرتبكة قليلا. «لقد رميت بكل شيء احضرته معى فى كل مكان من الغرفة. فقد كنت فى ثورة غضب.»
نظرت مادلين إليها فيما كانت تقوم بتفريغ محتويات الأكياس وهي تتعجب كيف ان امرأة بهذا الجمال لا تعمل عارضة ازياء بدلا من مدبرة منزل. سألتها :« هل هناك الكثير من المنازل التي تهتمين بها ؟ .»
ضحكت بيكي فيما هي تخرج مشبكا من جيبها  و تعقص شعرها الى قمة رأسها :«هذه فعلة الياس،لا شك. هو يفعل ذلك. يخرج الناس عن طورها حتى ليرموا بأشيائهم في كل مكان هنا وهناك.» ونظرت الى مادلين في محاولة الحصول على موافقتها. ضحكت بيكى وهي تمد يديها في كيس آخر:«لا  أفعل ذلك لأكسب عيشي بل فقط من أجل الياس.
انا معلمة مدرسة وهذه عطلتي الصيفية. »
تراجعت مادلين في افكارها، لكن بيكي استمرت بالثرثرة:«انا سعيدة لأنه سوف يبقى هنا لبعض الوقت هذه المرة. فهو عادة يبقى لأيام قليلة ثم يغادر الى مكان آخر... أي مكان آخر.» توقفت لبرهة ونظرت الى مادلين ثم تابعت: « لقد حاولت لسنوات ان أكلمه بشأن السكن هنا بشكل دائم. ربما بمساعدتك استطيع اقناعه .»
شحبت مادلين وتراجعت هذه المرة خطوة فعلية الى الوراء، وبدأ كل شيء يظهر واضحا أمامها ، بيكى لا تنظف المنازل من أجل كسب العيش، هي تقوم  بذلك من اجل الياس فقط، بيكي تنظف غرفة النوم بعد حلول الظلام.. ماذا قالت هي؟ (الياس يتصل، وأنا احضر بسرعة؟).. وهي الآن تتوسل مساعدة مادلين لإقناعه بالبقاء معها بشكل دائم...
«هل من خطب؟» كانت بيكي مقطبة الجبين ردا على تعابير وجه مادلين.
قالت:«لا.لا شيء على الاطلاق.» اجبرت نفسها على الابتسام وأضافت: «سوف ابتعد عن طريقك الآن.»
كانت الكلمات تعني اكثر من عزمها على مغادرة المطبخ، ولكن بيكي لم تدرك ذلك بأي شكل من الاشكال.
______________________________________
Vote 💜💜💜💜

اغنية من القلب/ Abeer Novelحيث تعيش القصص. اكتشف الآن