شكّ مريب.

46 2 0
                                    


ربما كان الموت مسلكه الوحيد للفرار من نزاع نفسه وتكالب الوِحدة عليها، تلك الوحدة الغامضة التي نخرت الحياة فيه حتى باتَ مجرد جثة هامدة تتنفس فحسب من غير الشعور بلذة الوجود وقيمته، لم يكن هناكَ من يسمع صراخ دواخله وحِدّة الألم الموقد فيها، هو لم يعِش يومًا بقدر ما وجد نفسه وحيدًا مصادفة على هذه الأرض في النهاية لقد اتخذ سبيلًا للخلاص وأنهى حياته المتعبة بيديه، بإبتسامة رقيقة رُسمت على شفتيه داعبها شعاع الشمس المتسلل لغرفته بينما يستلقي على الأرض منتظِرًا أن تذاع رسالة وداعه الأخير.

بقيّت جثة ذلك الشاب حتى شروق الشمس بسبب بعض الدواعِ الامنية بينما كان مين كي يحدق بوجهه الشاحب غيّر مقتنع بأنه قد اقبل على الانتحار، بعد نقل الضحية إلى المشرحة سارعَ المحقق بالذهاب إلى القسم لأخذ إفادة الشاهدة او ربما كانت من المشتبه بهم.

جلست هاي سو على المقعد قبالة المحقق لي في غرفة زواياها مظلمة بإستثناء الطاولة التي فصلت بينهما، كان يراقبها من غير أن ينبس ببنت شفة منتظِرًا خروجها من فجوة الصمت التي علقت فيها منذ الأمس، امسكَ يديها الباردتين وقال لها بصوت رقيق "آنسة هاي سو لا تعتبري هذا استجوابًا بقدر ما هو أخذ لإفادتك! رغم انك من الممكن أن تكوني موضع شبهة لكني أثق بهذا (اشار الى قلبه) لذلك كوني مسترخية وانسيّ التسجيل الموجود في الغرفة، والآن ما هي صلة معرفتك بالضحية او قبل هذا اخبريني كيف دخلتِ الشقة ووجدتِ الجثة اولًا".

رفعت ناظريها نحو ذلك الوجه الذي يصطنع ابتسامة زائفة لتقوده إلى الحقيقة، تلعثمت قليلًا وسحبت يديها "سيدي انا مراسلة كنت اتبع الكاتب لأجل كتابة مقال وذلك اليوم وجدت باب الشقة مفتوح فادخلني فضولي هناك ووجدته على تلك الحالة." قالت هاي سو بينما تحولت ابتسامة مين كي إلى غضب.

"لكن هل تظنين ان هذا معقول؟" قالها مين كي إستهزاءًا بحديث هاي سو، تنهدت ثم قالت ببرود "لم أكذب بشيء ان هذا حقيقي."

"حسنًا لننتقل إلى السؤال التالي، ما هي صلتك بالضحية؟" قال المحقق بينما كان يقلب بعض الاوراق، اخفضت ناظريها مرة اخرى وقالت "انا مراسلة كنت اتبعه من غيّر علمه، لكن سيدي هناك شيء غريب كان يحدث أثناء مطاردتي له مختلف عن الذي قاله المدير".

اتسعت عينيّ المحقق لي وقال لها بصوت متحمس "ما هو اخبريني؟".

"في الشهرين الماضيين التي تتبعته فيها كان الكاتب هان شخص مختلف تمامًا عما وصفه مدير اعماله، لا اعتقد بأنني قد رأيته يبتسم!".

"هل هذا يعني أن المدير كان يكذب؟" قال مين كي وهو يحدق في عينيّها، "آسفة لم اقصد ذلك مطلقًا لكن صدقني انا لا أكذب كذلك، لقد كان شخصًا غامِضًا، يخرج كل يوم ليجلس ذات المقعد في مقهًا قديم من غيّر ان يطلبَ شيئا، يمشي ذات الطريق بينما ترمق نظرة سوداوية عالمه الغريب، ثم يعود إلى المنزل، لم يكن يمتلك أصدقاء يشاركونه حياته او عائلة تحتضنه، لقد كان وحيدًا جدًا، بلا أي ذكريات، كأنه يعيش مرغمًا بإنتظار الآتي البعيد." قالت هاي سو وعيناها تكادان ان تنفجرا بكائًا.

كان يجلس على مكتبه عندما ورده اتصال من الطبيب الشرعي يقول فيه ان السبب كما توقع في البداية جرعة زائدة من المخدرات من نوع كوكايين.

"لكن سيدي نحن حتى الآن لم نجد المادة التي استخدمها، كيف تعده انتحارًا بأدلة ناقصة؟" قال مين كي لرئيس قسم الجرائم الذي كان يحتسي القهوة المبردة على مكتبه غير مبالي بالقضية.

"أيها الأحمق لقد أُغلقت القضية على انها انتحار، ودليلها القاطع هي رسالته التي كتبها." قال الرئيس أوه وهو ينظر إلى مين كي الواقف امامه ويغلي غضبًا.

"قلت رسالة انتحار؟ كيف لي ألّا أعلم بها وانا مسؤول عن تلك القضية! أين هي الآن" رد مين كي بينما لا يزال رئيسه في العمل غيّر مهتم.

"أجل رسالة، وانت على علم بها فما ذنبنا انك شخص لا يقرأ الروايات، اذهب الآن وستراها تتصدر البحث على الإنترنت." قال الرئيس أوه وهو يقف ليذهب لمكان ما.

اسرع ليتصفح الشبكة عندما وجد رواية "رصاصة همنغواي | هان كيونغ سو" قد تصدرت البحث، فتح الصفحة الأولى التي كتب في مقدمتها "الكتابة قد تبدو سهلة غيّر أنها في الواقع أشقّ الأعمال في هذا العالم."

لقد نُشِرت روايته الأخيرة خالية من توقيعه، كانت مبهمة وغريبة تفتقد الكثير من الحياة، كأن كاتبها تخلى عنها عندما أعلن للعالم استسلامه، وذهب الى مكان بعيد لا يعرفه فيه احد، لن يضطر للإبتسام مرة أُخرى مجبرًا، أو يلاطف أُناس لم يكن يستهويهم، ربما كان ذلك الحل الأفضل ليعلن في قرارة نفسه النصر.

بعدما قرأ تلك الكلمات شعر انها رسالة انتحار حقًا لا سيما عنوان الرواية التي لن يخفى على احد فهمه وظن انه قد عانى بعض الصعوبات النفسية التي دفعته لسلب حياته، لكن مين كي كان قلقلًا وغير واثق من ذلك لم يكن يريد أن يذهب موته سُدًى ويبقى مجرد اسم بلا انتماء او ربوة تحتضن بعض الزهور، كان يسعى ان يوصل قصته إلى العالم أجمع، ذلك الشخص الذي بعد موته أصبح الجميع يحبه فجأة ويتمنون عودته، لقد عاشَ وحيدًا يكابد نفسه وحروبها المتأزمة حتى أوجد النهاية بنفسه.

كان يجلس في سيارته حتى تناول هاتفه الذي كان يرّن لأكثر من ساعة "حسنًا سآتي في الحال." قال مين كي بينما يدير محرك السيارة ومتوجه نحو المشرحة للقاء صديقه الطبيب الذي أراد إعلامه عن شيء يخص القضية التي تم اغلاقها هذا الصباح.

توجه نحو مكتبه وطلب منه الكلام في كل التفاصيل من غير ان ينسَ حرفًا "في الحقيقة لقد استغربت عندما سمعت ان القضية قد أُغلقت، لذا هناك شيء لم أُعلمكَ به من قبل لكن ربما سيكون مفيدًا لك، خلال التشريح تبيّن ان الضحية قد اخذ الكوكايين بطريقتين الاولى عن طريق فمه والاخرى بواسطة الحقن، كما أن هناك خدش في وجهه وبعض الكدمات وكأنه شخص كان يقاوم." قال الطبيب للمحقق لي الذي اشتاط غضبًا لإخفائه لمثل هذه المعلومات ووقف ليخرج ويكمل بحثه في القضية وإن أُغلقت فلن يتركها حتى يجد الحقيقة فصاح الطبيب فيه "مين كي بعض أطباء النفس يستخدمون المواد المخدرة كالكوكايين والمورفين في علاج مرضاهم لذا تأكد فيما إذا كان يعاني من الاكتئاب."

انطلق مسرعًا نحو سيارته، ركبها واخرج هاتفه من سترته ليتصل بتلك الشاهدة التي ستكون مفتاح لحل اللغز. 

_______________________
*رصاصة همنغواي، هي رصاصة مشهورة للبندقية التي أقدم الكاتب والروائي الأمريكي "أرنست همنغواي" على الانتحار بها في 2 يوليو 1961.

وراء السطورحيث تعيش القصص. اكتشف الآن