كانت جالسة على أريكة صغيرة وسط غرفتها التي كست جدرانها صور ذلك الشخص بينما تمسك في يديها كتابه الأخير ممتعقة الوجه وعيونها تكاد ان تنفجر بسيّل دافق من الدموع، تقرأ كل حرف تركه بعده، كل جملة علقت بمعنى يكاد أن يوصل جزء من حياته الصعبة المخفيّة، كانت وحدها من تعرفه، كيف يقضي يومه الكئيب وتصنعهُ السعادة في حين أن جزء منه ميّت لا يعرف المعنى الحرفي للعيّش، وبينما كانت تتخبط رسالته الأخيرة اخرجها من تلك الرحلة المظلمة صوت رنين هاتفها، رفعته بتوجس وقالت "مرحبًا، من المتكلم؟".
على الجانب الآخر كان مين كي يضع هاتفه على أُذنيه وينبض قلبه مع كل رنّة لم يُرفع بها الهاتف على الخط الثاني، كان يفكر انها ستكون المفتاح الوحيد لموت ذلك الشاب، تبخرت افكاره حينما سمع صوتها فقال بتوتر "آنسة هاي سو، إنه انا المحقق لي مين كي، إن لم تمانعي اريد لقائك بشكل مستعجل بسبب بعض الأمور المتعلقة بالقضية."
أَغلقت الخط ووقفت لتجهز نفسها للقاء المحقق الذي بدا على صوته القلق فقالت في نفسها "لربما عثر على شيء جديد خلافًا لما ذكرته وسائل الإعلام." بينما كانت تهم بالخروج لمحت الكتاب التي كانت قد تركت قصته عالقة في المنتصف سحبته ودسته في حقيبتها وكأنه وسيلتها الوحيدة للتخلص من الشعور بالوحدة وهي تستشعر الاحاسيس الأخيرة التي دفنها كاتبها المفضل في نتاجه الأخير الذي يحاكي به العالم وبؤسه.
جلس في أحد المقاهي المجاورة لمبنى هانويل في حي غانغنام ودفتره الصغير قامع أمامه على الطاولة المستديرة بإنتظار الشخص الذي سيملي الكرسي الآخر والفراغ المتشبث بنهاية كل فكرة تطأ باب عقله، ادار ناظريه نحو النافذة ولمح ظل تلك الفتاة ذات الجسد النحيل يتقدم نحوه.
وقف مُرحبًا بها وطلب كوبين من الأمريكانو عندما قالت بصوت متلهف "سيدي ما سبب طلبك لرؤيتي؟".
تنهد مين كي وقال "آنستي آسف حقًا لما سأطلبه منكِ لكن إن صدقت توقعاتي ستكونين مفتاح الحل لهذه القضية."
نظرت بعينيّه مطولًا وردتّ "إذن ما أظنه صحيح، إنه لم ينتحر؟".هزَّ رأسه بإيجاب وطلب منها أن ترافقه لمسرح الجريمة وهمّا بالخروج بعدما شرح لها بعض التفاصيل التي أطّلعه عليها الطبيب الشرعي.
دخلا شِقة ذلك الغريب حيث ستبدأ رحلة البحث الجديدة التي يقودها محقق يثق بغريزته وامرأة تظن أن كشف الحقيقة واجب يخصها، تفحص مين كي ذات الأماكن التي سبق وافترسها بعينيه ولم يجد شيء غيّر ان كل حاجياته وذكرياته لا تزال كما كانت مكتبه الممتلأ بالأوراق والمسودات، كتبه التي افترش بعضها الارض، اريكته السوداء والمنضدة الخشبية التي حُفِر عليها اسمه، زهوره قد ذبلت معه وانهت قصتها بموته لتعانقه في قبره لعلها تخفف من وطأ الوحدة التي ربما ستنتابه هناك، بينما اتجه المحقق نحو الشرفة لعله يكتشف شيء جديد لم يلحظه من قبل كانت هاي سو تتجه نحو النبات الذي وضِع عند الباب وقد ذبل وجفت تربته، سارعت إلى المطبخ لتسقيه فلاحظت ارتفاع التربة المتيبسة بشكل غريب ومن غير دراية جذبت جزء من النبات حتى اخذته بيديها الناعمتين فانكشف عن وجود علبة بيضاء خاوية من أية ملصق بدت وكأنها علبة دواء معيّن، سارعت لمناداة المحقق لي الذي استجاب بسرعة ومن غيّر تفكير.
تلمسها من خلف قفازه المطاطي وفتحها فكانت تحوي بعض الحبوب التي ظنّ انها المادة المخدرة التي استخدمها لموته لكن الشك ظلَّ يساوره فأين سيجد المادة التي حُقِن فيها!
بحثا مطولًا فلم يكن نتاج ذلك غيّر تلك العلبة الصغيرة القامعة وسط كومة التراب، اتصل مين كي بصديق يعرفه وطلب منه تحليل المادة التي سيرسلها إليه ثم خرج مع هاي سو الشقة بكل ما تحمل من آلام وغربة الضحية.
ودَّع هاي سو وأعلمها ان بمجرد معرفته نتائج التحليل ربما سيحتاجها ايضًا واتجه نحو القسم.
وقف الرئيس حامِقًا بكل مشاعر الغضب وهو يوبخ مين كي وقال بينما ركله في ساقه "إلى متى سأُظل انظف برازكَ أيها الوغد؟ أخبرتك ان القضية قد أُغلقت وهذا الأمر قد صدر من النيابة العامة فلماذا تصّر على استكمالها! هل تظن أن ذلك سيرفع من مرتبك ام ماذا اخبرني؟"
أخرج مين كي هويته ووضعها على مكتب رئيسه وقال بكل هدوء "حسنًا انا أستقيل، لكن ليكن بعلمك ان ذلك الشاب مات مقتولًا ولن اترك قضيته حتى أجد الجاني وأُسلمه للعدالة، هذه هويتي عندك فلا اريد ان اجلب العار للقسم بتصرفي غيّر القانوني."
كان الرئيس يعرف المحقق مين كي مذ كان طفلًا فقد تكفل في رعايته عندما ماتَ والده الذي كان صديقًا مقربًا إليه لذلك تحركت فيه بعض المشاعر وقال بصوت غزته نبرة حانية "فقط تأكد من انك ستجد الجاني وهويتك ستعود إليك."
ابتسم مين كي وانحنى إليه امتنانًا ثم غادر المركز وهو يجر أفكاره وينتظر بفارغ الصبر نتائج التحليل التي طلبها ليستكمل البحث ويجد القطعة الناقصة في اللعبة.
أنت تقرأ
وراء السطور
Gizem / Gerilim"إن الكتابة تبدو سهلة غيّر انها في الواقع أشقّ الأعمال في هذا العالم." __ أرنست همنغواي.