البداية

113 3 1
                                    


بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد

لابدّ لنا قبل البدء بسرد الذكريات، من أن نصحِّح مفهوم المراهقة في ذهنك وذهن الكثير من المراهقين، أو حتّى من البالغين الذين تبدو المراهقة مشوّهة ومشوّشة في أذهانهم، فالبعض ينظر إليها على أنّها (سُبّة) أو (لعنة) أو (منقصة) أو (مرضاً)، حتى إذا أراد البعض أن يستخفّ من شخص غير متّزن، قال: "دعه، فإنّه مراهق"!

    المراهق إنسانٌ سويّ في طريقه أشواط ومراحل يتعيّن عليه أن يقطعها، فهو ينتقل من مرحلة إلى مرحلة.. إنّه كالمسافر في القطار يغادر محطّةً ما إلى محطّةٍ ثانية وصولاً إلى مقصده، وما من مسافر إلا ويحتاج المرور بمحطّات.

    والمراهق الذي لم يعد طفلاً، يترك طفولته بهدوء وبالتدريج، غير ناسٍ لأيّام لهوها ومتعتها وطمأنينتها وذكرياتها الجميلة.. إنّه كفتى يخطو نحو (الرّجل) وكفتاة نحو (المرأة).. وليس هناك مَن يتوقّف في محطّة واحدة إلا المتخلِّفين عقليّاً.

    والمراهق – بعد ذلك – إنسانٌ نبيل، محبّ للخير، طيِّب القلب، رقيق المشاعر، مليء بالطاقة.. ينتقل من (منطقة باردة) إلى أخرى (ساخنة).. يحتاج خلال فترة الانتقال إلى التكيّف مع الأجواء الجديدة.

    والمراهق – إذا التّشبيه – كالعضو الجديد في المؤسّسة القديمة.. لابدّ للأعضاء القدامى من أن يستقبلوه بحفاوة، فيحتضنوا فتوّته، ويأخذوا بيده ويُعلِّموه ما لم يعلم، ويرتقوا به على مراق السلّم..

    ومن جانبه، يحاول أن يُثبت – لمن سبقه – وجوده وكفاءته وجدارته، بالانتماء إلى المؤسّسة العريقة، وبالتالي فترحيب المؤسّسة بالمراهق على أنّه واحد منها، واستعداد المراهق للإندكاك في المؤسّسة، سبب مهم من أسباب المراهقة السويّة، وبُشرى طيِّبة لبناء المجتمع الصالح.

    إنّ أهل الجنّة عند الدخول إليها سيعيشون جوّاً جديداً عليهم.. هم حديثو عهد به، فلأوّل مرّة يتعاملون مع الملائكة وجهاً لوجهٍ، ولكنّ الملائكة – سكّان السّماء – سوف لن يتعالوا على أهل الجنّة – سكّان الأرض – بل يتلقّونهم بالتحيّة والسّلام ويشعروهم أنّهم أسرة واحدة، وأنّهم آمنون.

    أخيراً، المراهق – على عكس المتصوّر – ليس مريضاً يحتاج إلى طبيب، بل هو إنسان قليل الخبرة والتجربة(*) يريد أن ينمِّي خبرته ويطوِّر تجربته حتى يعبر (مرحلة التحضير) إلى (مرحلة المشاركة).

 

    وقد يبدو المراهق – كما يظهر من تصرّفاته – في غنى عن المساعدة لشعوره أنّه لم يعد طفلاً، وأنّه قادر على الاعتماد على نفسه، ولكنّه – في حقيقة الأمر – يحتاج إلى المساعدة (المطلوبة) لا (المفروضة).. لقد قويت قدماه وهو قادر على المشي لمسافات طويلة، فلا يحتاج إلى مَنْ يُمسِك بيده ليعلِّمه المشي، لكنّه يحتاج إلى مَن يُعرِّفه الطريق!

    بمعنى: إنّه بحاجة إلى المُربِّي العطوف، والمُعلِّم المخلص، والمُستشار الرحيم، والنّاصح المُشفق، لا إلى الذي يصدر عليه الأوامر ويُلقي عليه النواهي، إنّه ليس لوحة أزرار يُضغط عليها ويُنتظر منها أن تُلبِّي الأوامر.

    المراهق- باختصار شديد – (زميل) جديد لعالم الرِّجال، أو (زميلة) جديدة لعالم النِّساء، ومن حكمة الزملاء القدامى أن لا يُشعروا الزميل الجديد بالفوارق الكثيرة بينه وبينهم، لنتركه هو يشعر بها شخصياً يتحسّس مدى حاجته إلى استكمال نواقصه حتى يبلغ مرحلة العضوية الكاملة.

        حينما تبتعد عن مرحلة من مراحل عمرك، يمكنك أن تنظر إليها بشكل أوضح.. تكون عندها كأنّك تشاهد فيلماً عن شخص آخر وإن كان الفيلم من بطولتك أنت، وأقول آخر لأنّك وإن كان الفيلم من بطولتك أنت، وأقول آخر لأنّك تكون قد غادرته إلى مرحلة أخرى أكثر نضجاً، فيكون ذلك الذي كُنتَهُ في سنِّ الـ(12) وكأنّه غير الذي أصبحته في سن الـ(20)، وهكذا تتغيّر المراحل كما تتغيّر النظرة إلى الحياة بمقدار ما تكتسب فيها من علم ومعرفة وخبرات وتجارب وأخطاء وتصحيح لتلك الأخطاء.

        وقد تضحك اليوم ممّا كنتَ تراهُ بالأمس عدا أنّه (الحقيقة) وأنّه (الثابت) الذي لا يتغيّر.. وضحكة اليوم أو ضحكة النّضج التي تجعلك تتراجع أو تنقد بعض ما كنتَ تفعله حينها، هي (ضحكة الوقار) وليست ضحكة استخفافية؛ لأنّها تجعلك تبتسم للحاضر الذي يُمثِّلك وتحمد الله على أنّك لم تبقَ على ما أنتَ عليه من طفولة.

        تلك هي قصّتنا – نحن المراهقين – إلا الذي بقي يراوح في مكانه طويلاً، أي لم يستفد من سنوات عمره اللاحقة ليطوِّر (معدن المراهقة) إلى (صناعة إنسانية). فالحديد في باطن الأرض لو لم يُستخرج، ويؤخذ إلى المصاهر ليُصهر وتُصنع منه الآلات والأدوات النّافعة والمفيدة، يبقى كما هو حديد في مادّته الأوّلية حتى لو نامَ تحت الأرض سنين طويلة، فلابدّ لمادّتنا الأوّلية من أن تتطوّر.

 

        إنّ الأسرة والتعليم وعقل الإنسان نفسه، تساعده على أن لا يبقى (مادّة أوّلية)، بل تحوّل (حديده) و(ذهبه) و(ماسه) وسائر معادنه الثمينة والنفسية إلى منتجات حياتية نافعة، فكلّ مولود جديد.. ومراهق جديد.. وشاب جديد.. إضافة نوعيّة إلى الحياة.

    ---------------------------------

الحمد لله
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد
     ---------------------------------

✒يتبع...

مذكرات مراهق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن