بسم الله الرحمن الرحيم
إ اللهم صل على محمد وعلى آل محمدغير أنّ خالي الذي كان بمثابة صديقي المُقرّب – على الرغم من تفاوت العمر بيننا – كان يحاول أن يفهمني بغير الطريقة التي تتحدّث أمِّي بها معي. ففي الوقت الذي كان يؤيِّد مواقفها ويُبرِّرها لي، كان يُقنعني بطريقة لبقة أن ليس من مصلحتي امتلاك كلّ شيء، لأنّه ليس هناك شخص يمتلك كل ما يريد، وأنّ (حرماني) من بعض الأشياء قد يجعل ما تحت يدي عزيزاً.. كان يقول لي: إنّ اقتناء الأشياء بأوقات سريعة واستبدالها بغيرها يُفقدها لذّتها، وحينما يجدني مصرّاً، يقول لي ملاطفاً: وهل تريد أن تشتري مخزن الألعاب كله؟!
من خالي هذا تعلّمتُ أن لا أقارن نفسي بغيري والشبّان والمراهقين، فلكلِّ إنسان ظروفه وإمكاناته.. كنتُ أقول له: فلان وفلان من أصدقائي يملكون أكثر ممّا أملك، فكان يُقرِّب لي الفكرة بزملاء الفصل ويسألني: هل كلّهم متساوون؟ فأقول: لا، فيقول هكذا في الأمور الأخرى.
وكان يُشدِّد اللّهجة أحياناً فيقول بأنِّي لستُ الوحيد في حياة أبويَّ.. هناك أختي.. وهناك احتياجات البيت الأساسية، لا تفكِّر بحاجاتك وتنسى حاجات الأسرة!
في تلك الأيام بدأتُ أنفر كلمة (إفعل هذا) و(لا تفعل هذا)، فأشعر بأيِّ أمر حتى لو كان خفيفاً بأنّه ثقيل عليَّ، أو بالأحرى كنتُ أستثقله، وكان أبي يلاحظ ذلك، فقد بتّ أرفض الذهاب إلى بقّال المحلّة للتبضّع وشراء بعض المُستلزمات المنزلية، أو حتى الذهاب إلى زيارة بعض الأقرباء، أو أن يقول لي (قُم صلِّ).. أو اترك التلفاز واعمل واجباتك.. اقفل الكومبيوتر..
ومع تغيّر طبعي واشتداد عنادي، تمكّن أبي أن يُغيِّر لهجته، فراح يلزمنا ببعض الأعمال ولكن بصورة غير مباشرة، كأن يقول لي: أنا اليوم مشغول، هل لك أن تساعد ماما في عمل كذا؟ أو سأشتري الأشياء الفلانيّة، فساعدني في شراء الباقي، وقد يصيغ طلبه على نحو الاستشارة: ما رأيك أن نفعل ذلك غداً، واستبدل (قُم صلِّ) بـ(لا تنسَ صلاتك يا ولدي).. كلّ ذلك أشعرني بأنّ أبي يعتبرني وكيله أو مساعده وأنّه يتعامل معي بمساواة، وعلى الرغم من التغيير في أسلوب أبي والتخفيف من وقع الطلبات المباشرة، كنتُ أتذمّر أحياناً حتى من هذا الأسلوب.
وقد لاحظَ جدِّ ذلك، فقال لي – وكان يُحدِّثني دائماً على انفراد – إن أباكَ يستطيع أن يفعل بعض ما يأمركَ به بنفسه على الرغم من متاعبه ومشاغله، لكنّك أنتَ المستفيد من هذه التكاليف، إنّ أباكَ يريد أن يراكَ رجلاً معتمداً على نفسه.. أنتَ غداً ستكون صاحب أسرة، فإذا تعلّمتَ من الآن القيام ببعض واجباتها، ساعدكَ ذلك على أن تكون ربّ أسرة ناجحاً، وأحياناً لا يذهب بعيداً، بل يقول لي: إذا كنتَ تضجر من الطلبات والأوامر، فأنا أقترح عليكَ أن تعالج الأمر بالمبادرة.. اعرض على أبويك الخدمة، قُلْ منهما: هل عندكَ ما تحبّ أن أساعدك به، فذلك أطيب لنفسيهما وأهون على نفسك.
أمّا إذا رآني أكثر الجدال في الموضوع فيحسمه بقوله: هل تريد أن يرضى الله عنك؟ فأجيبه: نعم، بالتأكيد، فيقول: المسألة بسيطة.. حاول أن تُرضي والديك!
وهنا أحبّ أن أؤكِّد على ما قد يُساء فهمه، فأنا وإن كنتُ عنيداً، لكنني أستجيب للمنطق المُقنع، وما مجادلاتي إلا للتهرّب، وما كلمات جدِّي أو خالي بالتي تدخل من أذن فتخرج من الأخرى.. إنّها تتفاعل (تفاعلاً) كيمياوياً مع مشاعري، وكم من أمر رفضته ظاهرياً، لكنني كنتُ أستجيب له واقعياً عندما أتذكّر تلك الكلمات الصادرة عن قلوب تحبّني وتريد لي الخير.
الآن أشعر بشعور قويّ، أنّنا حتّى وإن كبرنا نبقى بحاجة إلى مَن يأخذ بأيدينا، كما كنّا صغاراً، ولكن هذه المرّة بكلماته الطيِّبة وحنانه الفائض.
ولأنّني شاب مراهق يعيش متطلّبات عصره، كنتُ كثيراً ما أصطدم بأمِّي وأبي في شؤون صغيرة لكنّها كانت تبدو في وقتها كبيرة، فأنا مثلاً من (أنصار الجديد) وامِّي وأبي من (أنصار القديم) أو هكذا كان يُخيّل إليَّ في وقتها.. كان لي ذوق خاص في اختيار ملابسي، وقصّة شعري، ومشترياتي، ومشاهداتي، وقراءاتي، وكانوا يرون بعض ما أفعله مخالفاً للذّوق العام، وكنتُ أرى أنه هو الذوق، ولم يكونا يجبراني على تغييره، إنّما يطرحان وجهة نظرهما، وربّما قسوتُ عليهما بالقول (أنتم عقليّة قديمة).. وكانا – للحقِّ – يستقبلان نقدي برحابة صدر، أو بعدم إظهار ردّ فعل سلبي إزاء ما أصنع.. كنتُ أدافع عن جديدي أو عن اختياري حتّى ولو كان مرفوضاً من قِبَلِهما، فقط بأنني كنتُ أتصور أنّ رفضهما من باب المناكدة لي والتّضييق على حرِّيتي.
سمعني خالي ذات يوم وأنا أصف أبي بأنّه ذو عقلية قديمة...........
---------------------------
الحمد لله
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد
-------------------------✒يتبع....
أنت تقرأ
مذكرات مراهق
ChickLitروايه من بين طيات أفكاري ومن بين الحاضر و الماضي التمس من ذلك العالم ذكرياتي ذكريات مراهق