بدأت المحاكمة في تمام الساعة الحادية عشرة صباحا. وذهبت الأسرة بأكملها إلى المحاكمة.
ذهب أبي وإليزابيث كي يشهدا في المحكمة أن جاستين إنسانة بارة، أما أنا وإيرنست فقد اقتصر دورنا على المؤازرة.
فاضت نفسي بالغضب والندم؛ إذ كان يجدر بجاستين أن تحيا حياة طيبة، فهي إنسانة مخلصة وبارة، وما كان يجدر أن تخضع لمحاكمة بتهمة القتل!
غير أنني لم أستطع أن أخبر أي شخص بما أعرفه، فقد يظنونني مختل العقل، ويعزلونني بقية حياتي. وأي نفع سيعود من وراء هذا؟
جلست جاستين في قفص الإتهام، وبدت شاحبة لكن هادئة، وانهمرت الدموع على وجنتيها لدى رؤيتها أسرتي تدخل قاعة المحكمة.
طلب حاجب المحكمة من الحضور أن يلتزموا النظام وأعلن بدء المحاكمة.
اجتمعت الأدلة ضد الفتاة المسكينة.
ذكر الإدعاء أنها قضت الليل كله بالخارج، وذكرت إحدى البائعات في السوق أنها شاهدتها باكراً في الصباح التالي في مكان قريب من البقعة التي
ُعثر فيها على جثة ويليام.
وسألت المرأة جاستني ماذا تفعل، لكن كل ما حصلت عليه هو إجابة مشوشة.
أما أقوى دليل ملموس ضدها فهو واقعة عثور الخادمة على القلادة المفقودة في ملابس جاستين.
ًدعا القاضي جاستين لتدافع عن نفسها، فكان صوتها واضحا، لكن كان من الجلي أنها مرتبكة أيما ارتباك.
ًقالت: «إنني بريئة تماماً. أعرف أنني أستطيع أن أقولها جهاراً، لكنكم لن تصدقوني. وسمعتي الطيبة يجب أن تكون دليلاً أيضا.»
أخبرت جاستين القاضي أن إليزابيث سمحت لها بزيارة عمتها يوم مقتل أخي.
وفي طريق عودتها إلى جنيف التقت برجل سألها هل رأت صبيٍّا صغيراً مفقوداً. وعندما أدركت جاستين أنه ويليام الذي لم يمكن العثور عليه، انضمت إلى فريق البحث، وعلى مدار الساعات القليلة التالية بحثت في كل أنحاء الغابة عن أخي.
ومضت جاستين في حديثها مخبرة المحكمة بأنها توقفت أخيراً عن بحثها في وقت متأخر للغاية. وفي ذلك الحين كانت المدينة قد أغلقت أبوابها، ولم تعرف جاستين ماذا تفعل، لذا طلبت بلطف من رجل كبير أن تنام في مخزن الحبوب الخاص به.
قضت ليلة باردة مرعبة مستلقية على بعض القش في مخزن الحبوب بالقرب من المدينة. وكانت أي ضوضاء حولها توقظها لذا لم تنم إلا وقتًا ضئيلاً للغاية. وعندما التقت بالبائعة كانت مضطربة لأنها لم تنم. ولو أنها كانت تسير بالقرب من البقعة التي عثر فيها على ويليام، فهي لم تفعل هذا عمدا.
وماذا عن القلادة؟
قالت جاستين وهي تبكي إنها لم تعرف كيف وصلت إلى جيبها. كان هذا هو الشيء الوحيد الذي لم
تستطع تفسيره.
بعدئذ تحدث كثيرون من أهل البلدة. كثيرون منهم يعرفون أن جاستين إنسانة صالحة، لكنهم يصدقون الدليل. رأوا أنها كانت مذنبة.
وأخبر والدي هيئة المحكمة كيف أحسنت جاستين خدمة أسرتنا. وبعد ذلك استدعت هيئة المحكمة إليزابيث إلى منصة الشهادة، وأخبرت إليزابيث المحكمة أنه لا يمكن أن تفعل جاستين أي شيء يؤذي الأطفال الذين تربيهم.
أقسمت إليزابيث قائلة: «إنها بريئة تماما.»
حركت كلمات إليزابيث كثريين من الحضور. ونظرت جاستين في امتنان لكلماتها الطيبة وعلت وجهها أمارات الشجاعة. غير أن القاضي لم يبد مقتنعا على الإطلاق.
وأدلت هيئة المحلفين بأصواتها وانتظرنا بصبر عد الأصوات.
عاد حاجب المحكمة إلى قاعة المحكمة وأعلن أن جاستين مذنبة!
شعرت باليأس الشديد، وحكم على جاستين أن تقضي بقية عمرها في السجن.
انهارت إليزابيث إلى جانبي وأجهشت بالبكاء. ولم أدخر جهدا كي أواسيها على الرغم من الألم الذي يجيش بصدري.
ّكان كل هذا خطئي أنا! ويدي - ليس سواها - هي التي صنعت هذا المسخ. ولم أستطع أن أوقف ذهني عن تقليب هذه الذكريات البشعة مراراً وتكرارا.
ماذا لو لم تكن هذه الحادثة هي آخر الأفعال الشريرة التي يرتكبها المسخ؟ ماذا لو أن ويليام وجاستين
هما أول ضحاياه؟
أنا حي طليق وأخي ميت وجاستين في السجن. ما من شيء من شأنه أن يزيل الألم الذي يجيش في نفسي؛ فرغبتي العمياء في الوصول إلى اكتشاف عظيم كان ثمنها غاليًا للغاية.
وبدلاً من أن أجد أملا في عملي، لا أشعر بشيء الآن سوى الحزن.
ًتركت أحداث الأسابيع القليلة الماضية آثارها السيئة على جسدي الواهن أصلا. ولم يستطع شيء أن يفصلني عن حزني العميق سوى حديث طويل مع أبي.
ًقال أبي بعد ظهر أحد الأيام عندما رآني جالسا في أحد الأركان أحدق عبر النافذة: «يا بني، لم يحب أحد طفله بالقدر الذي أحببت به أخاك، لكننا لا يمكن أن نقضي كل أيامنا نحدق في جمود عبر النافذة. كلنا حزانى. ينبغي أن تكون نافعا لكل من جاستين وأخيك، فبدون هذا لن ينفع أي رجل مجتمعه.»
كان أبي على حق، لكن كلماته لم تعن الكثير لي.
قررنا أن نقضي بعض الوقت في منزلنا الصيفي في بيليريف،
إذ كان غلق أبواب المدينة في وقت مبكر من المساء يشعرني بأنني حبيس. وسعدت بوجودي في الريف
وبالقدرة على التجوال بحرية.
كنت أترك المنزل معظم الليالي وأفراد أسرتي نائمون. كنت آخذ القارب وأقضي ساعات عديدة في الماء. أحياناً كنت أترك الشراع مرفوعا وأشق طريقي بوجهة معينة ، لكنني في معظم الأحيان كنت أترك المياه لتحمل القارب إلى حيث تشاء، وأستلقي في قاعه وأحدق في النجوم، فكان جمال السماء البسيط يحملني على البكاء. كنت أبكي بصوت مرتفع عالماً أنه ما من أحد سيسمعني أو يراني سوى الضفادع والأسماك.
عشت في خوف طيلة الوقت لمعرفتي أن المسخ لا يزال على قيد الحياة. ماذا لو فعل
ًشيئا آخر؟ كيف سأحترم ذاتي؟ ماذا لو آذى شخصا آخر أحبه؟
أثارت هذه الفكرة غضبي بشدة فصررت بأسناني وصرخت بأعلى صوتي.
في تلك اللحظات كل ما كان يشغلني هو حرمان ذلك المسخ من الحياة التي وهبته إياها. لو استطعت أن أعيد عالمي إلى الحالة التي كان عليها قبل أن أجري تجاربي، لعلي كنت أستطيع أن أصلح الأمور مرة أخرى. كانت الأفكار التي تشغلني حينها أفكارا
شريرة. لكن أيهما أسوأ؟ صنعه أم قتله لمنع وقوع المزيد من الأمور السيئة؟
لقد كانت معضلة أخلاقية من الدرجة الأولى.
كان كل فرد في بيتنا حزينًا. وحاول أبي أن يبدو قويا متماسكا، لكن جميعنا كان يدرك أنه لم يعد كما كان. وكادت إليزابيث تبكي كل يوم تقريبًا. وحاولت من أجلهما أن أكون قويٍّا من الخارج وأن أخفي ألمي الداخلي.
وفي خضم حزننا العميق غادر أخي إيرنست، وتمنينا له حظا سعيدا في عمله الدبلوماسي. كم كان غريبًا أن الحياة تكرر نفسها؛ فمنذ سنوات قليلة فحسب غادرت منزلنا بعدما فقدنا أمي، وها هو إيرنست يرحل الآن بعد فقدان شخص آخر من العائلة
مباشرة.
وفي يوم من الأيام جلست أنا وإليزابيث نتحدث وأخبرتني أنها منزعجة لما آلت إليه الأمور. قالت لي: «إن المصير الذي حل بالمسكينة جاستين يجعلني أرى العالم مكانا سيئا. كانت الأمور السيئة تحدث قبلا في الكتب فحسب، والآن حياتنا مليئة بالحزن. لقد كانت جاستين بريئة، لكنها سجنت. هل هذا عدل؟»
آه يا حبيبتي إليزابيث! لقد كان يسوءني بشدة أن أراها بهذا الانزعاج، وكنت أنا السبب في كل هذه المشكلات، ليس لأنني من تسبب فيها بالفعل، ولكن لأنني من صنع المسخ. اصفر وجهي، ولاحظت إليزابيث شحوب وجهي.
أمسكت بيدي وقالت: «أنا آسفة يا حبيبي. لم أقصد أن أزعجك.»
ثم ضغطت على يدي بقوة وقالت: «سيكون كل شيء على ما يرام. ربما ليس اليوم، لكن قريبًا. أعدك بهذا.»
ابتسمت لها برقة، لكنني لم أشعر بأي تحسن، إذ كنت أدرك في عقلي أن الأمر لن ينتهي قريبًا.
قلت لها: «معذرة يا إليزابيث، أريد أن أكون بمفردي الآن.»
ثم نهضت من الأريكة واتجهت إلى غرفتي. لقد أردت أن أخبرها الحقيقة، وأشرح لها أن كل ما حدث هو خطأ مني، لكنني لم أستطع أن أجبر نفسي على فعل ذلك.
وبعد ساعات قررت أن السبيل الوحيد إلى راحتي هو القيام بنزهة طويلة عبر جبال الألب.
ربما لو قمت برحلة أخرى كتلك التي قمت بها أنا وهنري أستطيع أن أتغلب على تأملي ملما حل لويليام وجاستين المسكينين.
أنت تقرأ
فرانكنشتاين أو برومثيوس العصر
Fantasíaرواية فرانكنشتاين أو بروميثيوس العصر . ( 1818). للكاتبة ماري شيلي . تحكي القصة عن الفتى الطموح الشغوف بالعلم 《 فيكتور فرانكنشتاين 》 الذي تحول طموحه الى هوس وجنون بأن يصنع بشراً فما كان منه الا أن صنع مسخاً غاية في القبح ، لتتحول حياته بعدئذ الى جحيم...