4.مجنونٌ

189 16 18
                                    

خُلقت الدُنيا دار زوال، ومحل قلقٍ وانتقال، وجُعِلَ أهلُها فيها غرضاً للفناء، ومُقاساةَ الشدة والبلاء، فشيبت حياتنا فيها بالموت، وبقاءنا بحسرة الفوت، وجُعِلت أوصافنا فيها مُتضادة، فقُرِنت قوتنا بالضعف، وقدرتنا بالعجز، وشبابنا بالمشيب، وعزنا بالذل، وغنانا بالفقر، وصحتنا بالسقم، وأُحِلّت لنا الطيبات وحرِّمت علينا الخبائث، فما كان منّا إلا أن اتبعنا ما يفعله سائر العَالَمين ونسينا ما جعلنا الله بهِ عَالِمين، هَوِينا فهَوَينا، وأتبعنا النجوى بالمناجاةِ لننجو.
لم أعلم قط أنني في سلامةٍ مشوبةٍ بداء، وعافيةٍ داعيةٍ إلى فناء! فأنا في هدم عمري مذ سقطت من بطن أمي، وكم أحبَّ بنو آدم البقاء رغم أنهم على ثقةٍ بأن البقاء فناء، فزيادته في أجسامنا نقصٌ لحياتنا، وليس على نقص الحياة نماء.
شاب عقلي بالجنون، ولطالما كان المجنون عند الناس هو من يخالفهم في عاداتهم فيجيء بما ينكرون، ورغم علمهم بمن أكون فهم ساخطون، أو.. هكذا يدّعون، ليُرفع عني سخطهم عليَّ أن آتي لهم بما يشتهون، أن أُصبح ما يتمنون، أبتعد عمن يكرهون، أرتدي ما يحبون، أسمع ما يقولون، أفعل ما يأمرون، أصبح عمري بأيديهم مرهون، وقلبي بين قضبان قصرهم مسجون، كالتماسيح ينوحون ويبكون، وبعد برهة يرقصون ويضحكون، مهما فعلتَ لا يشكرون، إذا استمر هذا الحال فاعلم أنك لن تكون، دعهم يصفوك بالجنون فأنت وحدك تعلم ما بداخلك مكمون، ومهما حاولوا انتزاعه منك سيفشلون، فإيمانك وأحلامك ورغباتك كنزٌ ثمينٌ بصحرائك مدفون، ولن يستطيع مسّه كائناً من يكون.
قلبك نَبضَ مرةً ولن ينبض أخرى، كن مجنوناً بل فق المجانينَ وعِش الهوى.

فاني

المُحسنات البديعية المُستخدمة:

١. طباق (حين يجتمع الكلام وعكسه).
٢.جناس تام وناقص (اتفاق كلمتين في اللفظ واختلافهما في المعنى، اختلف فيه اللفظان).
٣.السجع ( توافق الفاصلتين أو أكثر في الحرف الأخير).
٤.مراعاة النظير (الجمع بين الشيء وما يناسبه في المعنى بشرط ألا يكونا ضدين).
٥.الإلتفات (الإنتقال من ضمير إلى ضمير كالإنتقال من المخاطب للمتكلم او الغائب أو العكس).

علامات الفصل السابق: 37.5 (لسبب مجهول لا يعلمه إلا الله وفريق النقد العربي)

شكراً لدعمكم جميعاً و أتمنى من الذي ينتقدني أو تنتقدني أن تكتب لي أسباب نقدها لما تنقده حتى أُحسّن مستواي وتعم الفائدة.

خواطر الأنامل الفضيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن