الورقة الأولى

3.7K 53 5
                                    



2004م

_

يجلس متربعًا وأمارات الحنين جلية عليه، يناشد بقلبه أرواحَ أحبابه الراحلة، يشعر بأخيه يربت على كتفه كما فعل ليلته الأخيرة .. ليلة رحيله، حبيبته تبتسم وها هو كفها الرقيق يمسح على عينيه .. يعض شفته بألم مانعًا تأوده أن يخرج، تمتد كف له .. تتشابك مع كفه، تشد عليه بمؤازرة.. هي كف نجد لا محال، مذ كانا طفلين صغيرين يسيران معًا ليقطعا طريق المدرسة وهو يشد على كفه.. ينسى كفه في كف الآخر سنين طويلة حتى خالَها التصقت به ..
همس مبحوح " يُبـه! "
ترجع روحه له ولواقعها، تتسع بؤرته باحثًا عن أخيه الذي كان يجلس بجانبه يربت على كتفه، لا يجده .. عن حبيبته التي تمسح عينيه، لا يجدها ... عن نجد الذي يشد على كفه، ويجده ! ، نعم هذه كف نجد .. نجد لا أحد سواه، نجد الصغير، الذي سقط من رحم السماء قبل خمسة عشر عامًا إلى جوفه بعد ما جافاه أحباؤه .. تلمع عينا الصغير بانكسار لينزلها سريعًا ولا تزال كفه تشد على كفه " يلله يبه، تأخرنا .... "
ينهض وهو يحث أباه على النهوض، زفر الحزن عن قلبه ليقف معه .. يدرك تمامًا أن ابنه نجد يكره أن يراه بهذه الحالة وهذا الانكسار، لكنه لا يجد سوى " نجد " ليتخلى عن قوته ويرميها بعيدًا ويتعرى بآلامه أمامه، أليس من حق الأب أن يضعف؟ أن يبكي؟ أن يلفظ مشقة السنين أخيرًا في وجه أولاده؟ لا يعلم الجواب.. فهو لم يعش في حياة والده الذي مات وهو لا يزال جنينًا في بطن أمه ... أمه! على ذكرِ أمه راح يتلفت سريعًا عله يراها، لكنها معهم .. مع الراحلين.
يسير به نجد متقدمًا إياه وكأنه هو والده " نزور قبر خالي يبه؟ "
يهز رأسه إيجابًا وعيناه تضيع في الطريق، لا يحتاج أن يرفعها ليصل إلى وجهته، هو يدرك تمامًا عدد الخطوات التي تفصل قبر حبيبته عن قبر " خال نجد"، ليصله صوت الصغير من جديد هامسًا " يبه شوف ... "
ترتفع أنظاره ليظهر له من وراء نظارته ظلٌ أسود يرقد فوق ذلك القبر !
القبر الذي يرقد فيه الجسد الفارق في حياته، وحياة رفاقه، وحبيبته، وناصر، وطفليه.. أو أطفاله الثلاث والأربع، وجميع من تربطهم به الصلة !
مذ حلّ هذا الجسد ضيفًا على هذه المقبرة وموازين هذه الصحراء وما تحتويه من نخلٍ مالت..
هذا القبر هو جار قبر الغالي، ليس من العادة أن يرى زائرين له في مثل هذا اليوم، كل جمعة يرى شقيقه مع أبناء عمه فقط .. أما في ضحى الخميس، فهذه أول مرة .. وهذا الراقد فوق القبر، وصوت نحيبه يصل إليهم، من يكون؟ جسد ضئيل ليس كجسد موسى!
" يُبه! .. "
تنزل عيناه للصغير الكبير بجانبه ولا زال يشد على كفه " يبه أول مرة أشوف أحد يزوره! "
يهمس له " بلى، كل جمعة يجي أخوه"
هز رأسه بتفهم" اييييه، احنا ما نجي الجمعة "
يصمت قليلًا حتى يعود صوته " يُبه! "
" عينه .... "
يبتسم بزهو وهو الذي اعتاد على رد والده هذا إن أطال الحديث، وكأنه يثبت له عدم تململه من ثرثرته " تدوم لي هالعين ... - يعود الحديث الذي أثاره هذا الرجل الجاثي إلى نفسه، وبهمس يخشى أن يصله - يبه الرجال مسكين، حالته ترثى لها .. نروح ونرجع بعدين ولا نحرجه"
تنعقد حاجباه " لا .. بعرف منهو "
يفغر فاهه باندهاش من رد أبيه، اعتاد على كلمة والده دائمًا ( اتركوا عنكم اللقافة) ما باله اليوم يمارسها؟ .. لا يترك له مجالًا وها هو يسير به حتى يصلا إلى قبر خال نجد الملاصق للقبر الذي يجثو عليه رجلٌ ما وينتحب، يقفان على رأس القبر والرجل موليًا ظهره عنهما، تتسلل عينا نجد بحذر علّه يلمح الرجل، بينما يعلو صوت والده " الله يرحمه ويغفر له، والله يصبرك... كان نِعم الرجال"
لا رد .... ويبدو أن روح الرجل تعلّقت بروح (يوسف) صاحب القبر، يبتسم نجد وهو يذكر الرعب الذي عايشه لفترة طويلة كلما زار القبرين إثر الأسطورة التي حكاها (ثامر)، ثامر الذي يهوى إزعاجه وإزعاج أخيه .. كانوا جميعًا في المقبرة للزيارة، والده ابتعد ليلقي السلام على رفاقه وأساتذته في قبورهم، أما هو وأخوه يوسف كانا برفقة ثامر الذي يكبرهم سنًا أمام قبري (خاله نجد) وجاره (يوسف)، أخبرهم ثامر بخبث أن هذين القبرين هما قبريهما في المستقبل، وأنّ هذه الأجساد التي تقطن القبرين هي أجسادهما! وأن أرواحهما ميتة وما هما إلا جسدان حضرت من الماضي! ودليل ذلك أنهما يحملان ذات الاسمين. عاشا رعبًا مخيفًا طيلة فترة طويلة، إلى أن تجاوزها نجد .. أما يوسف ما زال يكره ويخشى زيارة المقبرة مذ كان صغيرًا حتى اللحظة.
تزيد التفاتة نجد رغبة منه برؤية وجه الرجل الغريب، إلا أن شماغ الرجل يغطيه متلثمًا به كأغلب الرجال في المقبرة، دائمًا يأبى الرجل الشرقي أن يظهر ضعفه وبكاءه، متلثمين أشمغتهم يدارون دمعهم حتى بين قبور أحبائهم!، تعود أنظاره إلى والده الذي يتمتم بالدعاء، يتبعه بحركته وهو يرفع كفيه " يارب .. يا سميع الدعاء .. ارحم خالي نجد واجمعه مع أمي ومع نبيك في الفردوس الأعلى .. يارب أنا ما أعرفه بس انت تعرفه وتعرف إن أبوي يحبه فاسمع دعاءه .. آمين "
ينهي دعاءه المعتاد بعجلة لتتحرك خطاه نحو الرجل بفضول شديد لتسبقه كف والده وهو يشد عليه ونظراته تنهره بشدة ...
يشعر بعطف شديد ونشيج الرجل يصله وصوته الحزين يتسلل له رغم همسه وتأتأته" يا دواي وروحي.. تعبت من الهجر! ، والله ما فيني أكمل وحدي يا يوسف... عمري راح وأنا باقي واقف انتظرك! ... - يزيد بكاؤه - يا يوسف، أنا فقدت نفسي ... وين قميصك يرد ليعقوب روحه؟ وين ريحك ترجع لي الحياة؟ ما عاد بقى لي أي نَفَس ..... - يحتضن نفسه ليلوذ ببكائه، ويهدّئ من نفسه ، يرفع رأسه من جديد ليناجي بصوت متأود- يارب، رد لي روحي .. ردها لي يا رب "
يشعر به نجد يوشك على الوقوف ليعتدل بوقفته سريعًا متظاهرًا بالدعاء لخاله، ليفتح عينيه بصدمة وهو لا يرى والده، ليخرج صوته بتلقائية " يبــه ؟؟؟ "
يلتفت عليه الرجل الملثم بتلقائية أكبر، وسرعان ما يبعد عينيه وهو يعدل شماغه إثر رؤيته لرجل قادم وبيده الماء..
أما نجد يهدأ اضطرابه وهو يرى والده قادمًا إليه وبيده قارورتي ماء، يزفر بشدة " يبه، لا تبعد ثاني مرة بدون ما تقولي! "
تتسع ابتسامة والده على أمره المتعالي، يهمس وهو يعطيه الماء " ابشر .... - يفتح القارورة ليبدأ بسقي قبر الخال، وباعتياد يأخذ نجد الماء ليلتف إلى قبر الجار يوسف ويسقيه بالماء، يصله صوت والده - راح ؟ "
يشير نجد نحو بوابة المقبرة " ايه هذا هو طالع "
ينتهي بسرعة من رش القبر ليمسك بكف نجد ويحث خطاه مسرعًا نحو البوابة، لا بد أن يعرف من خلف اللثام!، ولسرعة خطواته وبطء خطوات الملثم وتعثرها، يدركه أخيرًا ... يسير حذوه، وبحذر شديد يحاول أن يكشف ملامحه، لكن اللثام يعيقه، والنظارات السوداء كذلك..
" يا عم ... "
يفز والد نجد على صوته، بينما تتجمد خطوات الملثم وتتلعثم، تبدو الربكة جلية عليه ... وبحركة مفاجئة يزيد من سرعة خطواته وهو يحكم اللثام وكأنه لا يسمع، تنسل يدا نجد عن والده ليهرول بخفة " يا عم ... نسيت هذي عند قبر يوسف! "
تتوقف خطاه فجأة، ليدخل يديه في جيوبه مفتشًا عن شيء يخشى فقدانه ولا يزال موليًا ظهره عنهما، وكأن تماسًا أصابه يلتفت بسرعة ليجد ضالته الغالية بكف الصغير .. صورة صغيرة غير ملونة لشاب عشريني بابتسامة بيضاء، الصورة الوحيدة التي ما زالت تحفظ ملامحه وتفاصيله، يسحب الصورة بسرعة وفي جزء من الثانية تتعلق عيناه بالطفل الصغير لترتفع بتلقائية للرجل الواقف خلف الصغير يدقق بتوجس وخيفة...
جزء من الثانية تتوقف عنده الساعة، جزء من الثانية يشعر بأنفاسه تكاد تخرج من جوفه.. هو، ياسر! لا محال .. على الرغم من السنين التي فصلتهما عن بعضهما إلا أن هذه عينيه! لا يمكن لأي شخص أن يخطئ بعيني ياسر العذبة!
فجأة عاد إلى واقعه وصوت شقيقه يتردد في أذنيه "لا تقرب من الرياض ... - بس بزور قبر يوسف! - لا تفكر! انسى انسى المقبرة والرياض وكل محافظاتها... أكثر مكان أخاف عليك منه هو قبر يوسف! "
تنتابه رجفة شديدة ليُحكم لثامه وبتعثر أكبر يحث خطاه مسرعًا تاركًا خلفه الدنيا كلها.
تلعثم الملثم حجب عنه رؤية رجفة ياسر الذي سحب كف نجد بتلقائية وشدها إليه، تحت دهشة نجد الذي لا يعلم سبب حركة والده، رعشة مزلزلة أصابته من مظهر ذلك الرجل .. لن تكون هذه الرعشة إلا ليعقوب! أيُعقل ؟
بعد ستة عشر عامًا ... يعود؟
بعد كل تلك الفوضى ... يعود؟
بعدما ترك خلفه الدنيا كلها ... يعود؟
بعدما ظن الجميع أن الأرض لفظته، والسماء جذبته، والبحر ابتلعه ... يعود؟
بعدما كرّس ناصر حياته للبحث عنه وأضاع عمره لهذه الغاية، وما أن بدأ يتناساها ... يعود؟
" يُبــه! "
لوهلة شعر نجد بأنه كان يصرخ من رعشة والده الذي قفز بخوف وعيناه جاحظة! مالذي يحدث؟
والده يلهث بسرعة وها هو ينقض عليه ليحتضنه بشدة آلمته، وكأنه يخشى بأن ينسل من بين يديه ويغوص تحت تربة القبور!
" يُبـــــــه ! "
صوت نجد المتألم جعل ياسر يبتعد قليلًا عنه والدهشة/ الخوف لا يزالان يتربعان على عينيه، ازدرق ريقه ليمحي الجفاف الذي أصابه وها هو يعتدل بوقفته وبخطى سريعة يسحب نجد معه بقوة وسرعة .. يخرجان من المقبرة لتسقط أنظارهما على السيارة الزرقاء التي خطّت مسرعة وكأنها تعكس اضطراب سائقها.
طُبعت لوحة السيارة في ذهنه بتلقائية، وها هو يسحب نجد معه ليدخلان سيارته، يقود بسرعة متتبعًا السيارة الزرقاء ..
خيط الذكريات ينسل من ذاكرته، لتتساقط الصور واحدةً تلو الأخرى ...
" ملعب المدرسة القديمة، وطفلان صغيران يركضان فيه بلا هوادة .. وعلى الجدار يقف طفلان آخران يترقبان بلا ملل، صراخ مزلزل، يركض اللاعبان لتتلقفهما يدا الآخرَين .. وتتشابك ثمانية أيادي مكونين حلقة قفز معًا .. أربعة لا خامس لهم"

حادي العيسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن